42/06/27
الموضوع / القطع / حُجيَّة القطع / جانب المعذرية في القطع
إنتهينا الى أنَّ جَعَلَ الترخيص الظاهري في مورد القطع بالتكليف غير معقول ، لا لأنَّ حكم العقل بمنجزية القطع حكمٌ تنجيزي بل هو تعليقيٌ دائماً ، وإنما بإعتبار عدم الأثر له ، فإنَّ الغرض من جعل الترخيص إنما هو التأمين من ناحية التكليف المقطوع به ، وهذا الترخيص المجعول في مورد القطع لا يُحقق هذا الغرض ، لأنَّ القاطع بالتكليف يرى أنه غير مشمولٍ بهذا الترخيص ، فإنَّ الترخيص مجعولٌ بناءً على النظرية المتقدمة في تفسير الأحكام الظاهرية وهي جعل الحكم في موارد إشتباه الحلال بالحرام وإختلاطهما فيجعل الحكم لحفظ الملاكات الواقعية الأهم بنظر المولى ، والقاطع بالتكليف لا يرى الإختلاط ولا الإشتباه ، فيرى أنَّ الحكم الظاهري مجعولٌ لغيره ممن إشتبه وإختلط عليه الأمر ، ولذا لا يكون جعله مؤثراً بالنسبة للقاطع بالتكليف.
وبعبارة أخرى إنَّ محذور جعل الترخيص في حق القاطع بالتكليف هو اللغوية وعدم ترتب الأثر ، ولذا لا يكون معقولاً.
هذا هو برهان عدم إمكان جعل هذا الترخيص الظاهري الطريقي ، وأما إذا كان الترخيص حُكماً نفسياً ناشئاً من مِلاك في المتعلق فحينئذٍ عدم معقولية جعله تكون أوضح ، إذ يلزم منه إجتماع الضدين إما واقعاً وإما في نظر القاطع ، فالبرهان قائم على إستحالة جعل الترخيص في موارد القطع بالتكليف سواءً كان ترخيصاً نفسياً أم طريقياً ظاهرياً .
ومن هنا يظهر الفرق بين جعل الترخيص في موارد القطع بالتكليف وبين جعله في موارد الظن أو إحتمال التكليف ، فجعل الترخيص النفسي في مورد القطع بالتكليف وإن كان محالاً للزوم إجتماع الضدين إما واقعاً على تقدير الإصابة وإما في نظر القطع على تقدير عدم الإصابة ، لكن جعل الترخيص الظاهري في تلك الموارد لا محذور منه ، لأنَّ محذور اللغوية وعدم ترتب الأثر لا يأتي في موارد الظن وإحتمال التكليف فجَعلُه له أثر وهو تأمين المكلف ، والظان بالتكليف يحتمل الخطأ بخلاف القاطع به ، فيُصَّدِّق الظان بجعل الترخيص بالنسبة له ويتشبث به لو جُعِل كمؤمن له ويخالف الواقع على تقدير عدم إصابة الواقع .
المطلب الآخر الذي أحببنا التعرض له هو أن القَدر المتيقن من هذا الكلام هو المنجزية ، وهي كما تقدم منجزية تعليقية معلَّقة على عدم ورود الترخيص من قبل الشارع ، وقد إستدللنا عليها سابقاً وقلنا أنَّ المنجزية التي يحكم بها العقل هي فرعُ مولوية المولى وثبوت حق الطاعة له ، فإذا قَطَعَ العبدُ بتكليف هذا المولى حَكَمَ العقل بمنجزية ذلك التكليف ، وهي تعني إستحقاق العقاب على المخالفة على تقدير الإصابة ، ولأن هذه المنجزية متفرعة على ثبوت حق الطاعة للمولى قلنا أنها لا تثبت في الموارد التي يُرخص نفس صاحب الحق في مخالفتها وحينئذٍ لا يحكم العقل بالمنجزية .
ومنه يظهر أَّن هذه المنجزية الثابتة بحكم العقل منجزية تعليقية ، مُعلَّقة على عدم ورود الترخيص من قبل المولى ، فإذا ورد الترخيص من قِبَلِهِ يرتفعُ موضوع المنجزية ولا تبقى منجزية يحكم بها العقل .
