42/06/20
الموضوع: القطع / حجيَّة القطع / إمكان الردع عن القطع / التنبيه الثاني
كان الكلامُ في أمكانِ سلب الحُجيَّة عن القطع، وقلنا أنه أستدل له بثلاثة وجوه، تكلمنا عن الوجه الثاني الذي يقول أن الردع عن العمل بالقطع إذا صَدر من الشارع كان مناقضاً لحكمِ العقل بحجية القطع ، ولا زال الكلام فيه، وهو أنهم ذكروا في هذا الوجه مطلباً آخر وهو : أنَّ هذا الردع يستلزم التفكيك بين الذات والذاتي ، فإعتبروا الحُجيَّة من ذاتيات القطع ولا يعقل التفكيك بينهما.
المقصود بالحُجيَّة في المقام هو المنجزية كما هو واضح ، وهناك ملاحظة على كون الحُجيَّة من ذاتيات القطع ، وهي: أنَّ الحُجيَّة إنما ثبتت للقطع بإدخالها في مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، بمعنى أنها تثبت للقطع بإعتبار أنَّ عدم متابعة القطع وعدم العمل بالحكم المقطوع به ظلمٌ ، وسلب لذي الحق حقه ، وهذا قبيح بنظر العقل ويترتب عليه إستحقاق العقاب والذم ، وهذا هو معنى مُنجزية القطع للتكليف ، فالقطع بالتكليف يُدخل التكليف في عهدة المكلف ويُنجزه عليه ، بمعنى إستحقاق العقاب عند المخالفة.
وقلنا أنَّ هذا الوجه لا يَثبت به كون الحُجيَّة من ذاتيات القطع وإنما ما يثبت به هو وجوب متابعة القطع ولزوم العمل على طِبقه ، أو قل منجزية القطع وإستحقاق العقاب على المخالفة ، هذا ما يثبت بإدراج مسألة القطع في مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، ولا يثبت بذلك أنَّ الحُجيَّة من ذاتيات القطع.
وإنما ينسجم هذا الكلام مع كون الحُجيَّة من اللوازم القطع الذاتية _لا من ذاتيات القطع _كالزوجية بالنسبة الى الأربعة ، هذه ملاحظة ترتبط بإفتراض أنَّ الحُجيَّة من ذاتيات القطع.
ومن هنا يتعين البحث عن أنَّ ما يدركه العقل في محل الكلام _ الذي هو من لوازم القطع الذاتية _ هل هو الحُجيَّة الفعلية التنجيزية غير المعلقة على شيء ، أو أنَّ ما يدركه العقل هو الحجية التعليقية ، بعبارة أخرى أنَّ حكم العقل بوجوب متابعة القطع هل حكم تنجيزي غير مُعَلَّق على شيء أو هو حكم تعليقي بمعنى أنه مُعَلَّق على عدم ورود الترخيص في المخالفة من قِبل الشارع نفسه ؟ البحث ينبغي أن يَنصَب على هذه النقطة.
قد يقال : إذا كان حكمَ العقل بوجوب المتابعة حُكماً تنجيزياً ، يكون هذا الوجه _الثاني _ تاماً بإعتبار أنَّ الردع عن العمل بهذا القطع _ المتمثل بجعل الترخيص _ يكون منافياً ومناقضاً لحكمِ العقل بالحُجيَّة التنجيزية ، فيكون محالاً ، وهذه المناقضة إنما تكون تامة إذا كان حكم العقل تنجيزياً غير مُعلقاً.
وأما إذا فرضنا أنَّ حُكم العقل بوجوب متابعة القطع كان حُكماً تعليقاً معلقٌ على عدم ورود ترخيص من قِبل الشارع ، فإنه إذا ورد الترخيص منه لا يكون منافياً لحكم ٍعقلي لأنه يكون رافعاً لموضوع التنجيز العقلي ، لأنه موضوع الحكم العقلي مُعَلَّق على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع بحسب الفرض ، فلا يتم هذا الوجه لأن هذا الردع لا يصطدم مع حكم العقل بل يكون رافعاً لموضوعه فلا يبقى حُكمٌ عقليٌ حتى يكون الترخيص منافياً له ومضاداً له.
