الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/06/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع / القطع / حُجيَّة القطع / إمكان الردع عن القطع

كان الكلام في الوجه الأول من الوجوه التي ذُكرت لعدم إمكان الردع عن القطع وهو لزوم إجتماع الضدين واقعاً على تقدير الإصابة أو في نظر القاطع على تقدير عدم الإصابة ، وقلنا أنه عبارة عن شبهة إبن قِبة التي ذكرها في مورد الإمارات غاية الأمر أنَّ من قامت عنده الأمارة يحتمل إجتماع الضدين وهو محال أيضاً كالقطع بإجتماعهما.

هذه الشبهة في ذلك المورد أُجيب عنها بوجوه مذكورة في محلها وسيأتي الكلام فيها ، وبعضها يجري في محل الكلام _ في القطع _ لكن بعضها لا يجري في محل الكلام :

فمنها : أنه لا تضاد بين التكليف الذي أخبرت عنه الأمارة حتى لو كان ثابتاً في الواقع وبين الحكم الظاهري على الخلاف فلا يلزم إجتماع الضدين لا واقعاً ولا في نظر القاطع ، وذلك لأن الحكم الواقعي الذي أخبرتْ عنه الأمارة متقدمٌ رتبةً على الحكم الظاهري المجعول من قِبل الشارع والذي يتحقق به الردع عن العمل بالأمارة ، ويشترط في التضاد إتحاد الرُتبة ، وذلك لأن الحكم الظاهري موضوعه الشك في الحكم الواقعي فهو متأخر عن موضوعه رتبةً ، والشك في الحكم الواقعي متأخرٌ عن الحكم الواقعي رتبةً ، فيكون الحكمُ الظاهري متأخراً عن الحكم الواقعي بمرتبتين ، ومع التعدد الرُتبي لا معنى للقول بالتضاد.

وهذا الجواب نفسه يجري في محل الكلام ويكون جواباً عن الوجه الأول ، فيقال لا تضاد بين الحكم الواقعي المقطوع به وبين الحكم الظاهري المجعول _ الذي يتحقق به الردع عن الحكم الواقعي _ لأن الحكم الواقعي متقدمٌ رتبةً على القطع به ، والقطع بالحكم الواقعي متقدمٌ رتبةً على الحكم الظاهري ، لأن المفروض أنَّ الحكم الظاهري _ كالترخيص مثلاً _ يُجعل في مورد القطع بالتكليف _ إذا تعقلنا ذلك _ كما يُجعل في مورد الشك بالتكليف فيكون الحكم الواقعي متقدم بمرتبتين على الحكم الظاهري ، أو قل إنَّ الترخيص الظاهري متأخر بمرتبتين عن الحكم الواقعي المقطوع به ، ولا تضاد مع تعدد الرتبة.

ومنها جواب آخر يجري في محل الكلام وهو ناظر الى التضاد بلحاظ عالم المبادئ ، فكما يوجد بين الأحكام تضاد كذلك بين مبادئها وهو أن يقال:

لا تضاد بين الحكم الواقعي وبين الحكم الظاهري ، لأن الحكم الظاهري ليس له مبادئ فإنَّ مبادئه ليست في متعلقه حتى يلزم التضاد وإنما ينشأ الحكم الظاهري من مصلحة في نفس جعله ، بيان ذلك :

الحكم الواقعي المقطوع به _كالوجوب _ مبادئه في المتعلَّق ، ففي الفعل مصلحة ملزمة إقتضت إيجابهُ على المكلف فهو يكشف عن مصلحة في الفعل، وأما الترخيص فلا يكشف عن عدم وجود مصلحة ملزمة في الفعل حتى يكون مضاداً للتكليف الواقعي ، لأن الترخيص مِلاكه في نفس جعله لا في متعلقه ، ومن هنا لا يكون هناك تضاد بينهما بلحاظ عالم المبادئ .

وهذا الجواب إذا تم هناك يأتي في محل الكلام فيقال : لا مضادة بين التكليف الواقعي المقطوع به حتى لو كان ثابتاً في الواقع وبين الترخيص الظاهري بلحاظ عالم المبادئ ، لأن التكليف الواقعي يكشف عن مصلحة ملزمة في المتعلق ، لكن الترخيص لا يكشف عن خلاف ذلك فإنه ينشأ من مِلاكٍ في نفس جعله ، فلا يجتمع في المتعلق ملاك الوجوب وملاك الترخيص ، فلا يكون هناك تضاد بينهما بلحاظ عالم المبادئ ، فنفس الجواب الذي ذكر في الأمارات يجري هنا.

وهناك بعض الأجوبة لا تجري في محل الكلام ولذلك لابد من إلتماس جواب لها ، فمن جملة الأجوبة التي ذكرت ما كان ناظراً الى دعوى التضاد بلحاظ عالم المحركية ، فيقال : لا تضاد بلحاظ عالم المحركية لأن المفروض هناك أنَّ الحكم الواقعي غير واصل الى المكلف ،فقيام الأمارة على التكليف لا يعني وصول الحكم الواقعي بالقطع الى المكلف ، ومن هنا لا يكون لهذا التكليف غير الواصل محركية حتى تكون محركيته منافية للترخيص الظاهري لأن التكليف إنما تكون له محركية بوصوله ، والمفروض هناك عدم وصوله ، فليس هناك إلا الترخيص الذي يطلق العِنان للمكلف ، فلا تضاد بلحاظ عالم المحركية.

