42/06/26
الموضوع: القطع / حُجيَّة القطع / إمكان الردع عن القطع
لا زال الكلام في إمكان الردع عن القطع بتكليف المولى ، وتبين مما تقدم أن الوجوه التي اُستدل بها مخدوشة ، ولكن لا يعني هذا أننا نلتزم بإمكان الردع عن القطع بالتكليف ، وذكرنا في الدرس السابق أنه يمكن أن يقال في مقام الإستدلال على عدم إمكان الردع أنَّ الترخيص الذي فُرضَ تحقق الردع به إن كان ترخيصاً نفسياً حاله حال التكليف المقطوع به فيمكن الإستدلال على عدم الإمكان بلزوم إجتماع الضدين بلحاظ عالم المبادئ ، وإن كان ترخيصاً ظاهرياً طريقياً فهل نتصور إمكان جعله أو لا يمكن ؟
فقد يقال أنه ممكن وبه يتحقق الردع عن العمل بالقطع ، وتقريب هذه الدعوى يكون عن طريق دعوى أنَّ الأحكام الظاهرية الطريقية لا تنشأ من مِلاكات في المتعلق وإنما تجعل للحفاظ على مِلاكات الأحكام الواقعية الأهم بنظر المولى عندما تتزاحم في مقام الحفظ ، مثلاً هذا مِلاكٌ واقع واقعي حفظه يكون بجعل الإحتياط ، وهذا مِلاكٌ واقعي حفظه بجعل البراءة مثلاً ، فتتزاحم الملاكات الواقعية في الشبهات ، وهذا تزاحم مرتبط بالشارع لا علاقة له بالعبد ، فالشارع يوازن بين ملاكي الحكمين الإلزامي والترخيصي فإذا كان ملاك الحكم الإلزامي أهم يجعل الإحتياط لأنه به يحافظ على مِلاك الأحكام الإلزامية ، وإذا كان مِلاك الترخيص هو الأهم فيجعل البراءة لأنه بها يحافظ على مِلاك الحكم الترخيصي وهو التسهيل وإطلاق العنان ، فالإحتياط حكمٌ طريقي يُجعل للحفاظ على مِلاكات الأحكام الإلزامية الواقعية ، والبراءة حكمٌ طريقي ظاهري يُجعل للحفاظ على ملاكات الأحكام الترخيصية الواقعية ، ما يحفظ به أحدهما غير ما يحفظ به الآخر ومن هنا يقع التزاحم ، فبإلزام المكلف بالإحتياط يُدرك مِلاك الحكم الإلزامي كما إذا إشتبه الخمر بالخل وألزمه الشارع بالترك فقد أدرك ملاك الحكم الإلزامي .
وفي نفس الوقت يلزم من جعل الإحتياط تفويت مِلاك الأحكام الترخيصية في بعض الأحيان ، كما أن جعل البراءة يلزم منه تفويت مِلاكات الأحكام الإلزام الواقعية في بعض الأحيان ، فلنفترض أن الشبهات عند المكلف عشرة ، ففي واقع الأمر فيها إحتمالين إحتمال الوجوب وإحتمال الإباحة أو إحتمال التحريم وإحتمال الإباحة ، فهناك إحتمال أنَّ الثابت في الشبهة الأولى هو التحريم واقعاً كما أن هناك إحتمال أنَّ الثابت واقعاً هو الإباحة ، وهكذا الكلام في الشبهة الثانية والثالثة .. الى العاشرة ، فالشارع يلاحظ المِلاكات فإذا كان مِلاك الحكم الإلزامي أهم بنظره فيُبرز إهتمامه بجعل الاحتياط في جميع هذه الشبهات ، وقد يفوِّت على المكلف مصلحة إطلاق العِنان في الأحكام الترخيصية فلعل واحدة من الشبهات العشر الحكم الواقعي فيها هو الترخيص ، غير أن الشارع يضمن حصول المكلف على مِلاكات الأحكام الواقعية الإلزامية لأنها أهم بنظره ، والعكس صحيح أيضاً فإذا فرضنا أنَّ ملاكات الأحكام الترخيصية هي الأهم بنظر الشارع وأنَّ إيقاع المكلف في الضيق مفسدة فيجعل البراءة ، وجعلها في جميع هذه الشبهات قد يُفوِّت على المكلف مِلاك الحكم الإلزامي ، لكن لا مشكلة لأن ملاك الحكم الترخيصي أهم بنظر المولى نفسه .
إذن هذا التزاحم في مقام الحفظ بالنسبة الى المولى نفسه ، ولهذا يختلف هذا التزاحم عن التزاحم الإمتثالي ، هذا التزاحم لا ربط له بالمكلف ، ففي مقام التشريع وعند فرض إختلاط وإشتباه الأحكام على المكلف يكون المولى بين أمرين : أن يحافظ على مِلاكات الأحكام الإلزامية ويجعل الإحتياط وبذلك يوقع المكلف في مفسدة الضيق وعدم إطلاق العِنان أو يحافظ على ملاكات الأحكام الترخيصية ويجعل البراءة وإن فاتت بعض الملاكات الإلزامية، فيوازن الشارع بينها ويجعل الحكم الظاهري الطريقي على طِبق ما هو الأهم من الملاكين بنظره ، فالحكم الظاهري الطريقي واقعه هو الحكم الذي يُبرز به المولى إهتمامه بالمبدأ الأهم ، فإذا جعل الإحتياط نعرف أنَّ الأهم عنده هي مبادئ الأحكام الإلزامية ، وإذا جعل البراءة نعرف أنَّ الأهم عنده هو مبادئ الأحكام الترخيصية المتزاحمة في مقام الحفظ .