كما لا يلزم التفكيك بين الذات وبين اللوازم الذاتية بناءً على أنَّ حكم العقل بوجوب المتابعة تعليقي ، لأن ما هو من لوازم القطع الذاتية هو الحُجيَّة التعليقية بحسب الفرض لا التنجيزية ، وهذه الحُجيَّة التعليقية لم نفككها عن القطع ونؤمن أنها من لوازمه الذاتية ، ولكنها ترتفع عند ورود الترخيص من قِبل الشارع لأنها معلق بحسب الفرض على عدم ورود الترخيص ، ومع وروده لا يصح القول أنَّا فككنا بين القطع وبين لوازمه الذاتية ، وإنما يصح على فرض الحُجيَّة التنجيزية الثابتة للقطع بلا تعليق فيكون جعلُ الترخيص مستلزماً لتفكيك بينه وبين لوازمه الذاتية، وأما على فرض الحُجيَّة التعليقية فلا يستلزم ذلك ، ولا يحكم العقل بها في صورة ورود الترخيص من قِبل الشارع ، فلا يتم هذا الوجه لا من دعوى منافاة الترخيص لحكم العقل ولا من دعوى لزوم التفكيك بين القطع وبين لوازمه الذاتية.
وعلى هذا الأساس يُقال لابد من تنقيح هذا البحث ، فهل ما يدركه العقل هو الحُجيَّة التنجيزية للقطع أم الحُجيَّة التعليقية ؟
على الأول يتم الوجه الثاني على إستحالة ورود الردع الشرعي عن العمل بالقطع ، وعلى الثاني لا يكون هذا الوجه تاماً ، ومن هنا يتبين أنَّ الإتفاق على إمكان جعل الحكم الظاهري في موارد الظن بالتكليف وإحتماله ليس فيه أيَ محذورٍ ، أو قل أنَّ ردع الشارع عن العمل بالظن _ حتى لو حَكمَ العقل بحُجيته كما على مسلك حق الطاعة ، أو على الإنسداد إذا تمت مقدماته بناءً على الحكومة التي تنتج حجية الظن عقلاً _ ممكن ولا إشكال فيه ، إذ لا إشكال عندهم في أنَّ حُجيَّة الظن الثابتة بحكم العقل حُجيَّة تعليقية وهذه مسلَّمة عندهم.
نعم الحُجيَّة للقطع هل هي حجية تنجيزية أم هي حجية تعليقية ؟
والصحيح في المقام أن يقال إنَّ مسألة حصول التناقض والمنافاة بين الردع الشرعي وبين الحُجيَّة الثابتة للقطع أو عدم حصول التناقض والمنافاة يرتبط بتحقيق هذه المسألة ، وهي أنَّ الحكم العقلي بوجوب المتابعة هل هو حكم تنجيزي أو هو حكم تعليقي ؟ هذا لابد من تحقيقه ، ولا يمكن أن نُثبت التناقض أو عدمه بقطع النظر عن تحقيق هذه مسألة ، فلابد من تنقيح هذه المسألة لأنها أساسية في المقام ، وعلى ضوء النتيجة سيظهر أنَّ جعل الترخيص هل يناقض الحكم العقلي أو لا يناقضه.
الذي يمكن أن يقال في المقام وهو أن الحكم العقلي بوجوب متابعة القطع هو حكمٌ تعليقي دائماً ، هو معلقٌ على عدم ورود الترخيص في جميع الموارد لا في موارد الظن بالتكليف فقط ، حتى في موارد القطع بالتكليف _ التي هي محل الكلام _ يُدعى أنَّ حكمَ العقلِ بوجوب المتابعة والمنجزية الحُجيَّة ما شئت فعبر هو حكمٌ تعليقيٌ معلَّقٌ على عدم ورد الترخيص من قِبل الشارع ، والوجه في ذلك أنَّ هذا الحكم العقلي مرجعه الى مسألة حق الطاعة بعد إدراجها في مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، فعدم متابعة القطع ظلمٌ للمولى وسلبٌ لحقه _ وهو حق الطاعة _ عنه ، ولذا ذَكر السيد الشهيد أنَّ في موضوع قضية العدل حُسن والظلم قبيح قد فُرضَ وجود مولى له حق الطاعة لأن الظلم معناه سلب ذي الحق حقه ، فهناك صاحب حق وحقٌ ثابت له وهو حق الطاعة ، ولذا أعترض منهجياً على إدراج المسألة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، لأنا فرضنا في رُتبة الموضوع صاحبَ حقٍ وهو مولى وله حقُ الطاعة ، فلا نحتاج إلا إلى إثبات الكبرى وهي مولوية المولى _ وهي تثبت في علم الكلام _ وإثبات الصغرى وهو القطع بأن هذا تكليف المولى ، وعلى كل حال حكم العقل بوجوب المتابعة مرجعه الى مسألة حق الطاعة للمولى.
