42/06/23
الموضوع: العام / القطع / حُجيَّة القطع / إمكان الردع عن القطع / الوجه الأول
ذكرنا في الدرس السابقة أنَّ حُكمَ العقل بالمنجزية والحُجيَّة ووجوب العمل بالقطع بالتكليف وقُبح معصيته حكمٌ تعليقيٌ معلقٌ على عدم ورود الترخيص من قبل المولى وليس تنجيزياً ، فإذا وَرَدَ الترخيص من قِبل الشارع فلا يوجد حكمٌ عقليٌ بحُجيَّة القطع ووجوب إطاعة المولى .
والسر فيه هو ما ذكرناه من أنَّ مرجعه الى حُكم العقل بحسن طاعة المولى وقُبح معصيته ، وهو حكم يُرعى فيه شأن المولى وحقه ، فإذا تنازل صاحب الحق عن حقه وجعل الترخيص في مخالفة الحكم المقطوع به فحينئذ لا يحكم العقل بوجوب طاعته وقُبح معصيته ، ومن هنا يكون هذا الحكم العقلي بالمنجزية مُعلقاً على عدم ورود الترخيص من قبل المولى .
وهذه التعليقية ثابتة في جميع الموارد التي يحكم العقل فيها بالمنجزية من دون فرق بين موارد القطع بالتكليف وموارد الظن وإحتمال التكليف بناءً على حكم العقل بالمنجزية في موارد الظن والإحتمال _ إما على مسلك حق الطاعة وإما على حُجيَّة الظن بحكم العقل إذا تمت مقدمات الإنسداد وأنتجت حكم العقل بمنجزية الظن _ في كل هذه الموارد حُكمُ العقل حكمٌ تعليقيٌ وليس حكماً تنجيزياً ، غاية الأمر أننا في موارد القطع بالتكليف نُحرز شرطَ التنجيز _وهو عدم ورود الترخيص _ لأن الترخيص المتصور هو الترخيص الظاهري ، ومرتبته _ وهي الشك _غير محفوظة في موارد القطع بالتكليف ، وبإنتفاء موضوعه نُحرز شرطَ المنجزية ، وبهذا تكون منجزية القطع بالتكليف فعلية دائماً.
بخلاف الظن بالتكليف وإحتماله فإن مرتبة الحكم الظاهري تكون محفوظةً ، وعدم العلم ثابتٌ مع الظن أو إحتمال التكليف .
هذا الكلام يُتصور بناءً على مسلك حق الطاعة الذي يَرى منجزية الظن والإحتمال ، وأما على مسلك قُبح العقاب بلا بيان الذي يرى إختصاص المنجزية بدرجة الإحراز القطعي فلا يُتصور هذا الكلام ، ولا معنى للبحث في إمكان جَعل الترخيص في مورد الظن بالتكليف وإحتماله ، ولا معنى لأن يُقال هل ينافي الترخيصُ الشرعي حُكمَ العقل أو لا ينافيه ، لأن العقل لا يحكم بمنجزية الظن والإحتمال على هذا المسلك .
نعم إذا تمت مقدمات الإنسداد وأنتجت حُجيَّة الظن بحكم العقل حينئذ يكون الظن حُجةً ومنجزاً عقلاً ، فيُبحث أنَّ الترخيص في مورده هل يكون منافياً لحكمِ العقل أو لا يكون منافياً له ، ويأتي الجواب السابق بأنَّ حُكمَ العقل بالمنجزية تعليقيٌ ولا يكون الترخيص الشرعي منافياً للحكم العقلي وإنما يكون رافعاً لموضوعه .
ومن هنا يظهر أنَّ الوجه الثاني _من الوجوه التي أستدل بها على عدم إمكان الردع عن القطع _غير تام ، إذ لا يلزم منه التفكيك بين الذات والذاتي ، لأن الحُجيَّة ليست من ذاتيات القطع أصلاً ، ولا يلزم أيضاً التفكيك بين الذات ولوازمها الذاتية لأن الحُجيَّة التي نقول بها هي الحُجيَّة التعليقية لا التنجيزية ، وبجعل الترخيص الظاهري لا يلزم التفكيك بين الذات ولوازمها الذاتية ، هذا الشِق الأول لهذا الوجه .