قد يُقال لا مانع من جعله الحكم الظاهري الطريقي في مورد القطع بالتكليف لأن هذا الحكم لا ينشأ من مِلاك في المتعلق حتى يلزم من جعله في مورد القطع بالتكليف إجتماع الضدين بحسب عالم المبادئ واقعاً أو بنظر القاطع ، وإنما يلزم ذلك إذا كان الترخيص نفسياً ناشئاً من مبادئ في المتعلق ، لكن إذا كان الحكم الظاهري الطريقي الذي يُبرز به الشارع إهتمامه بملاك التكليف الأهم فلا يلزم ذلك ، وبناءً عليه يمكن الردع عن القطع بجعل ترخيص ظاهري في مورد القطع بالتكليف.
والصحيح انَّ هذا الوجه غير تام حتى إذا سلَّمنا ما يبتني عليه من أنَّ الأحكام الظاهرية الطريقية لا تنشأ من مِلاكات في المتعلقات ، وإنما ملاكاتها هي نفس ملاكات الإحكام الواقعية ، لسبب بسيط وهو أنَّ هذا الترخيص الظاهري ليس له أي أثر بالنسبة الى القاطع بالتكليف ، فإن الغرض من الترخيص هو تأمين المكلف كما هو الحال من جعل الترخيص الظاهري في موارد إحتمال التكليف _ خصوصاً على مسلك الحق الطاعة _ فالترخيص في مورد الإحتمال المنجَز يَؤمن المكلف ويستطيع انَّ يحتج به بين يدي المولى ، فيكون معقولاً جداً بناءً على منجزية الإحتمال _ إما على مسلك حق الطاعة وإما بناءً على تمامية مقدمات الإنسداد وإنتاجها حُجيَّة الظن عقلاً _ وأما في محل الكلام حيث يقطع المكلف بالتكليف فلا يحتمل نفس المكلف ورود الترخيص بحقه ، ولا يُغير هذا الترخيص موقف المكلف العملي من تكليف المولى الذي يقطع به ، بل إذا ورد هذا الترخيص في الأدلة الشرعية يرى القاطع أنَّ المقصود بها غيره كالظان بالتكليف ، ولا يحتمل ورود الترخيص بحقه إطلاقاً.
ومن هنا يكون هذا الترخيص الظاهري الطريقي في مورد القطع بالتكليف لا أثر له ، فلا معنى لجعله ، فيستحيل جعله .
يترتب على هذا الكلام الذي ذكرناه انَّ الحكم الظاهري الطريقي لا يمكن أن يكون منجزاً على المكلف بنفسه لأن ذلك خُلف كونه طريقياً فإن معنى ذلك إن تمام الملاك فيه هو التحفظ على الواقع ، نعم هو يُنجِّز الواقع الذي جُعل طريقاً إليه ، فالإحتياط حكمٌ طريقيٌ يُنجز الأحكام الواقعية الإلزامية ، وحينئذ نقول في المقام انَّ المكلف إذا قطع بالتكليف الإلزامي وفرضنا أن المولى يعلم أنه قد لا يكون مُصيباً في قطعه _ بمعنى أن لا يكون هناك تكليف في الواقع _ فإذا تُركَ العبد وشأنه فسيمتثل جميع هذه التكاليف المقطوع بها ، ومع إفتراض خطأ قطعه بأحد هذه التكاليف فقد أوقع نفسه في الضيق في هذا المورد ، وقد ألزم نفسه بلا مُلزم ، فإذا فرضنا أنَّ مصلحة التسهيل أهم بنظر الشارع من مصلحة المِلاكات الواقعية الإلزامية ، فلا مشكلة في أن يجعل ترخيصاً ظاهرياً في هذا المورد لغرض الحفاظ على الملاك الأهم وهو مصلحة التسهيل وإطلاق العنان بحسب الفرض ، فهذا تصوير معقول لجعل الحكم الظاهري الترخيصي في مورد القطع بالتكليف .
ويلاحظ عليه إن جعل هذا الحكم الطريقي غير معقول لأنه لا أثر له أصلاً ، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون مُؤمناً ومعذراً للمكلف ، وذلك لأن المفروض أنَّ المكلف يرى قطعه مصيباً للواقع ، والمفروض أنَّ هذا الترخيص في مخالفة القطع ترخيص ناشئ من التزاحم الحفظي بين المصلحة في مورد والمفسدة في مورد آخر ، وعندما يدور الأمر بين تحصيل المصلحة والوقوع في المفسدة وبين عدم الوقوع في المفسدة مع فوات المصلحة فمن الواضح أن المكلف في المقام قاطع في المقام بعدم التزاحم وعدم الدوران ، ومع كونه كذلك كيف يكون الترخيص الناشئ من التزاحم الحفظي والدوران شاملاً لمثل هذا المكلف !
والحاصل أنَّ جَعل الترخيص الظاهري في مورد القطع بالتكليف لا يعقل إما نفسياً فللزوم إجتماع الضدين بلحاظ عالم المبادئ ، وأما طريقياً فلأن القاطع لا يرى نفسه مشمولاً بهذا الحكم الترخيصي وأن المقصود به غيره فلا يكون مثله مؤثراً بل يبقى المكلف ملتزماً بالتكاليف التي يقطع بها وليس مستعداً لعدم العمل بواحد منها ، فلا يمكن الردع عن القطع بجعل الترخيص الظاهري .