الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/07/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: القطع / حُجيَّة القطع / إمكان الردع عن القطع

تَبيَّن من جميع ما تقدم أنَّ هناك فرق بين مُنجزية القطع وبين مُعذريته ، ويكمن هذا الفرق في أنَّ مُنجزيةَ القطع مٌنجزية تعليقية بمعنى أنها مُعلَّقة على عدم ورود الترخيص من الشارع على ما تقدم ، وأما مُعذرية القطع بعدم التكليف فالحكم العقلي فيها حكمٌ تنجيزي و ليس مُعلقاً على شيء ، وبناءً عليه قُلنا إنَّ الدليل على إستحالة الردع عن القطع _ بجعل الحكم الظاهري المخالف للمقطوع به _ سوف يختلف ففي موارد القطع بعدم التكليف _ موارد المعذرية _ يكون الدليل هو منافاة ما يتحقق به هذا الردع مع حُكم العقل بالمعذرية التنجيزية ، لأنَّ ما يتحقق به الردع هو جَعل الإلزام الظاهري _جعل الإحتياط _ وهو حكمٌ ظاهري ، والدليل على إستحالة جعل الإلزام الظاهري وبالتالي إستحالة الردع عن العمل بالقطع في موارد القطع بعدم التكليف وهو منافاته مع حكم العقل بالمعذرية التنجيزية ، هذا بالنسبة الى المعذرية.

وأما في جانب المنجزية فالدليل على إستحالة العمل بالقطع بالتكليف ليس هو منافاته لحكمِ العقل بالمنجزية لأنها مَنجزية تعليقية ، فاذا جاءَ الترخيص الظاهري من قِبَل الشارع فحينئذٍ لا يبقى موضوعٌ لحكم العقل حتى يكون الترخيص الظاهري منافياً له ومصطدماً معه ، وإنما الدليل هو أنَّ هذا الرخيص لا فائدة له ، ولا يكون مؤثراً في المكلف القاطع بالتكليف ، ولا يُصَدِّق جعله في حقه ، ويرى أنَّ المقصود به هو من إختلطت عليه الملاكات.

هذا كله بناءً على تفسير الحكم الظاهري بما ذكره السيد الأستاذ قدس الله نفسه الزكية ، إما إذا قلنا أنَّ الحكم الظاهري يَنشأ من مِلاك في مُتعلقه نظير الأحكام الواقعية ، فكما أن الأحكام الواقعية تنشأ من مِلاكات في متعلقاتها فكذلك الأحكام الظاهرية ، فبناءً على هذا الرأي تكون إستحالة جَعل الحكم الظاهري _ الذي يكون به الردع عن العمل بالقطع _ سواءً في جانب المنجزية أو المعذرية أوضح ، بإعتبار أنَّ الحكم الظاهري ينشأ من مِلاك في متعلقه والمفروض أنَّ هذا المتعلَّق فيه مِلاك الحكم الواقعي فيلزم التضاد بنظر القاطع على الأقل ، وإما إن كان نظره مطابقاً للواقع فهذا يعني أنَّ هذا المتعلق فيه مِلاكُ الحكم الواقعي _كالوجوب مثلاً _ فكيفَ يكون فيه مِلاك الترخيص الظاهري ، هذا تضاد غير معقول.

وأما بناءً على رأي ثالث في المسألة وهو أنَّ الأحكام الظاهرية تنشأ من مِلاكات تَكمُن في نفس جعلها ، فنفس الجعل فيه مِلاك الحكم الظاهري فهل يرفع المحذور ، بمعنى هل يمكن بناءً على هذا جعلُ حكم ظاهري مُنافٍ للحكم المقطوع به ، وهل يكون محالاً أو أنَّ الإستحالة ترتفع بناءً على هذا الراي ؟

قد يُقال إنَّ هذا الرأي يرفع المحذور وبالتالي يُقال بإمكان جعل الترخيص الظاهري في موارد القطع بالتكليف ، وذلك بإعتبار عدم لزوم محذور إجتماع الضدين لتعدد المورد ، فمبادئ الحكم الواقعي ومِلاكه في المتعلَّق ومبادئ الحكم الظاهري ومِلاكه في نفس جَعله بحسب الفرض ، فلم يجتمع الضدان في شيء واحد بلحاظ عالم المبادئ ، وهذا إنما يلزم إذا قلنا أن الأحكام الظاهرية تنشأ من مِلاك ومبادئ في نفس المتعلَّق ، وأما إذا كان الحكمُ الظاهري ينشأ من مبادئ في نفس جعله فلا يلزم إجتماع الضدين.

