الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/06/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: القطع / حُجيَّة القطع / مقدار ما يتنجز عقلاً

تقدم أنَّ مولوية المولى هي مولوية ذاتية في مقابل المولوية المجعولة ، لأن المولويات على قسمين مولوية مجعولة ومولوية ذاتية ، والمجعولة لا يُفرق فيها أن تكون مجعولة من قِبل المولى الحقيقي أو تكون مَجعولة من قبل العقلاء أو من قبل شخص آخر أو جهة أخرى ،كل المولويات المجعولة تتحدد سعةً وضيقاً بحدود الجعل ، حتى المولوية المجعولة للأنبياء والأوصياء تتحدد بحدود الجعل ، المولوية الذاتية والمطلقة التي ليس فيها جَعل هي المولوية الحقيقية للمولى سبحانه وتعالى ، بل هذه المولوية يستحيل بالبرهان أن تكون مجعولة ، وإلا لزم التسلسل الى أن ننتهي الى مولوية ذاتية ، فلابد من إفتراض أن المولوية الثابتة للمولى سبحانه هي مولوية ذاتية غير مجعولة.

وهذه المولوية الذاتية ثابتة بملاك المالكية والخالقية والموجِدية ، نحن نُدرك بعقولنا أنَّ هذه المولوية يقتضها كون المولى سبحانه وتعالى هو الخالق والـمُوجِد لنا ، هذه الخالقية والمالكية هي التي تقتضي هذه المولوية ، وهو المالك الحقيقي بل لا مالك حقيقي إلا الله سبحانه وتعالى ، وإن ذُكِرَ في علم الكلام أنَّ هذه المولوية ثابتة بملاكِ وجوبِ شُكر المنعم ، لكن هذا شيء والمدعى شيء آخر ، المدعى ثبوتها بملاك المالكية والخالقية .

ذكرنا فيما تقدم أنَّ القَدر المتيقن الثابت من هذه المولوية هو مولويته سبحانه في تكاليفه المقطوع بها ، ومعنى كونه مولى أنَّ له حق الطاعة على العبد ، فلابد أن يُطيعَ العبدُ المولى في ما يقطع به من التكاليف ولا يجوز له أن يخالف هذه التكاليف ، لأنه خروج عن حق المولوية.

والظاهر أن كون موارد القطع بالتكليف هي القدر المتيقن من مولوية المولى وثبوت حق الطاعة فيها أمرٌ مسلَّم ولا إشكال ولا نزاع فيه ، وإنما الكلام يقع فيما زاد على ذلك في التكاليف المظنونة والمحتملة فهل المولى مولىً بلحاظها ؟ بعبارة أخرة هل له حق الطاعة في التكاليف التي لا يقطع العبد بها ؟ هذا هو محل الكلام والنزاع.

ذكرنا في الدرس السابق البرهان على أن القدر المتيقن من المولوية هو التكاليف المقطوعة ، وقلنا لا يُعقل أنه عندما تتم درجة الانكشاف في القطع يُقال لا مولوية للمولى، عندما تَقِل درجة الإنكشاف في الظن والإحتمال يكون حق الطاعة ثابتاً ، هذا غير معقول، يبقى الكلام في التكاليف المشكوكة والمحتملة، وهنا مسلكان :

المسلك الأول: مَسلك المشهور الذين يؤمنون بأن مُنجِزيَّة التكليف إنما تَثبت عند وصول التكليف الى لمكلف ، والمراد بالوصول عندهم هو الوصول بالقطع واليقين، فإذا وَصلَ التكليف كذلك عندئذٍ يكون مُنَجَزاً عليه وتجب طاعته وتحرم مخالفته عقلاً ، وأما حيث لا يصل التكليف الى المكلف بمعنى لا يَقطع به وإنما يحتمله أو يظنه فلا يَتَنَجَّز عليه التكليف، وقبح العقاب بلا بيان لتأكيد هذا الشيء بمعنى يقبح عقاب مَن لم يَصِل له التكليف بالقطع، فلا يَتَنَجَّز عليه التكليف ويقبح العقاب حتى لو كان التكليف ثابتاً في الواقع ، وهذا يعني أنَّ التكليف في موارد الظن والإحتمال ليس مُنَجَزاً.