ومن الواضح أنَّ حق الطاعة للمولى حكمٌ إحترامي بإعتباره هو الخالق والموجد بل هو المالك الحقيقي ونحن عبيده فيثبت له حق الطاعة ، والعقل يُدرك _ عند الحكم بوجوب متابعة المولى _ أنَّ هذا حكم يُراعى فيه شأن المولى والحفاظ على مقامه ، وحينئذٍ يقول العقل أنَّ هذا يَتحدد بحدود المولى نفسه، ولا يحكم العقل بوجوب المتابعة في تكليفٍ يُرخص المولى نفسه في مخالفته لأن حكمُ العقل بوجوب المتابعة أساساً من جهة رعاية شؤون المولى نفسه ، وهذا حكم تعليقي كما هو واضح ، ولا يثبت في صورة ورود الترخيص قطعاً في مخالفة هذا التكليف، وهذا واضح في موارد الظن بالتكليف، فالعقل لا يحكم بوجوب متابعة التكليف المظنون إذا ورد الترخيص من الشارع في المخالفة ، كما إذا حَصلَ الظن بالتكليف من دليل غير معتبر شرعاً _ مع فرض كونه حجةً بحكم العقل _ فالعقل يحكم بوجوب متابعته إذا لم يرد الترخيص من قِبل الشارع ، ومن هنا يمكن القول أنَّ حكم العقل بوجوب المتابعة هو دائماً حكمٌ تعليقي ، غاية الأمر أنَّ في موارد القطع بالتكليف عدم الترخيص يكون محرزاً دائماً ، لأن الترخيص الذي يجعله الشارع والذي يتحقق به الردع هو الترخيص الظاهري ، وفي موارد القطع بالتكليف لا مجال للترخيص الظاهري ، لأن الترخيص الظاهري مأخوذٌ فيه عدم العلم وعدم القطع ، لأنَّ الأحكام الظاهرية تثبت في حال الشك وعدم العلم ، وأما مع القطع بالتكليف فلا موضوع للحكم الظاهري ، فالترخيص الظاهري في موارد القطع بالتكليف محرزُ العدم فلذا تكون الحُجيَّة فعلية ، لا بمعنى أنها حُجيَّة تنجيزية ، بل هي دائماً تعليقية ، وإنما لإحراز عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع في موارد القطع بالتكليف ، ومع هذا الإحراز يَثبت وجوب المتابعة للقطع عقلاً.
وهذا بخلاف موارد الظن بالتكليف فإنَّ مرتبة الحكم الظاهري تكون محفوظة لأن موضوع الحكم الظاهري هو عدم العلم ، ومع الظن بالتكليف أو إحتماله تُحفظ مرتبة الحكم الظاهري ويمكن جَعلهُ ، ومن هنا لا نقول في موارد الظن بالتكليف أنَّ عدم الترخيص محرزٌ ، فقد يجعل الشارع حكماً ظاهرياً على خلافِ الحكم المظنون به ، فهنا يكون الفرق بين الموارد القطع بالتكليف والظن به ، إلا أنه لا يعني أنَّ حكمَ العقل بوجوب المتابعة في موارد القطع بالتكليف حكمٌ تنجيزيٌ ، وأنَّ حكم العقل بوجوب المتابعة في موارد الظن _ حيث يَحكم بحجيته _حكم تعليقي ، لا ليس هذا ، بل هو دائماً حكم تعليقي ، غاية الأمر أنا في موارد القطع بالتكليف نحرز شرطها وهو عدم ورود الترخيص من قبل الشارع ، وأما في موارد الظن فلا نحرز ذلك.