42/06/19
الموضوع: القطع / حُجيَّة القطع / إمكان الردع عن القطع
كان الكلام في إمكان الردع عن العمل بالقطع ، وقلنا أنهم ذهبوا الى عدم إمكانه، وإستدلوا على ذلك بوجوه:
الوجه الأول: دعوى أنَّ العمل بالقطع يستلزم إجتماع الضدين واقعاً في فرض الإصابة، وبنظر القاطع في فرض الخطأ، فإذا كان القاطع مُصيباً في قطعه _بأن كان هناك تكليفاً في الواقع _ يلزم من القطع إجتماع الضدين، وإذا كان مخطأً في قطعه _بأن لم يكن هناك تكليفاً في الواقع _ فيلزم إجتماع الضدين بنطر القاطع، فإنه يرى ثبوت التكليف فيلزم من الردع إجتماع الضدين في نظره، لا واقعاً لأنه بحسب الفرض لا تكليف في الواقع ، وكلٌ منهما محال ، إجتماع الضدين محال، والقطع بإجتماع الضدين أيضاً محال، ولا تختص الإستحالة بالقطع بل تعم كل درجات الإحتمال الأخرى لإجتماع الضدين، لأن المحال ينبغي القطع بعدمه فلا يعقل القطع به ، بل ولا الظن به ، والقاطع _في فرض الخطأ _كيف يجتمع عنده التكليف الذي قطع به مع الردع ، الردع الذي يتمثل بجعل حكمٍ مخالف للحكم المقطوع به ، والملازمة مبنية على أنَّ الردع يتمثل بذلك _ بجعل حكم مخالفٍ للحكم المقطوع به _ فإذا قطعَ بالتكليف فالردع يتمثل بجعل البراءة والترخيص ، وإذا قطعَ بعدم التكليف فالردع عن هذا القطع يتمثل بجعل الإحتياط والمنجزية ، فإذا قطعَ بالوجوب مثلاً وكان قطعه مصيباً فكيف يجتمع الوجوب مع الترخيص وهما متضادان ، فيلزم إجتماع الضدين على تقدير الإصابة ، وعلى تقدير الخطأ كما إذا قطع بالوجوب _ ولا وجوب واقعاً_ لكنه يلزم إجتماع الضدين بنظر القاطع وكل منهما محال ، هذا الوجه الأول.
الوجه الثاني: هو دعوى أنَّ الردع مناقض لحكم العقل بحُجيَّة القطع وهو مستحيل، لأنه إن كان المقصود بهذا الردع إزالة الحُجيَّة عن القطع فهو غير معقول لأنه تفكيك بين الذات والذاتي، فإن الحُجيَّة من ذاتيات القطع وهو محال، بل يستحيل التفكيك بين الشيء ولوازمه الذاتية كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة
وإن كان المقصود منه هو جعل ما يخالف الحُجيَّة ، فرغم ثبوت الحُجيَّة الذاتية للقطع يجعل الشارع ما يخالفها كجعل البراءة في مورد القطع بالتكليف ، أو الإحتياط في مورد القطع بعدم التكليف ، فيقال إنه محال لأنه يناقض حكم العقل ، لأن الشارع هنا يحكم بحكم مخالف لحكم العقل لأن العقل بحسب الفرض يحكم بحُجيَّة القطع فجَعلُ الشارع حكماً يخالفه يعني مخالفة الشارع لحكم العقل ، هذا محال.
الوجه الثالث: يلزم من الردع عن العمل بالقطع نقض الغرض، بإعتبار أنَّ المفروض القطع بالحكم الشرعي _كالقطع بالوجوب _ فإذا رخَصَّ الشارع بمخالفته بجعل البراءة فإنه نقض لغرض المولى ، فإنه بجعل الوجوب للشيء يكون غرضه تحريك المكلف نحو الإتيان به، فإذا جَعَلَ الترخيص لنفس الشيء يكون نقضاً لغرضه لأنه بجعل الوجوب يُلزمه بالإتيان بالشيء وبالترخيص يأذن له في تركه ، وهذا نقضٌ للغرض، فلا يعقل جعل الترخيص الذي يتحقق به الردع عن العمل بالقطع ، هذا على تقدير الإصابة.
وعلى تقدير الخطأ _ بأن لم يكن الحكم الوجوب في الواقع _ يكون نقضاً للغرض بنظر القاطع لأنه يرى ثبوت التكليف، ولابد أن يقال بأنه غير معقول لتتميم هذا الوجه.
وقبل تحقيق الحال في هذه الوجوه الثلاثة والتي منها ننطلق للدخول في شبهة إبن قِبة نُـنَبه على أمرين:
الأمر الأول: أنَّ هذا البحث _ إمكان سلب الحُجيَّة عن القطع _ له إرتباط وثيق بالبحث عن إمكان جعل الحُجيَّة للقطع، بل يظهر من كلماتهم أنهما أمران متلازمان ،فإذا قلنا بإمكان سلب الحُجيَّة عن القطع لابد أن نقول بإمكان جعل الحُجيَّة للقطع، والمقصود بالسلب هو السلب التشريعي كما أنَّ المقصود بالجعل هو الجعل التشريعي التأليفي فهل يمكن ذلك أو لا ؟
إذا قلنا أنَّ الحُجيَّة ذاتية للقطع فالجواب هو عدم الإمكان في كِلا المسألتين، فكما لا يمكن سلبُ الحُجيَّة عن القطع تشريعاً كذلك لا يمكن جعلها للقطع تشريعاً ، فإنها إن كانت ذاتية للقطع فبمجرد إفتراض القطع تَثبت له الحُجيَّة ولا يمكن جعلها له بالجعل التأليفي ، كما لا يمكن سلب الحُجيَّة عن القطع أيضاً لأنه تفكيك بين الذاتي والذاتيات _كما قالوا _ وهو غير معقول.
وأما إذا قلنا أنَّ الحُجيَّة ليست من ذاتيات القطع ، وهي شيء آخر يَثبت للقطع ، فقد يُقال بإمكان كلٍ منها ، فيمكن سلب الحُجيَّة عن القطع ويمكن جعلها للقطع بالجعل التشريعي التأليفي ، لأن إفتراض قطع لا يعني إفتراض حُجيَّته لأنها ليست من ذاتياته.
وهم يقولون بعدم الإمكان لكل منهما لا السلب التشريعي ولا الجعل التشريعي للحجية بالنسبة الى القطع ، وفيما يرتبط ببحثنا قالوا أنَّ سلب الحُجيَّة غير معقول لأنه تفكيك بين بين الذات والذاتي ، من هنا يكون البحث إن إمكان جعل الحُجيَّة للقطع بالجعل التشريعي مهم جداً في المقام ، فكما نبحث عن إمكان سلب الحُجيَّة عن القطع نبحث أيضاً عن إمكان جعلها له ، وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.
الأمر الثاني: أنَّ الردع الذي نتكلم عن إمكانه وعدم إمكانه ، تارة نفترض أنه ردع عن حجية القطع بتمام أفراده ، فكل قطع يسلب عنه الحجية هل يمكن أو لا ، وأخرى نفترض أنَّ الحديث عن إمكان الردع عن بعض أقسامه لا عن جميع افراده ، كالبحث عن إمكان سلب الحُجيَّة عن قطع القَطَّاع _ وهو الناشئ من مناشئ غير متعارفة _ أو البحث عن إمكان سلب الحُجيَّة عن القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة كما يقول بعض علمائنا الأخباريين أنَّ القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة ليس بحجة ، فنتكلم في إمكان سلب الحُجيَّة عن هذا القسم من القطع أو لا يمكن.
بالنسبة الى الأول _ الردع عن تمام أفراد القطع _ فغير ممكن بلا حاجة الى الوجوه الثلاثة المتقدمة، وذلك بإعتبار عدم ترتب أي أثرٍ على هذا الردع ، فيكون باطلاً وإفتراضه غير وارد ، وذلك لأن هذا الردع إما أن نَفترض عدم وصوله الى المكلف فلا أثر له ، لأن أثر الردع يكون بعد فرض الوصول، وثبوته في الواقع مع عدم وصوله لا يغير شيئاً من موقف المكلف.
وإما أن نفترض وصوله الى المكلف فيلزم من وصول هذا الردع عدم حُجيَّة قطع المكلف، لأنه من جملة القطوع التي فُرض القطع بها والمفروض الردع عن تمام أفراد القطع بلا إستثناء ، فيثبت بالردع الواصل الى المكلف سقوط الحُجيَّة عن تمام أفراد القطع ومنها القطع الذي حصل له ، فلا يكون لهذا الردع أي أثر، وهذا مما يلزم من ثبوته عدمه كما يقال، ولذا قالوا يكون هذا الردع مستحيلاً.
وقد يقال لم يُفترض وصول الردع _ الذي مضمونه إسقاط الحُجية عن كل قطع _ بالقطع فالنفترض وصوله بأمارة معتبرة فيبنى على هذه الأمارة ويعمل بها المكلف ويثبت عدم حُجيَّة كل قطع ، فيكون للردع أثر.
وجوابه كيف نتعقل أنَّ الأمارة تكون حُجة معتبرة بلا أن تنتهي الى القطع ، ولا يصح أن نستدل على حُجيَّة ظن بظن مثله فلابد أن تنتهي حُجيَّة الأمارة الى القطع ، فإعتبار الأمارة ثَبَتَ بالقطع ، وهو من جملة القطوع التي تُثبت الأمارة عدم حُجيتها ، فإذا لم يكن هذا القطع حُجة لم تكن الإمارة حُجة ، وبالتالي لا يثبت مفادها وهو إسقاط الحُجيَّة عن تمام أفراد القطع.
والخلاصة لا يكون هناك أي أثر لهذا الردع لا في حالة عدم وصوله ولا في حالة وصوله ، هذا فيما إذا كان المقصود من الردعِ الردعُ عن تمام أفراد القطع ، وهذا بخلاف الفرض الثاني الذي هو الردع عن بعض أفراد القطع كقطع القطاع الحاصل من غير الأسباب المتعارفة فلا مانع منه ويكون معقولاً ويمكن أن يصل الى المكلف ولا يلزم من وصوله عدم حُجيته ، فإذا فرضنا أن َّالمكلف وصل اليه الردع عن القطع من الأسباب غير المتعارفة وقطع به من الأسباب المتعارفة فلا مانع منه ، لأنه لا يلزم من وصوله إليه عدم حُجيَّة القطع الذي حصل له لأنه متعارف بحسب الفرض ومضمونه عدم حُجيَّة القطوع غير المتعارفة.
هذه أمور ترتبط بالبحث الآتي، ونتكلم فعلاً لنكتة عن الوجه الثاني _من الوجوه المتقدمة_ ثم نذكر الأول ثم الثالث.
وكان الوجه الأول أنه يلزم من الردع إجتماع الضدين واقعاً أو في نظر القاطع، والوجه الثاني أنَّ هذا تفكيك بين الذات والذاتي أو مناقض لحكم العقل.
ونتكلم فعلاً في الوجه الثاني ، قلنا أنهم إستدلوا على عدم إمكان سلب الحُجيَّة عن القطع بأنَّ الحُجيَّة ذاتية ويستحيل التفكيك بينها وبين الذات ، والسؤال ما معنى أنَّ الحجية ذاتية ؟
من الواضح أنَّ الحُجيَّة في المقام يراد بها المعنى الأصولي ، لا نتكلم عن الحُجيَّة بالمعنى المنطقي ولا بمعنى الطريقية لأن ثبوتها للقطع ثبوت تكويني ولا تسلب عنه لأنها نفس القطع وعبارة أخرى عنه ، وليست شيئاً آخر غير الطريقية والإنكشاف التام ، ولا يعقل سلبه عن القطع ، وليس هذا محل الكلام ، وإنما محل الكلام في الحُجيَّة بمعنى التنجيز وإستحقاق العقاب على المخالفة ، فهل يمكن سلبها عن القطع أو لا يمكن ، المعذرية هل يمكن سلبها عن القطع أو لا يمكن ؟ فلابد أن يدعوا أنَّ الحُجيَّة بمعنى المنجزية من ذاتيات القطع ، حتى يأتي الوجه الثاني ليقول بإستحالة تفكيك الذاتي عن الذات ، والسؤال ما هو الدليل على أنَّ الحُجيَّة بمعنى المنجزية من ذاتيات القطع ؟
وقد كان ثبوت الحُجيَّة للقطع على أساس دخولها في التحسين والتقبيح العقليين فقالوا عندما يقطع المكلف بالتكليف تكون مخالفة هذا التكليف عصياناً ينطبق عليه عنوان الظلم وسلب ذي الحق حقه ،كما أنَّ متابعة القطع بالتكليف يكون عدلاً، والعقل يحكم بقبح الظلم وحُسن العدل وبذلك تثبت المنجزية للقطع.
فلو أخذنا بهذا الدليل لثبوت أصل المنجزية للقطع بهذا الشكل ، نقول أنه لا يَثبت به أكثر من منجزية القطع للتكليف بمعنى أنَّ العبد يستحق العقاب على مخالفته ، ولكن لا يثبت به أنَّ الحُجيَّة من ذاتيات القطع ، هذا برهان على أنَّ القطع بالتكليف منجزٌ للتكليف ويدخله عهدة المكلف بنحو تكون مخالفته موجبةً لإستحقاق العقاب بنظر العقل ولكنه لا يعني كون الحُجيَّة والمنجزية من ذاتيات القطع.