والسؤال الذي نطرحه هو أنَّ المعذرية _ وهي الجانب الآخر من الحُجيَّة _ هل هي تعليقية كالمنجزية أو أنَّ حُكمَ العقل بالمعذرية حكم تنجيزي غير معلَّق على ورود حكمٍ ظاهري مخالف لما قطعَ به المكلف من قبل الشارع ؟
والمعذرية تَثبت عندما يَقطع العبدُ بعدم التكليف ، فعندما يقطع بالترخيص يحكم العقل بأنَّ هذا القطع مُعذِّر للمكلف ، ومعنى مُعذِّر أنَّ المكلف إذا عَمِل بالترخيص الذي قَطَعَ به وصادف ثبوت التكليف الإلزامي في الواقع يكون قطعه بالترخيص مَعذرٌ له فلا يستحق العقاب إذا قطع بعدم التكليف أو قطع بالترخيص ، لأن قطعَهُ بالترخيص وبعدم التكليف يكون عُذراً له في مخالفة الإلزام الثابت في الواقع .
وهذه المعذرية الثابتة بحكم العقل في موارد القطع بالترخيص أو القطع بعدم التكليف هل هو حكم تنجيزي أو هو حكم تعليقي مُعلق على عدم ورود حُكم ظاهري من قبل الشارع يخالف ما قطع به المكلف ؟
فإذا قطعَ المكلف بالترخيص والشارع إذا أراد نهيه عن قطعه فيجعل الإحتياط _عكس صورة المنجزية اذا قطع المكلف بالتكليف فإن الشارع إذا أراد ردعه عن القطع يجعل البراءة _ فهل الحكم العقلي بالمعذرية حكم تنجيزي أم هو حكم تعليقي ؟
ونفس الثمرة العملية المترتبة على هذين الرأيين _ تنجيز الحكم العقلي وتعليقه_ تترتب في المقام ، فيقال إذا كان حكم العقل بالمعذرية حكماً تنجيزياً فالحكم الطاهري الذي يجعله الشارع للردع عن القطع بعدم التكليف يكون منافياً ومعارضاً لهذا الحكم العقلي ، لأنه حكمٌ تنجزيٌ ثابت غير مُعلَّق على شيء ، وأما إذا كان حكماً تعليقياً معلقٌ على عدم ورود ما يُلزم بالعمل وينهى المكلف عن العمل بالترخيص الذي قطع به ، فإذا ورد ذلك فحينئذٍ لا يحكم العقل بالمعذرية ، فالمعذرية هل هي كالمنجزية معلقة على عدم ورود حُكم مخالف من قِبل الشارع أم هي حكم تنجزي ؟
الرأي الذي يُطرح في المقام هو أنَّ حُكم العقل بالمعذرية حكم تنجيزي بخلاف حكمه بالمنجزية ، ويُستدل لذلك بهذا الدليل :
إنَّ حكم العقل بالمنجزية متفرع على حق الطاعة للمولى ، فإذا تنازل صاحب الحق عن حقه فلا يبقى حكم للعقل بالمنجزية فيكون حكم العقل بالمنجزية مُعلقاً على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ، لكن هذا البرهان الذي إقتضى حكم العقل التعليقي في جانب المنجزية لا يَرِد في جانب المعذرية ، لأن حكم بالمعذرية لا يتفرع على حق الطاعة ، فإن حق الطاعة لا يَثبت في موارد القطع بعدم التكليف كما تقدم ، وليس هذا تحديداً لمولوية المولى وتحديد حق الطاعة له ، وإنما لأنَّ حق الطاعة لا معنى له في موارد القطع بعدم التكليف ، وإذا قلنا بثبوت الحق فيها فهذا يعني أنَّ القطع بعدم التكليف ليس عذراً وهو يعني إلغاء جانب المعذرية في القطع وهو خُلف ما فرغنا عنا ، إذن الحكم بالمعذرية في موارد القطع بالتكليف ليس مُتفرعاً على حق الطاعة ، بل لا معنى للقول بأنه مُتفرعٌ على حق الطاعة ، فإن ذلك يعني أن المكلف إذا قطع بعدم التكليف فقطعه ليس معذراً له لأنَّ المولى له حق الطاعة ! هذا هو معنى التَّفَرع على حق الطاعة.
نعم في موارد الظن بعدم التكليف أو إحتمال عدم التكليف يكون هذا الظن مُعذراً ، أما في موارد القطع بعدم التكليف فلا معنى للقول بأنه متفرع على حق الطاعة ، نعم هو في جانب المنجزية معقول وعلى أساسه قلنا أنَّ حُكم العقل بالمنجزية تعليقي ، وإنما المعذرية تكون ثابتة بمِلاكات أخرى لا بمِلاك ثبوت حق الطاعة للمولى .
