42/06/17
الموضوع: القطع / حُجيَّة القطع / مقدار ما يتنجز عقلاً
كان البحث في حدودِ مولوية المولى وحق الطاعة له ، فإن كانت ثابتة في جميع الموارد ثَبتَت المنجزية كذلك ، وإن قلنا بالتبعيض في المولولية ثَبتَ التبعيض في المنجزية ، وذلك بإعتبار أنَّ المنجزية وإستحقاق العقاب متفرعٌ على حق الطاعة ، فمن له حق الطاعة على العبد يكون تكليفه مُنجَّزاً عليه ، والبحث يدور حول حدود هذا التنجيز، وهل يكون مُنجَّزاً عليه إذا قطعَ به أو يكون مُنجَّزاً عليه ولو بوصوله وصولاً إحتمالياً.
تقدم أنَّ الإحتمالات في حدود مولوية المولى ثلاثة :
1. أن موضوع المولوية و حق الطاعة هو واقع التكليف ولو لم ينكشف للمكلف.
2. أن موضوع المولوية وحق الطاعة هو التكليف المقطوع به خاصة ، فالتكليف المظنون والمشكوك لا يكون داخلاً في حق الطاعة.
3. أن موضوع المولوية وحق الطاعة هو وصول التكليف ولو وصولاً إحتمالياً.
والإحتمال الأول باطلٌ وغير وارد ، بإعتبار أنَّ ملاك المولوية هو الإحترام والتعظيم ، وهو وإنما يَثبت في صورةِ وصول التكليف الى المكلف ولو وصولاً إحتمالياً ، عندئذِ يُقال أنَّ مخالفة هذا التكليف تُعتبر تمرداً على المولى وهتك للمولى ، وأما في صورة عدم إنكشاف التكليف _ عندما يكون المكلف قاطعاً بعدم التكليف أو قاطعاً بالترخيص _ فلا وجود للتكليف بنظر العبد فلا محرَّك للعبد أصلاً.
وعلى هذا الأساس نقول أنَّ منجزية التكليف بوجوده الواقعي غير الواصل للمكلف ولو وصولاً إحتمالياً على الأقل لا يعقل ثبوت المنجزية له ، لأنها متقومة بوصول التكليف الى العبد ولو وصولاً إحتمالياً منكشفاً له ولو بأقل درجات الإنكشاف عندئذٍ يُقال أنَّ حق المولى على العبد أن يُطيعه في هذا التكليف المنكشف له ، ولكن عندما يكون قاطعاً بالعدم فلا معنى لهذا الكلام ، لأن مخالفة هذا التكليف على فرض وجوده واقعاً لا تكون هتكاً لحريم للمولى ولا تمرداً عليه ، لأنه بنظره لا وجود لهذا التكليف ، وهذا لا يعني التبعيض في المولوية وإنما هو خروج تَخَصُّصي لأنه ليس من المعقول ثبوت المولوية في هذه الحالة ، لا أنها ثابتة في موارد القطع بعدم التكليف وخارجة تخصيصاً ، ولذا نقول أنَّ قوام المولوية وحق الطاعة بوصول التكليف ولو وصولاً إحتمالياً.
على هذا الأساس قالوا أن القطع بعدم التكليف مُعَذِّر ، بمعنى عدم إستحقاق العقاب عقلاً فيما لو خالف ما كان تكليفاً ثابتاً في الواقع ، ولا يصدق عليه هتك حرمة المولى ولا التمرد عليه ، وهذا هو معنى المـُعذريَّة ، ومن هنا يثبت كِلا الجانبين _ المنجزية والمعذرية _ ، فهذا الإحتمال باطل ، بل غير معقول.
الإحتمال الثاني _ وهو الذي يلزم من قول المشهور وذهابهم الى قاعدة قُبح العقاب بلا بيان _ فهو في واقعه تَبعيض في مولولية المولى ومعناه أن مولوية المولى وحق الطاعة ثابتة في خصوص التكاليف المقطوع بها ، لأن هذا المسلك يقول أن وصول التكليف الى العبد من دون بيان _ أي من دون قطع _ لا يستحق على مخالفته العقاب ، فالتكليف المظنون والمحتمل لا يكون مُنجَّزاً على المكلف ، وقلنا أنَّ لازمه التبعيض في المولوية وحق الطاعة ، لأنه يعني أن للمولى حق الطاعة في تكاليفه المنكشفة بالقطع واليقين وليس له ذلك في تكاليفه المنكشفة بالظن والإحتمال مع فرض وجودها واقعاً ، فيمكن أن نَنسب الى المشهور التبعيض في المولوية وإن لم يصرحوا به.
الإحتمال الثالث _ الذي يبني عليه أصحاب مسلك حق الطاعة _ أن موضوع المولوية وحق الطاعة هو مطلق الإنكشاف وإحتمال التكليف ولو إحتمالاً ضعيفاً.