آمنوا بهذه القاعدة العقلية ، ولذا مَيَّزوا وفرقوا بين المنجزية وإستحقاق العقاب على المخالفة وبين المولوية لله سبحانه وتعالى ، فكأنه صَعُبَ عليهم أن يقولوا أنَّ مولوية المولى محدودة، صَعُبَ عليهم أن يقولوا بالتبعيض في مولوية المولى وأنه مولى في التكاليف المقطوعة وليس مولى في التكاليف المظنونة ، ففرقوا بين المنجزية وبين مولوية المولى ، فقالوا بالتبعيض في المنجزية فتثبت فيما يقطع المكلف به ولا تثبت فيما يظن به _ والمقصود هنا الظن غير المعتبر وأما الظن المعتبر فملحق بالقطع _ .

ولكن واقع الأمر أنَّ التبعيض في المنجزية يستلزم التبعيض في المولوية، لأن معنى التبعيض أن المولى ليس مولى في التكاليف المظنونة وليس له حق الطاعة فيها، لكن من لوازم المولوية ثبوت هذا الحق فإذا قُلنا بعدم ثبوت هذا الحق في التكليف المظنون والمحتمل فهذا معناه أن المولى ليس مولى بلحاظ هذه التكاليف، فالتبعيض في التنجيز وإستحقاق العقاب على المخالفة يستلزم التبعيض في المولوية، ومن هنا يكون رأي المشهور مُستلزماً للتبعيض في المولوية ، وإن كانوا لا يعترفون به ، لكنه يستلزم ذلك في الواقع ، لأن المنجزية وإستحقاق العقاب على المخالفة مُتَرتبة على المولوية وحق الطاعة ، فإذا كانت المولوية مطلقة وثابتة في جميع الموارد فالمنجزية وإستحقاق العقاب على المخالفة يكون ثابتاً في جميع الموارد ، وإذا قلنا بالتبعيض في المولوية فبطبيعة الحال نقول بالتبعيض في المنجزية وإستحقاق العقاب على المخالفة لتفرعها على المولوية وحق الطاعة سعةً وضيقاً ، هذا مختار المشهور .

المسلك الثاني: مسلك حق الطاعة الذي يُنكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان كقاعدة عقلية، و يظهر من بعض علمائنا المتقدمين كالشيخ الطوسي، هذا الرأيُ يقول أنّا نُدرك بعقولنا أنَّ حقَ الطاعة ثابتٌ في جميع التكاليف المنكشفة للمكلف ولو بإنكشافٍ ضعيف ، فلا يختصُ بخصوص التكاليف المقطوع بها، نعم في موارد القطع بعدم التكليف يأتي البرهان على عدم ثبوت حق الطاعة ، وأما ما لم يقطع المكلف بعدم التكليف فتكون المولوية ثابتة عقلاً وحق الطاعة ثابتٌ كذلك، العقل يدرك ذلك وأن مولوية المولى وحق الطاعة ليست محدودة وإنما هي ثابتة في جميع التكاليف التي يظن بها المكلف أو يحتملها ، والعقل يمنع من مخالفةِ التي التكليف المكَنشِف له بنحو من أنحاء الإنكشاف، هذا مسلك حق الطاعة.