وهذا الجواب بقطع النظر عن كونه تاماً أو غير تام _ وهو مبني على مسلك قبح العقاب بلا بيان ، وإلا لو بنينا على مسلك حق الطاعة فالوصول الموجب لحكم العقل بالمنجزية وبالتالي حكمه بالمحركية يتحقق بالإحتمال ولا ينحصر الوصول بالقطع _ لا يجري في محل الكلام لأن المفروض وصول التكليف الواقعي بالقطع فلا يمكن القول لا محركية له ، وأما الحكم الظاهري فوصوله للمكلف هو المفروض في محل الكلام ، إذن هذا الجواب لا يجري في محل الكلام ، فما هو الجواب عن هذا الوجه ؟

الفرض هو أنَّ التكليف الواقعي واصل الى المكلف وله محركية مناسبه له ، والترخيص الظاهري واصل أيضاً الى المكلف وله محركية مناسبة له ، الجواب هو أن نقول :

ما هو المراد من محركية الحكم الواقعي هل تعني محركيته بوجوده الواقعي أم بوصوله ؟

التكليف الواقعي بوجوده الواقعي لا يكون محركاً أبداً وإنما محركيته بوصوله فإنه إذا وَصلَ الى المكلف يكون محركاً، وهذا معناه أنَّ مُحركية الحكم الواقعي هي فرعُ محركية القطع به ، بل في الحقيقة القطع بتكليف المولى هو الذي يُحرَّك العبد ، وإلا فالتكليف الواقعي بوجوده الواقعي لا يحرك العبد إطلاقاً ، فعندما نقول محركية التكليف الواقعي فهي في الحقيقة فرع محركية القطع بالتكليف الواقعي ، ومحركية القطع فرعُ منجزية القطع لوضوح أنَّ القطع لو لم يكن منجزاً لما كان محركاً للعبد ، ولذا لا يكون الظن مُحركاً على مسلك قبح العقاب بلا بيان لعدم منجزيته على هذا المسلك ، فدائماً محركية القطع فرعُ منجزية القطع بالتكليف فينتهي الأمر الى منجزية القطع بتكليف المولى ، وحينئذٍ نقول :

إنَّ هذه المنجزية إذا كان جعلُ الترخيص من قِبل المولى في موردها رافعاً لها فحينئذٍ لا تضاد ، نعم إذا لم يكن جعل الترخيص في موردها رافعاً لها يحصل التضاد ، وهذا يُرجعنا الى البحث السابق وهو أن حكم العقل بالمنجزية هل هو تعليقي أو تنجيزي ، فإذا كان حكماً تنجيزياً غير مُعلَّق على شيء فالترخيص يكون مضاداً للقطع بالتكليف بلحاظ عالم المحركية ، لأن التكليف الواقعي له محركية بلحاظ القطع به ، والقطع مُنجِّز أيضاً ، ومحركية القطع فرع منجزيته ، والمفروض أنَّ منجزيته تنجيزية فعلية ثابتة ، حتى إذا ورد ترخيص من قبل الشارع فإذا ورد الترخيص فيقتضي مُحركية مناسبة له فيصطدم مع منجزية فعلية للتكليف ومع محركية فعلية للقطع بالتكليف وهما متضادان ، هذا إذا قلنا أنَّ حكم العقل بالحجية حكمٌ تنجيزي .

وأما إذا قلنا أنه حكمٌ تعليقي فلا يأتي هذا الكلام ولا مضادة بينهما بلحاظ العالم المحركية لأنَّ محركية التكليف الواقعي بإعتبار كونها فرع منجزية القطع بالتكليف فإذا كانت منجزية القطع معلقة على عدم ورود الترخيص من الشارع فإذا ورد الترخيص ارتفع موضوع هذه المنجزية وهذه المحركية.

وبعبارة أخرى المنجزية تثبت في ظرف عدم ورود الترخيص وأما في ظرف ورود الترخيص من قبل الشارع فلا يكون القطع محركاً كما لا يكون منجزاً ، فلا مضادة بينهما ، هذا هو الوجه الأول وتبين عدم تماميته كالوجه الثاني.

وأما الوجه الثالث وهو لزوم نقض الغرض عند جعل الشارع الترخيص في مورد القطع بالتكليف، وهذا غير واضح فما هو المراد المـُستدل من الغرض ، فتارة نُفسر الغرض بأنه عبارة عن المصلحة والمفسدة التي هي مِلاك جعل التكليف الواقعي ، فإذا جعل الترخيص نقض هذه المصلحة أو المفسدة الموجودة في الفعل ، فنقض الغرض نقض المِلاك الذي نشأ منه الحكم الواقعي المقطوع به ، فإذا كان هذا هو المقصود فيرجع الى دعوى التضاد بلحاظ عالم المبادئ وتقدمت الأجوبة عليه ، والظاهر أنه ليس المقصود من الغرض.

وأخرى يكون المقصود من الغرض هو إيجاد الداعي عند المكلف نحو الإمتثال ، وجعل الترخيص في مورد القطع بالوجوب نقضٌ لهذا الغرض ، فلو فرضنا أنَّ الوجوب ثابت في الواقع والمكلف قاطع به فالغرض منه تحريك المكلف نحو الإمتثال ، وجعل الترخيص ينافي التحريك نحو الفعل ، هذا إذا كان التكليف ثابتاً في الواقع.

وأما إذا كان غير ثابت في الواقع فنقضُ الغرض يكون بنظر القاطع لأنه يرى ثبوت التكليف ، ولعل هذا هو الأقرب في تفسير الوجه الثالث.