كما أنه لا يلزم التضاد ولا نقض الغرض لأنَّ حكمَ العقل بمنجزية القطع بالتكليف حكمٌ تعليقي مُعلَّق على عدم ورود الترخيص الشرعي فإذا وَرَدَ الترخيص إرتفع موضوع حكم العقل فلا يصطدم معه ، وكذا المحركية معلقة على عدم ورود الترخيص ، ومع وروده فلا منجزية ولا محركية ، فلا يلزم لا التضاد ولا إجتماع الضدين ولا نقض الغرض ، إذن لا مانع من جَعل الترخيص في موارد القطع بالتكليف إذا قلنا ان الأحكام الظاهرية تنشأ من مِلاكات في نفس جَعلها.

في المقابل قد يقال بإستحالة جعل الترخيص الظاهري في مواردِ القطع بالتكليف بناء على تفسير الحكم الظاهري بهذا التفسير _ أنَّ مِلاك الحكم الظاهري في نفس جَعله _ ووجهه هو أنَّ الأحكام الظاهرية _مهما قيل في حقيقتها _ الغرض منها التأمين و التعذير عند القطع بالتكليف و دفع المكلف الى ترك العمل بقطعه ، فإذا كان هذا هو الغرض منه فلا يمكن جعله بحق القاطع أيضاً لأن القاطع لا يرى نفسه مشمولاً بهذا الترخيص ، فلا أثر لجعل هذا الترخيص حتى إذا قلنا بأن مِلاك جَعل الحكم الظاهري في نفس جعله ، هذا هو وجه عدم الإمكان و ذاك هو وجه الإمكان.

الصحيح في المقام هو الأول _ أي الإمكان _ بناءً على هذه التفسير ، لأنَّ المحذور الذي على أساسه إنتهينا الى الإستحالة هو محذور اللغوية وأنه لا يؤثر في القاطع شيئاً ، ولكن هذا المحذور مبني على تفسير السيد الشهيد للأحكام الظاهرية من أنها خطابات تُبرز ما يهتم به المولى من المِلاكات الواقعية عندما يقع التزاحم فيما بينها في مقام الحفظ ، فيجعل البراءة عندما يكون مِلاك الإباحة هم بنظره من مِلاك الإلزام فيقول " رُفع ما عن أمتي ما لا يعلمون " و "كل شيء لكَ حلال" ، ويجعل الإحتياط إذا كانت مِلاكات الأحكام الإلزامية أهم بنظره ، بناءً على هذا قلنا بإستحالة جعل الترخيص الظاهري في موارد القطع بالتكليف ، بإعتبار عدم ترتب الأثر لهذا الترخيص الظاهري وأن القاطع لا يرى نفسه مشمولاً به.

وأما إذا قلنا أنَّ الأحكام الظاهرية تنشأ من مَلاكات في نفس جعلها ولم نبنِ على ما قاله السيد الشهيد فيبدو أنه لا مانع من جَعل الترخيص في موارد القطع بالتكليف ولا محذور في ذلك ، فلا يلزم محذور اللغوية إذا بنينا على أنَّ الحكم الظاهري ناشئ من ملاك في نفس جعله ، ولنفرض أنها مصلحة إظهار أنَّ الإسلام دين يُسر لا دين عُسر، ﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ﴾ البقرة : 185 ، فجُعلَ الترخيص لإظهار هذا المعنى ، فعلى هذا الوجه يشمل الترخيص القاطع بالتكليف أيضاً ، ويُصَدِّق القاطع به إذا إلتفت الى ذلك ، فلا مانع مَبدئياً من القول بإمكان جَعل الترخيص في موارد القطع بالتكليف بناءً على هذا الرأي في تفسير الأحكام الظاهرية.