وحيث قلنا أنًّ رأي الشهور يستلزم إختصاص حق الطاعة بالتكاليف المقطوع بها، وأن التبعيض في المنجزية يستلزم التبعيض في مولوية المولى وحق الطاعة له، من هنا يكون النزاع بين أصحاب المسلكين في واقعِهِ وفي جذوره راجعُ الى تحديد مولوية المولى ، فهل هي مطلقة وثابتة في جميع التكاليف أم هي مختصة بالتكاليف المقطوع بها ؟

فلابد من إستئناف بحث في مولوية المولى وهل هي مولوية مطلقة وثابتة في كل تكليف مُنكَشف ولو بالإحتمال أو الظن فيتنجز على المكلف ويستحق العقاب على مخالفته أم هي مولوية محدودة وحق الطاعة يثبت في خصوص التكاليف المقطوع بها .

المشهور لابد أن يلتزم بالثاني ، بينما يلتزم الرأي الآخر بالأول، والإستثناء الوحيد هو صورة القطع بعدم التكليف ، لأن المكلف إذا قطع بعدم التكليف وتَرَكَه لا يستحق العقاب حتى لو كان التكليف ثابتاً في الواقع، وهذا معنى معذرية القطع الذي فرغنا عن أنَّه أحد ركني حُجيَّة القطع ، فإن ثبوت حق الطاعة في هذه الصورة يعني تَنَجَّز التكليف على المكلف وإستحقاق العقاب على مخالفته وهو خُلف معذرية القطع بعد التكليف ، ولذا عدم شمول مولوية المولى في موارد القطع بعدم التكليف يكون من باب التخصص لا من باب التخصيص .

وبعبارة أسهل نقول: أنَّ المنجزية تثبت في صورة إنكشاف التكليف للمكلف ولو بدرجة ضعيفة من الإنكشاف، فيقال تَنَجَّز التكليف عليه، وإما إذا قَطعَ المكلف بعدم التكليف فليس هناك إنكشافاً للتكليف حتى يكون منجزاً عليه، فالتنجيز وإستحقاق العقاب على المخالفة وكذا مولوية المولى كلها لا تشمل موارد القطع بعدم التكليف، وتَشمل موارد القطع بالتكليف بلا خلاف وهو القدر المتيقن كما قلنا ، وإنما الكلام بين أصحاب المسلكين في التكاليف المظنون بها أو المحتملة .

قلنا أنَّ مرجع النزاع في جذوره الى حدود مولوية المولى وحق طاعته فهل هو ثابت مطلقاً أم في موارد خاصة ، ولذا لابد من التركيز على هذا البحث ، وهو بحث عقلي كما هو واضح .

والإحتمالات في موضوع حق الطاعة _في موضوع المولوية الذاتية _ هي :

الإحتمال الأول : أن موضوع حق الطاعة هو واقع التكليف بقطع النظر عن الإنكشاف ، فما دام للتكليف ثبوت في الواقع فللمولى حق الطاعة فيه ولو لم ينكشف للمكلف ، ففي كل مورد يكون هناك تكليف في الواقع فيه يكون مُنَجَّزاً على المكلف ويستحق العقاب على مخالفته وللمولى حق الطاعة فيه .

إلا أن هذا الإحتمال باطلُ ، لأنه يعني لو كان هناك تكليف في الواقع في موارد القطع بعدم التكليف _لأن القطع طريق قد يخطئ _ فتثبت المنجزية وإستحقاق العقاب على المخالفة وهو خُلف ما فَرغنا عنه من أن القطع فيه جانبان المنجزية والمعذرية ، ومعنى المعذرية عدم إستحقاق العقاب فيما لو قطعَ بعدم التكليف حتى لو كان ثابتاً في الواقع.

الإحتمال الثاني : أن موضوع المولوية هو ما يقطع به المكلف من التكاليف، وهو الذي يؤمن به المشهور الذي آمن بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وإنما نَنسِبُه الى المشهور لما قُلناه من أنَّ التَبعيض في المنجزية _ التي يصرح بها المشهور _ يُلازم التبعيض في المولوية ، فيمكن نسبته الى المشهور .

الإحتمال الثالث : أن موضوع المولوية هو مطلق الإنكشاف _ ولو بإنكشاف ضعيف _ يكون موضوعاً لحق الطاعة. .