الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/07/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول / القطع / حجية الإطمئنان

كان الكلام في الإطمئنان ، وقلنا أنّ الإطمئنان هل حاله حالُ العلم من حيث كون حُجيَّته ذاتية أو أنَّ حُجيتَّه تحتاج الى جعل جاعل ، هذا البحث بعد الفراغ عن أنَّ الإطمئنان حجة سواء قلنا انَّ حجيته ذاتية أو قلنا إنها مجعولة ، إما إذا كانت ذاتية فلا تحتاج الى الإستدلال ،كما أننا لا نحتاج في إثبات حُجيَّة العلم الى دليل كذلك لا نحتاج في إثبات حُجيَّة الإطمئنان الى دليل ، وإما إذا كانت حُجيَّته بجعل جاعل فأيضاً لا إشكال في ثبوتها لما ذكرناه من إنعقاد سيرة العقلاء على العمل بالإطمئنان ، إذا لا إشكال في أنَّ العقلاء يَعملون بالإطمئنان في أمورهم الخاصة، بل حتى في المجال الشرعي ، فَجرتْ سيرة العقلاء على العمل به ، وذكرنا في الدرس السابق ما هي المؤشرات والشواهد على قيام السيرة على العمل بالإطمئنان ، ويمكن إثبات إمضاء الشارع ورضاه بالعمل بالإطمئنان وإستكشاف ذلك من سكوته وعدم ردعه عن هذا العمل ، بإعتبار أنَّ السيرة ممتدة الى المجال الشرعي وهو يعني أنَّ العقلاء يعتمدون على الإطمئنان لإثبات الأحكام الشرعية ، أو لا أقل من أنَّ هذه السيرة في مَعرَض الإمتداد الى المجال لشرعي ، فلو فرضنا أنَّ الشارع لا يرضى بإثبات تشريعاته وأحكامه بالإطمئنان لكان اللازم الردع عن هذا العمل ، لأنَّ عدم الردع يُعَرض أغراض الشارع للخطر ، وحيث أنه لم يردع ولم يصلنا الردع عن العمل بالإطمئنان فيقال نستكشف من سكوت الشارع وعدم ردعه رضاه بذلك ، وعليه فالشارع يرضى بالإعتماد على الإطمئنان في إثبات أحكامه الشرعية فتثبت الحُجيَّة للإطمئنان شرعاً .

والغرض من ذلك هو بيان أنَّ حُجيَّة الإطمئنان قضية مُسلَّمة لا مجال للترددِ فيها سواءً قلنا أنَّ حُجيَّته ذاتية أو قلنا أنها مجعولة من جاعلٍ ، وحيث إستكشفنا إمضاء الشارع لسيرة العقلاء فهو حُجة عند الشارع أيضاً .

نعم قد يًقال أنَّ البحث في أنَّ حُجية الإطمئنان هل ذاتية أو مجعولة له ثمرة تظهر في عدم إمكان الردع عن العمل به بناءً على كونها ذاتية كما هو الحال في العلم ، بخلاف ما إذا كانت مجعولةً فحينئذٍ تكون كالظن و يمكن الردع عن العمل به.

لكن نقول هذه ليست ثمرة عملية ، قد تكون هناك ثمرة علمية في البحث في أن حُجيَّته ذاتية أو مجعولة لكن من ناحية عملية نستطيع أن نقول إنَّ الشارع لم يردع عن العمل بالإطمئنان ، وصحيح ما قيل من انها إذا كانت مجعولة أمكن الردع ، لكن هذا الردع لم يتحقق في الخارج فلا فرق بين أن تكون حُجيَّة الإطمئنان ذاتية أو تكون مجعولة فعلى كلا التقديرين لا يوجد ردعٌ من قِبل الشارع عن العمل بالإطمئنان ، أما إذا كانت ذاتية فلعدم إمكان الردع كما هو الحال في العلم ، وأما إذا كانت مجعولة فلعدم صدور الردع منه ، فعلى كِلا التقديرين لا ردعَ عن العمل بالإطمئنان.