وأما الشِق الثاني _ وهو دعوى المنافاة لحكم العقل _ فإتضح مما تقدم أن لا منافاة بين حكم العقل المعلَّق على عدم ورود الترخيص مع الترخيص الظاهري بالمخالفة .
ومن هنا يتبين أنَّ الردع عن العمل بالقطع لا يصح الإستدلال على عدم إمكانه بالوجه الثاني ، هذا تمام الكلام عن هذا الوجه.
وأما الوجه الأول وهو لزوم إجتماع الضدين واقعاً على تقدير الإصابة ، وفي نظر القاطع على تقدير عدم الإصابة ، فعلى تقدير الإصابة بأن كان الحكم واقعاً هو الوجوب ولزوم الإتيان بالشيء فالترخيص يعني عدم لزوم الإتيان به وهذان حكمان _ الوجوب الواقعي والترخيص الظاهري _ متضادان لا يُعقل إجتماعهما ، فيلزم إجتماع الضدين واقعاً .
وعلى تقدير عدم الإصابة _ بأن لم يكن حُكمُ الشيء الوجوب واقعاً _ يلزم من جعل الترخيص إجتماع الضدين بنظر القاطع وهو محال ، والقطع بإجتماع الضدين محال ، بل إحتمال إجتماع الضدين محال ، لأن المحال لابد أن يٌقطع بعدمه.
وهذا الوجه هو عبارة أخرى عن شبهة إبن قِبة ، غاية الأمر أنَّ هذه الشبهة أثارها في جعل الحكم الظاهري في مورد الأمارات ومحل كلامنا القطع بالتكليف ، وفي مورد الأمارات يقال :
إنَّ الإمارة إن كانت مُصيبة للواقع فيلزم إما إجتماع الضدين مع إفتراض مخالفة الحكم الظاهري مع الحكم الثابت بالأمارة ، وإما إجتماع المثلين مع موافقة الحكم الظاهري مع الحكم الثابت بالأمارة ، وإن كانت غير مصيبة للواقع فيلزم إجتماع الضدين بنظر من قامت عنده الأمارة ، هذا ومن قامت عنده الأمارة لا قطع له بإجتماع الضدين لأنه غير قاطع بالتكليف الواقعي ، نعم هو يظن بإجتماع الضدين ، كما لو قامت الأمارة عنده على الوجوب وجعل الشارع ترخيصاً ظاهرياً في مورد الأمارة فيظنُ بإجتماع الضدين أو يحتمل ذلك ، وهذا في المحالية كالقطع بإجتماع الضدين .
وهذه الشبهة أُجيب عنها بأنَّ التضاد بين الحكم الظاهري المجعول من قبل الشارع في مورد الأمارة وبين الحكم الذي تُخبر عنه الأمارة _ بل التضاد بين الأحكام بشكل عام _ تارة يكون بلحاظ عالم المبادئ ، وأخرى يكون بلحاظ المحركية ، أما بلحاظ المبادئ فواضح ، فإن مبادئ الوجوب هي المصلحة الـمُلزمة ومبادئ الحرمة هي المفسدة والضرر ، فيكونا متضادين بإعتبار تضاد مبادئهما ، ونفس الكلام يُقال بين الوجوب والترخيص ، فمبادئ الوجوب هو المِلاكات الإلزامية ومِلاكات الترخيص إطلاق العِنان وعدم الإلزام ، فهاذان أمران متضادان ، فالوجوب يكون مضاداً للترخيص والإباحة لتضاد مبادئهما.
وأما التضاد بلحاظ المحركية فلأن الوجوب يدفع نحو الفعل ، والحرمة تمنع من الفعل ، والإباحة تطلق العِنان ولا تدفع نحو الفعل ، وعليه فالوجوب يُضاد الترخيص إما بلحاظ المبادئ وإما بلحاظ المحركية ، ولكلٍ منها جواب يأتي إن شاء الله تعالى .