والسيد الشهيد قدس الله نفسه يَبني على الإحتمال الثالث ويرى أنَّ إنكشاف التكليف منجزٌ للتكليف عقلاً _ بقطع النظر عن أدلة البراءة الشرعية _ وأنَّ مولويته تعالى غير محدودة وحق الطاعة غير محدود، ولا تبعيض فيه ويَثبت هذا الحق في كل تكاليفه بشرط إنكشافها ولو إنكشافاً ناقصاً.
ومن هنا يظهر عدم وجود برهان لإثبات الإحتمال الثالث في قِبال الإحتمال الثاني، وأنَّ مُستند السيد الشهيد في مختاره هو الوجدان كما ذَكر ، كما أنَّ لا برهان للمشهور على مختاره ومستنده الوجدان أيضاً ، وغاية ما ذكره السيد الشهيد هو أننا نُدرك أن حقَّ طاعة المولى من أرقى أنواع الحقوق الثابتة بملاك الخالقية والموجدية والمالكية الحقيقية، وهو صحيح ومُسَلَّم.
ثم قال قدس الله نفسه يُمكن أن يقال أنَّ التبعيض في المولوية وحق الطاعة ثابت في المولويات العرفية وعند العقلاء فيما بينهم وأنَّ الشارع أمضى ما عليه العقلاء ولم يردع عنه فيمكن أن نتعدى الى تكاليف الشارع نفسه ونتعامل معها كما نتعامل مع تكاليف العقلاء ، بمعنى يقع التمييز بين تكاليف الشارع المقطوعة والمحتملة فيثبت التنجيز في الأول دون الثاني ، فننتهي الى عدم تَنَجُّز التكليف المظنون ، وهذا هو معنى قبح العقاب بلا بيان.
ويجيب: أن هذا الكلام قد يكون وجيهاً إلا أنَّه يُثبت البراءة الشرعية المستكشفة من بناء العقلاء ، وكلامنا في التنجيز العقلي وقبل النظر في أدلة البراءة الشرعية كحديث الرفع وبناء العقلاء ، ولا ينافي ما قلناه.
وبناءً على مسلك حق الطاعة يمكن التفريق بين القطع بالتكليف وبين غيره من درجات الإنكشاف الأخرى من جهتين:
الفارق الأول: أنَّ القطعَ حُجة في كِلا جانبيه التنجيز والتعذير، ففي موارد القطع بالتكليف يكون القطع مُنجَّزاً للتكليف، وفي موارد القطع بعدم التكليف يكون حُجة للمكلف لو إتفقتْ المخالفة ولا يستحق العقاب، أما ثبوت المنجزية فواضح، وأما المعذرية فلما تقدم من عدم شمول حق الطاعة لموارد القطع بعدم التكليف تَخَصُصاً لا تخصيصاً، بمعنى أنَّ المورد غير قابل للدخول في موارد حق الطاعة ، فيثبت كلا الجانبين في القطع.
أما موارد الإنكشاف غير التام من الظن والشك والإحتمال فيَثبُت فيها جانب المنجزية فقط دون المعذرية، فالظن بالتكليف وإحتماله منجزٌ للتكليف، لكن الظن بعدم التكليف لا يكون معذراً لأنه خلاف منجزية الإحتمال لأن الظن بعدم التكليف يُلازم إحتمال التكليف، وبناءً على مسلك حق الطاعة يكون إحتمال التكليف منجزاً للتكليف فكيف يكون الظن بعدم التكليف مُعذراً مع لزوم إحتمال التكليف المنجز له، فلا تثبت المعذرية لدرجات الإنكشاف الأخرى غير القطع، هذا كله على مسلك حق الطاعة.
وعلى مسلك المشهور لا يَثبت التنجيز ولا التعذير في درجات الإنكشاف الأخرى لأن الإحتمال عندهم ليس مُنجِّزاً للتكليف
الفارق الثاني: أنَّ منجزية غير القطع من درجات الإنكشاف قابلة للردع عنها شرعاً بينما منجزية القطع بالتكليف لا يمكن الردع عنها شرعاً، وهذا هو البحث الذي سندخل فيه مفصلاً وهو هل يمكن للشارع أن يردع عن القطع أو لا يمكن ذلك، فإذا قطع المكلف بالتكليف هل يمكن للشارع أن يردعه عن العمل بهذا القطع ؟
هل يمكن للشارع أن يجعل حكماً مخالفاً لما يقطع به المكلف ولو حكماً ظاهرياً ؟
هل يمكن أن يجعل الترخيص الظاهري في أطراف العلم الإجمالي ؟ وهي من مصاديق هذه المسألة .
لا إشكال في إمكان ذلك في درجات الإنكشاف الأخرى _ الظن، الشك، الإحتمال _ فيمكن للشارع أن يجعل حكماً مخالفاً لها، ويمكن أن يردع عن العمل بالظن لأنه ليس حجة، لكن هل يمكن أن يردع عن العمل بالقطع ؟
هنا يُقال أيضاً هناك فرقٌ بين القطع بالتكليف ودرجات الإنكشاف الأخرى، فلا يمكن الردع عن القطع بالتكليف ويمكن ذلك في موارد الظن والإحتمال.