ما هو الدليل على أنه لا ردعً عن العمل بالإطمئنان ؟

فقد يُقال أنه يكفي في الردع عن العمل بالإطمئنان الأدلة الناهية عن العمل بغيرِ العلم ، فكلُ الأدلة الناهية عن العمل بغير العلم من الآيات و الروايات فإنها بإطلاقها شاملة للإطمئنان فإنه ليس علماً ، فتكون رادعة عن العمل به ، فحينئذٍ تظهر الثمرة فإن قلنا أنَّ حُجيَّته ذاتية فيستحيل الردع عنه ، فلابد من صرف هذه الأدلة الى غيره من أقسام عدم العلم كالظن وإلاحتمال ، وإن قلنا أن حُجيَّته مجعولة فيثبت الردع عنه في الخارج بهذه الادلة الناهية عن العمل بغير العلم الشاملة للإطمئنان ، هذا غاية ما يمكن أن يُقال.

لكنك خبير أنَّ هذه الأدلة لا تصلح أن تكون رادعة عن العمل بالإطمئنان ، وذلك لإنعقاد سيرة المتشرعة وأصحاب الأئمة عليهم السلام على العمل بالإطمئنان في المجال الشرعي ، فلا إشكال في عمل أصحاب الأئمة على العمل بالإطمئنان في مجال الأحكام مع أنَّ الآيات والروايات النهاية عن العمل بغير العلم بمرأى ومسمعٍ منهم ، وهذا يكشف كشفاً واضحاً قطعياً عن أنَّ هذه الآيات والروايات لا تَصلح للردع عن العمل بالإطمئنان ، ولو كانت رادعة لما عَمِل به المتشرعة ، ولا يوجد شيء آخر يمكن أن يقال أنه رادعٌ عن العمل بالإطمئنان غير هذه الأدلة وقد عرفتَ أنها لا تصلح للردع عن العمل بالإطمئنان.

فإذن نستطيع أن نقول بضرس قاطع أنَّ الشارع لم يردع عن العمل بالإطمئنان ، وأن أصحاب الأئمة عليهم السلام كانوا يعملون به ، بل يعملون بخبر الثقة وهو أقل مرتبة من الإطمئنان ، ".. أفيونس بن عبد الرحمن ثقة ، آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني ؟ فقال : نعم. " وواضح أنَّ القضية مفروغٌ عنها والسؤال عن الصغرى وأنَّ يونس ثقة أو غير ثقة ، أما الكبرى وهي جواز العمل بخبر الثقة فمفروغٌ عنها عندهم ، وإذا كانوا يعملون بخبر الثقة فمن الأولى أن يعملوا بالإطمئنان.

وعليه فالصحيح أنَّ الشارع لم يردع عن العمل بالإطمئنان ، ومن هنا نقول لا ثمرة عملية تترتب على البحث في انَّ حُجيَّة الإطمئنان ذاتية أو مجعولة ، فعلى كلا التقديرين الشارع لم يردع عنه ، إما لعدم إمكان الردع إذا قلنا بأنَّ حجيته ذاتية ، وإما لعدم صدوره منه وإن كان ممكناً إذا قلنا بأن حُجيَّته مجعولة.

النتيجة التي نصل إليها هي إن الإطمئنان لا إشكال في حُجيَّته على كلا التقديرين في المسألة ، والدليل على حُجيته على تقدير أن تكون مجعولة وهو سيرة العقلاء وسيرة أصحاب الأئمة وسيرة المتشرعة في زمان الأئمة عليهم السلام ، غاية الأمر أنَّ إستكشاف رضى الشارع إذا كان من سيرة العقلاء فبما تقدم من دلالة سكوته على رضاه ، وأما إذا كانت السيرة هي سيرة المتشرعة وأصحاب الأئمة عليهم السلام وأنهم يعملون بالإطمئنان في المجال الشرعي فهذا بنفسه يكشف كشف المعلول عن علته عن موافقة و رضى الإمام بذلك لأنَّ المتشرعة لا يعملون في المجال الشرعي إلا إذا كان الإمام و الشارع راضياً بذلك ، هذا تمام الكلام في الإطمئنان.