ومن هنا يمكن أن يُقال بأنَّ حكم العقل بالمعذرية ليس حكماً تعليقياً ، لأن الدليل الذي إقتضى الحكم بالتعليق في جانب التنجيز لا يقتضيه في جانب التعذير .
فإذن لأمرين نقول أنَّ جانب المعذرية غير متفرع على حق الطاعة للمولى :
الأول : أن حق الطاعة غير ثابت في موارد القطع بعدم التكليف .
الثاني : أننا لا نتصور معنى معقول لهذا التفريع .
فمن هنا يظهر أنَّ حُكمَ العقل بالمعذرية يكون تنجيزياً ، أو أنَّ البرهان الذي إقتضى التعليق في جانب المنجزية لا يجري في جانب المعذرية ، وحيث لا برهان آخر يثبت كونه تعليقياً يُحكَم بكونه تنجيزياً .
وعلى هذا الأساس لابد من التفريق بين حكم العقل بمنجزية القطع فيكون حُكماً تعليقياً وبين حُكم العقل بمعذرية القطع بعدم التكليف فيكون حُكماً تنجيزياً .
وبناءً على هذا يكون الدليل على إستحالة جعل الترخيص الظاهري في موارد القطع بالتكليف هو اللغوية وعدم ترتب الأثر على جعله في موارد القطع بالتكليف ، ويكون الدليل على إستحالة جعل الحكم الظاهري المخالف لما يقطع به المكلف في موارد القطع بالترخيص أو القطع بعدم التكليف _ وهو الإحتياط الظاهري _ هو كونه مضاداً ومنافياً لحكم العقل بالمعذرية لأنه حُكم ٌتنجيزي لا تعليقي كما تقدم ، فيختلف برهان الإستحالة في كِلا الموردين.
وتَلَخَّص من جميع ذلك أنه بناءً على التفريق المتقدم بين منجزية القطع بالتكليف وبين معذرية القطع بعدمه ، وأن المنجزية تعليقية دون المعذرية فسوف يختلف الدليل في إستحالة الردع عن القطع بجعل الحكم المخالف للمقطوع به ، ففي موارد القطع بعدم التكليف _ أي موارد المعذرية _ فالدليل هو منافاة الإلزام الظاهري الطريقي _ الإحتياط _ للمعذرية التنجيزية ، في حين أنَّ الدليل على الإستحالة في موارد الحكم بالمنجزية هو لزوم اللغوية وعدم ترتب الأثر والفائدة
هذا كله إذا فَسَّرنا الأحكام الظاهرية الطريقية بما تقدم عن السيد الشهيد قده ، وهو أنَّها لا تنشأ من مِلاكات في أنفُسها وإنما مِلاكاتها هي نفس مِلاكات الأحكام الواقعية المشتبهة والتي تتزاحم في مقام الحفظ ، وأما إذا قلنا بما هو المعروف من انَّ الأحكام الظاهرية تنشأ في مِلاكات في المتعلقات فالإستحالة تكون واضحة لأنَّ الحكمَ الظاهري نشأ من ملاك في المتعلق والحال أنَّ له مِلاك آخر يُضاد مِلاك الحكم الظاهري ، فلو كان المكلف مُصيباً في قطعه بالوجوب _ الناشئ من مصلحة مُلزمة في المتعلق _ وحَكَمَ الشارع بالإباحة الظاهرية وكانت ناشئة من مصلحة في المتعلق ، فملاك الوجوب يضاد ملاك الإباحة فيلزم إجتماع الضدين بلحاظ عالم المبادئ ، وهو محال ، بل كل البراهين السابقة تأتي إذا فَرضنا أنَّ المصلحة والملاك تكون في المتعلَّق ، وأما إذا قلنا أنَّ الحكم الظاهري ينشأ من مِلاكٍ في نفس جَعله _ وهو أحد الآراء فيه ويختلف عن التفسيرين السابقين _ كأن نفترض أنَّ مِلاكه لبيان أنَّ الأحكام الشرعية مجعولة للتيسير وأنَّ الدينَ دينُ يُسرٍ لا عُسر ، فبمجرد جعل الحكم الظاهري يتحقق هذا المِلاك ، فهل يأتي الكلام السابق بلحاظ إمكان الردع وجعل حكم ظاهري مخالف لما يقطع به المكلف أو لا ؟ يأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى .