الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/06/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: القطع / حُجيَّة القطع / مناقشة مبنى الشهيد الصدر

ذكرنا في الدرس السابق أنَّ الفارق _ بناءً على مسلك حق الطاعة _ بين القطع ودرجات الإنكشاف الأخرى من الظن والإحتمال والشك في نقطتين :

الأولى: أنَّ القطع تثبت له المنجزية والمعذرية معاً ، ولا تختص حُجيَّة القطع بالمنجزية بل تثبت له المعذرية كما في موارد القطع بعدم التكليف ، بينما سائر درجات الإنكشاف لا يثبت لها إلا التنجيز ، لأن التعذير مع الظن بعدم التكليف خُلف مسلك حق الطاعة ، لأن الظن بعدم التكليف يعني إحتمال التكليف ، والمفروض أنَّ إحتمال التكليف مُنَجِّز للتكليف ، ولذا لا يكون الظن _ فضلاً عن الإحتمال والشك _ مُعذِّراً على هذا المسلك.

الثانية: ما يرتبط بمسألة إمكان الردع ، قالوا : إن سائر درجات الإنكشاف غير القطع قابلة لأن يردع عنها الشارع، قابلة لأن يُجعل فيها حكماً مخالفاً للحكم المنكشف بما سوى القطع ، بينما القطع لا يقبل جعلَ حكمٍ ظاهري منافياً للحكم المقطوع به ، فلا يكون في موارد القطع بالتكليف قابلاً لجعل البراءة والترخيص ، ولا يكون في موارد القطع بعدم التكليف قابلاً لجعل الإحتياط والمنجزية كحكم ظاهري، وسلب الحجية إنما يكون بذلك، بينما درجات الإنكشاف الأخرى تكون قابلة لذلك حتى بناءً على منجزية الظن ، فيمكن الردع عنه أو جعل الترخيص في مورده، ومن هنا ندخل في البحث اللاحق ، وهو هل يمكن للشارع أن يجعل حكماً مخالفاً للحكم المقطوع به ، بأن يجعل المعذرية أو البراءة في موارد القطع بالتكليف ، أو يجعل الاحتياط والمنجزية في موارد القطع بعدم التكليف ، أو لا يمكن ذلك.

وقبل الدخول في هذا البحث نلاحظ على مسلك حق الطاعة الذي تبناه السيد الشهيد، والذي له إشارات في كلام القدماء وإختاره من المتأخرين بعض المحققين.

وقد تقدم أنه لا برهان عقلي مُلزم عليه ، كما أن مَسلك قَبح العقاب بلا بيان لا برهان عليه أيضاً ، وكأن القضية تعود الى الوجدان وما يشعر به الإنسان.

والذي نريد أن نذكره هنا أنَّ هناك منبهات قد تكون مؤيدة لمسلك المشهور وهي عبارة عن الآيات الشريفة التي اُستدل بها على البراءة ، وهناك آية أخرى نعتقد أنها أوضح في تأييد مسلك المشهور وما ذهب إليه من قٌبح العقاب بلا بيان ، والآيات التي أستدل بها على البراءة:

الآية الأولى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا﴾ الإسراء :15

هذا التعبير يُستفاد منه التحاشي وأن هذا شيٌ غير لائق بساحته المقدسة ، وليس المقصود في الآية الشريفة _حسب الظاهر والله العالم _ هو نفي العقاب حتى يُقال نفي العقاب لا ينافي الإستحقاق وانَّ العبد مستحق للعقاب ولكن الله يتفضل عليه بكرمه ويرفع عنه العذاب ، لسان الآية ليس نفي العذاب وإنما نفي إستحقاق العذاب والتحاشي عن تعذيب الإنسان قبل بعث الرُّسل _ وهو عبارة أخرى عن البيان _ فليس من شأننا ولا يليق بنا أن نعذب قبل بعث الرسول فإذا بعثناه كان من شأننا العذاب ، يعني هناك إستحقاق العقاب وإما قبل بعث الرسول فلا يليق ذلك بساحته ، وهو يعني عدم الإستحقاق ، فقبل البيان وقبل العلم والقطع بالتكليف لا إستحقاق للعقاب، وهذا هو معنى قاعدة قبح العقاب بلا بيان فهي تنفي إستحقاق العقاب قبل البيان.

الآية الثانية: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ یُبَیِّنَ لَهُم مَّا یَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ﴾ التوبة : 115

ونفس الكلام يقال فيها فتعبير﴿وَمَا كَانَ﴾ يُستفاد منه التحاشي وأنه لا يليق به ذلك، نحو قوله تعالى ﴿ وَمَا عَلَّمۡنَـٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا یَنۢبَغِی لَهُۥ ﴾ يس :69 وأمثال هذه التعبيرات الدالة على أنَّ هذا لا يليق بساحته المقدسة .

وهذا بناءً على تمامية الإستدلال بهذه الآية على البراءة وأنَّ المراد من الإضلال العذاب فلا يليق به وليس من شأنه أن يعذبهم حتى يُبين لهم فلا يوجد إستحقاق للعذاب. وإن كان في أصل الإستدلال بها مناقشة.

هذه الآيات التي يمكن أن يقال أنها مُنَبهة على ما يقوله المشهور ، ونؤكد مرة أخرى أن هذا مبني على أن الآية _خصوصاً الآية الأولى _ ليست في مقام الإخبار ، لا تريد القول أننا لا نعذب الناس حتى نبعث لهم رسولاً فإنه لا يُنافي الإستحقاق ، فيثبت الإستحقاق ولكن الله لا يُعذبهم فلا يكون منافياً لمسلك حق الطاعة ولا يؤيد مسلك قٌبح العقاب بلا بيان ، وإنما الإستدلال بالآية مبني على أنَّ المستفاد منها أنه لا يليق به سبحانه العذاب قبل بعث الرُسل ،وهذا يناسب نفي الإستحقاق ولا يناسب نفي العذاب الخارجي.

الآية الثالثة : والتي نرى وضوحها في المراد هي قوله تعالى ﴿وَرُسُلࣰا قَدۡ قَصَصۡنَـٰهُمۡ عَلَیۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلࣰا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَیۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِیمࣰا ‌١٦٤ رُّسُلࣰا مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِیزًا حَكِیمࣰا ‌١٦٥﴾ النساء

يقول نحن نبعث الرسل مبشرين ومنذرين حتى لا يكون للناس حجة على الله ، فلا يستطيع الناس بعد بعث الرسل الإعتراض على العذاب ، وهي صريحة وظاهرة ظهوراً واضحاً في أن للناس قبل بعث الرسل حُجة على الله ، وهذا يعني عدم الإستحقاق قبل بعث الرسل ، وإذا كان العقل يحكم بمنجزية إحتمال التكليف فهو يحكم بإستحقاق العقاب على التكليف المحتمل ، وإذا كان كذلك يكون العقل حاكما بإستحقاق العقاب والمنجزية قبل بعث الرسل ، والآية تكاد تكون ظاهرة ظهوراً واضحاً أن قبل بعث الرسل يكون للناس على الله حُجة ، وإنما لا يكون لهم الحجة بعد بعث الرسل ، فقبل البيان يكون للناس على الله حُجة وهذا معناه عدم إستحقاق العقاب ، وهو معنى قاعدة قُبح العقاب بلا بيان.

وأما ما ذكره السيد الشهيد من دعوى أن التبعيض بين موارد القطع بالتكليف وموارد إحتمال التكليف مما جرت عليه سيرة العقلاء في المولويات العرفية فيثبتون التنجيز وإستحقاق العقاب في موارد مخالفة التكليف المقطوع به ولا يرون التنجيز ولا إستحقاق العقاب في موارد التكليف المحتمل والذي يعني التبعيض في حق الطاعة وأنه مُمضى من قبل الشارع بعدم الردع ، وهو يعني أن الشارع يرضى بأن يُتعامل مع أوامره كما يُتعامل مع أوامر العقلاء ، ثم أجاب عنه انه يعني إثبات البراءة الشرعية بتوسط الإمضاء ولا إشكال فيه ، ولا ينافي مسلك حق الطاعة .

فجوابه : أنا إذا إستكشفنا الإمضاء من الآيات الشريفة فلا يرد هذا الكلام ، لأنه مبني على أن الإمضاء لعمل العقلاء القائم على التبعيض ، ولكنه ليس إمضاءً للعمل الخارجي بل إمضاءً للنكتة التي إستند عليها العمل الخارجي ، لأن كلَ عملٍ يصدر من العقلاء بما هم عقلاء لابد أن يَصدر من نكتةِ إرتكازية أوجبت عملهم القائم على التبعيض بين موارد القطع بالتكليف وموارد إحتمال التكليف ، الإمضاء يكون للنكتة الإرتكازية لا للعمل ، والنكتة التي نراها هي عدم إستحقاق العبد العقابَ في موارد عدم وصول التكليف إليه ، بخلاف التكليف الواصل إليه فإنه يستحق العقاب على المخالفة ، والإمضاء ينصب على هذه النكتة.

وهذا الإمضاء لا نستكشف منه البراءة الشرعية لأن بناء العقلاء والنكتة التي إعتمد عليها العقلاء في بنائهم ليس لها علاقة بالبراءة الشرعية، هي نكتة عقلائية وإمضاؤها يعني أن الشارع يوافق على عدم الإستحقاق في موارد عدم القطع بالتكليف والإستحقاق في موارد القطع بالتكليف.

وهناك إعتراضات جديدة على مسلك حق الطاعة ، نتعرض لها قريباً لنرى هل هي تامة أو لا

نعود الى أصل البحث ،كان البحث في إمكان الردع عن القطع أو عدم إمكانه ، وإمكان جَعل تكليفٍ مخالف للتكليف المقطوع به أو عدم إمكانه ، وقلنا أن سلبَ الحُجيَّة عن القطع يتمثل بهذا ، فإذا جَعلَ الشارع حكماً مخالفاً للتكليف المقطوع به فهو يعني أنه سَلَبَ الحُجيَّة عن القطع بالتكليف ، فهل يمكن للشارع أن يجعل البراءة في موارد القطع بالتكليف ؟ وهل يمكن أن يجعل الإحتياط في موارد القطع بعدم التكليف ؟ هذا هو محل الكلام.

المعروف والمشهور هو عدم الإمكان وإستدلوا له بوجوه :

الوجه الأول : قالوا أن الردع عن العمل بالقطع يستلزم إجتماع الضدين واقعاً في فرض الإصابة ، وفي نظر القاطع في فرض الخطأ وكلاهما محال ، أما الأول فواضح ، وأما الثاني فلأن القطع بوقوع المحال أيضاً محال فكما أنَّ إجتماع الضدين محال كذلك نفس القطع به يكون محالاً.

أما أنَّ النهي عن العمل بالقطع يستلزم إجتماع الضدين ، فلأن البراءة مع التكليف متضادان في فرض إصابة القطع للواقع ، فشيٌء واحدٌ حكمه الوجوب واقعاً والشارع يجعل له البراءة ، يلزم منه إجتماع الضدين في فرض الإصابة ، بل يلزم إجتماع الضدين بنظر القاطع في فرض الخطأ وهو أيضاً محال

ويأتي بيانه إن شاء الله.