وقبل الإنتقال الى مبحث التجري نَفي بوعدنا الذي وعدناكم به ، وهو أننا نتكلم عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ومسلك حق الطاعة ، هذان المسلكان المعروفان في مقام تحديد ما يحكم به العقل تجاه التكاليف المحتملة بقطع النظر عن الأدلة الشرعية ، فهل يَرى العقل أنَّ إحتمال التكليف مُنجِّزٌ أو لا ، وهنا مسلكان :

المسلك الأول هو المسلك المعروف والمشهور هو أنَّ إحتمال التكليف ليس مُنجِّزاً ، التكليف المحتمل إذا لم يَتم عليه البيان _ أي لم يصل الى المكلف بحجة _ فلا يكون هذا الإحتمال منجزاً للتكليف ، وعبروا عن ذلك بقُبح العقاب بلا بيان ، ومقصودهم من البيان القطع وما يلحق به من الحُجة ، فمع عدم الحُجة على التكليف فإحتمال التكليف لا يُنَجِّزُ التكليف بل يكون العقاب على ذلك التكليف _ لو كان ثابتاً في الواقع _ قبيحاً لا يصدر منه تعالى ، فيكون المكلف في أمنٍ من ذلك التكليف المحتمل ، بمعنى أنه لو خالفه لا عقاب عليه ، بل يكون قبيحاً ومستحيلاً.

المسلك الآخر يقول إنَّ إحتمال التكليف مُنجِّز للتكليف كالعلم بالتكليف فإنه يُنجز ذلك التكليف ، وهذا الرأي يُعبَر عنه بمسلك حق الطاعة.

والبحث يكون في جملة من الأمور :

الأمر الأول : في بيان الإعتراضات الواردة على قاعدة قُبح العقاب بلا بيان والإعتراضات الواردة على مسلك حق الطاعة .

أما قاعدة قُبح العقاب بلا بيان فأهم الإعترضات عليها هو أنَّ هذه القاعدة محكومة بقاعدة عقلية أخرى وهي حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فهذا الحكم العقلي يكون حاكماً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بمعنى أنه يكون رافعاً لموضوعها فيكون حاكماً ومُقَدماً عليها ، فلا تجري القاعدة في الموارد التي يجري فيها هذا الحُكم العقلي ، وتوضيح ذلك :

أنَّ قاعدة قُبح العقاب بلا بيان موضوعها هو إحتمال التكليف مع عدم البيان ، وحكم العقل بوجوب دفعٍ الضرر المحتمل بيانٌ ، ومن هنا يُقال أنه حاكمٌ على قاعدة قُبح العقاب بلا بيان ، فإن موضوع القاعدة عدمُ البيان ، وحكمُ العقل بيانٌ ، وهذا البيان يكون رافعاً لعدم البيان الذي هو موضوع القاعدة فيكون حاكماً عليها.

فكما أنّ القاعدة يرتفع موضوعها عندما يَدلُّ الدليل المعتبر على التكليف ، فعدم البيان يتبدل حينئذٍ بالبيان فكذلك إذا حَكمَ العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل فهذا أيضاً يكون بياناً على التكليف فيرفع موضع القاعدة ، فوجوب دفع الضرر المحتمل يقول أنَّ إحتمال الضرر يجب دفعه ، وإحتمال الضرر في محل الكلام ينشأ من إحتمال التكليف ، لأن من يحتمل التكليف يحتمل الضرر بمخالفته ، والحكم العقلي يقول يجب دفع هذا الضرر المحتمل وهو يعني وجوب مراعاة التكليف المحتمل ، لأنَّ الدفع الضرر الناشئ من إحتمال التكليف يكون بإمتثال التكليف والإعتناء به ، من هنا يُقال إن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيانٌ على التكليف ، هو كما إذا قامت الأمارة المعتبرة على التكليف فإنها تكون بياناً وتكون رافعةً لموضوع القاعدة فالحكم العقلي يكون بياناً كذلك ، غاية الأمر أنه ليس بياناً للتكليف بشخصه وعنوانه ، لكنه يقول يجب على المكلف أن يعتني بالتكليف المحتمل ، وأن يمتثله لأجل أن يدفع عنه الضرر والعقاب المحتمل ، فيكون الحكم العقلي بياناً ويكون رافعاً لموضوع القاعدة ويكون مقدماً عليها.

والنتيجة هي أن َّالقاعدة تكون دائماً محكومةً لهذا الحكم العقلي بوجوب دفع الصرر المحتمل ، وهذا لعله من أهم الإيرادات التي أوردت على القاعدة.

والجواب عن هذا الإيراد هو أنَّ جريان هذا الحكم العقلي وكونه بياناً ورافعاً لموضوع القاعدة لا يتم إلا على وجه دائر ، بمعنى أنَّ كونه بياناً رافعاً لموضوع القاعدة يلزم منه الدور فيكون محالاً ، توضيحه ذلك :

أنَّ هذا الحكم العقلي موضوعه إحتمال الضرر ، فيكون الحكم العقلي بوجوب الدفع متوقفاً على إحتمال الضرر توقف كل حكم على موضوعه ، فالحكم بوجوب الدفع متوقف على إحتمال الضرر.

وإحتمال الضرر يتوقف على عدم جريان قاعدة قُبح العقاب بلا بيان ، إذ مع جريانها لا يحتمل الضرر لأنَّ المقصود بالضرر في المقام هو العقاب ، ومع جريان القاعدة يرتفع إحتمال العقاب وإحتمال الضرر ، لأن القاعدة تقول يستحيل العقاب فمع جريانها لا يوجد إحتمال للضرر ، فإحتمال الضرر موقوف على عدم جريان القاعدة.

وعدم جريان القاعدة موقوف على جريان الحكم العقلي ، لأنه لو لم يجرِ الحكم العقلي فالعقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، وعدم جريانها يتوقف على أن يحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، وبذلك يلزم الدور ، لأن جريان الحكم العقلي الموقوف على إحتمال الضرر الموقوف على عدم جريان القاعدة وعدم جريان القاعدة موقوف على جريان الحكم العقلي ، فيكون جريان الحكم العقلي موقوف على نفسه ، وهذا دورٌ صريح.

والحاصل : أنَّ جريان هذا الحكم العقلي في المقام يلزم منه الدور لأنه فرعُ إحتمال الضرر وهو _ أي إحتمال الضرر_ فرعُ عدم جريان القاعدة وإلا لما كان الضرر محتملاً _ لأن القاعدة تقول الضرر وهو العقاب مع عدم البيان قبيح محال _ وهو _ أي عدم جريان القاعدة _ فرعُ جريان الحكم العقلي وكونه بياناً فيلزم الدور ، لأن جريان هذا الحكم العقلي وكونه بياناً يكون موقوفاً على نفسه فيلزم الدور ، هذا هو جواب هذا الإيراد.

قد يقول قائل لمَ لا نعكس بأن نقول جريان القاعدة يلزم منه الدور ، لا ان جريان الحكم العقلي وكونه بياناً يلزم منه الدور ، فيستحيل جريانها ، ولزوم الدور من جريانها بإعتبار أن جريانها موقوف على موضوعها وهو عدم البيان ، وعدم البيان موقوف على عدم جريان الحكم العقلي و إلا _ لو جرى _ لكانَ بياناً ، وعدم جريان الحكم العقلي موقوف على جريان القاعدة ، فإنها إذا جرت وأمنت من ناحية الضرر فحينئذِ ينتفي إحتمال الضرر ، فيرتفع الحكم العقلي لإرتفاع موضوعه وهو إحتمال الضرر.

إذن عدم جريان الحكم العقلي موقوفٌ على جريان القاعدة ، فيلزم الدور

جريان القاعدة موقوف على عدم البيان توقف كل حكم على موضوعه ، وعدم البيان موقوف على عدم جريان الحكم العقلي ، وعدم جريان الحكم العقلي موقوفٌ على جريان القاعدة ، فيكون جريان القاعدة موقوفاً على نفسه وهذا دورٌ صريح فأيُ فرقٍ بينهما ؟