الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/06/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع - حجية القطع

إنتهينا الى صعوبة إقامة البرهان على صحةِ أحدِ المسلكين في مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، بمعنى أن حُسن العدل وقبح الظلم هل هما أمران واقعيان ثابتان بقطع النظر عن تباني العقلاء ، أو هما أمران مشهوران من التأديبات الصلاحية ولولا تباني العقلاء لما كان لهما واقعية ، وقلنا بعد تعذر البرهان لابد من إحالة الأمر الى الوجدان ، ونحن نُدرك بوجداننا ما إختاره المشهور وهو كفاية الحكم بالحُسن على العدل بمجرد تصوره ، وكذلك الظلم يكفي في الحكم بقبحه مجرد تصوره ، ولا يتوقف الحكم بالحُسن و القبح على أمر آخر من تباني العقلاء وأمثال ذلك .

بناءً على هذا إذا إنطبق عنوان العدل او الظلم على فعلٍ من الأفعال الخارجية حينئذِ يكون ذلك الفعل حسناً أو قبيحاً بإعتبار إنطباق عنوان العدل أو الظلم عليه ، فالحُسن أو القبح ليس واقعياً بالنسبة الى الأفعال الخارجية وإنما يعرض عليها بإعتبار تعنونها بعنوانٍ حَسنٍ بالذات أو عنوانٍ قبيحٍ بالذات.

وعندما نطبق هذا على مسألة حُجيَّة القطع الداخلة في التحسين والتقبيح العقليين يقال أن الشخص الذي يقطع بتكليف المولى سبحانه وتعالى وينكشف له التكليف إنكشافاً تاماً يكون قطعه منجزاً لهذا التكليف ، بمعنى أنَّ إمتثال هذا التكليف _بالفعل أو الترك _ يكون أمراً حسناً ويستحق فاعله المدح ، وعصيانه يكون قبيحاً ويستحق الذم ، وهذا الإستحقاق _ للمدح أو الذم _ يَثبُتُ للفعل _ الذي يتحقق به الإمتثال أو العصيان _ بإعتبار إنطباق عنوانٍ حسنٍ عليه أو إنطباق عنوانٍ قبيحٍ عليه.

فالفعل الذي يتحقق به الإمتثال والطاعة يكون حَسناً بإعتبار إنطباق عنوان الطاعة والإمتثال عليه ، والطاعة وإمتثال أوامر المولى هي عدلٌ لأنه وضع للشيء في موضعه ، وأداء لصاحب الحق حقَّه فينطبق عليه عنوان العدل ، فيكون الفعل حَسناً بمعنى إستحقاق المدح ، لا لحُسنه الذاتي بل لإنطباق عنوان الطاعة والإمتثال التي هي عدلٌ عليه ، ونفس الكلام يُقال في الفعل الذي يتحقق به العصيان و المخالفة ، فالفعل يتصف بالقبح لا لذاته بل لتعنونه بعنوان معصية المولى والتمرد عليه وهو ظلمٌ لأنه سلبُ صاحبِ الحق حقَّهُ فيكون قبيحاً.

وبذلك تثبت المنجزية والمعذرية ، بمعنى أنَّ المكلف إذا إمتثل تكليف المولى فيكون ما جاء به حَسنٌ ويكون مستحقاً للثواب والمدح ، وإذا خالفَ يستحق الذم والعقاب ، وهذا هو معنى المنجزية والمعذرية ، بمعنى أنَّ المكلف إذا قطعَ بالتكليف قطعُه يكون مُنجِّزاً للتكليف عليه ، ومعنى (مُنجِزٌ) أنه إذا إمتثل التكليف يستحق المدح والثواب وإذا خالفه يستحق الذم والعقاب ، وبهذا تثبت الحجية للقطع بإدخالها في التحسين والتقبيح العقليين بهذا المعنى .

ومن هنا يظهر أنَّ النزاع في أصل المسألة _ في التحسين والتقبيح _ لا ينعكس على مسألة حُجيَّة القطع ، ولا علاقة له بمحل الكلام ، ففي محل الكلام نتكلم عن الفعل الذي لا يكون الحُسن والقبح فيه ذاتياً على كلا المسلكين في أصلِ المسألة كما أشارنا الى ذلك ، فكل منهما يَتفق على أنَّ الفعل الخارجي ليس الحُسن أو القبح ذاتياً فيه ، نعم يختلفان _ المشهور والفلاسفة _ في الحُسن والقبح هل هما ذاتيان للعدل والظلم أم هما ثابتان بتباني العقلاء ، ولا خلاف في الفعل المتعنون بعنوان العدل أو الظلم أنَّ حُسنه أو قبحه ليس ذاتياً ، فعلى ،كلا التقديرين حُجيَّة القطع ليست ذاتية في القطع . بمعنى أن الفعل الذي يُمتَثَل به تكليفُ المولى حُسنه ليس ذاتياً والفعل الذي يتحقق به العصيان والتمرد على المولى قبحه ليس ذاتياً ، وهذه مسلَّمة عند الجميع .

والخلاف في أصل المسألة لا ينبغي أن ينعكس على مسألة الحُجيَّة القطع لإتفاقهم على أنها ليست ذاتية وإنما هي تَثبُت بإعتبار إنطباق عنوان العدل على الموافقة والإمتثال ، وإنطباق عنوان الظلم على المخالفة والعصيان ، فيمكن تخريج المنجزية على كلا المسلكين بإعتبار إنطباق العنوان على الفعل الذي يتحقق به الإمتثال أو الفعل الذي يتحقق به العصيان ، هذا ما يمكن أن يقال في محل الكلام.

نعم البحث في أصل المسألة يكون له ثمرة عملية في محل الكلام _ في حُجيَّة القطع _ في مسألة إمكان جعل الشارع حكماً على خلاف الحكم المقطوع به المعبَّر عنه بإمكان ردع الشارع عن العمل بالقطع أو عدم إمكانه ، إما بأن يحكم بحكم مخالف لما قطع به المكلف ، أو يرخص في مخالفة التكليف المقطوع به ؟ كما في القطع الإجمالي بأن يرخص في جميع أطراف العلم الإجمالي المنتج للترخيص في مخالفة التكليف المقطوع به ، وسيأتي بحثه.

فأصل المسألة يؤثر على إمكان الردع عن العمل بالقطع لا على حجية القطع ، وذلك بأن يُقال _ بناءً على رأي الفلاسفة والمحقق الأصفهاني _ لا إشكال في إمكان ردع الشارع عن العمل بالقطع ، وهو واضح ، أو يجعل حكماً مخالفاً لما قطع به المكلف ، أو ترخيصاً ظاهرياً في موارد القطع الإجمالي ، وإنما يمكن ذلك لأن حُجيَّة القطع ليست ذاتية للقطع بالمعنى المتقدم ، بل حُسن العدل ليس أمراً ذاتياً للعدل وأما هو ثابت ببناء العقلاء.

وإذا كان حُسن العدل كذلك فلابد ان تكون حُجيَّة القطع من هذا القبيل ، ولا يُعقل أن يقولوا أنَّ الحُجيَّة ذاتية للقطع وأن الحُسن ثابت للعدل ببناء العقلاء ، ويمكن العكس كما صورناه بأن يكون الحُسن ذاتياً للعدل والحُجيَّة ثابتة للقطع ببناء العقلاء ، وأما إذا كان ثبوت الحسن والقبح للعدل والظلم وثبوت الحُجيَّة للقطع جميعاً ببناء العقلاء فلا مشكلة في إمكان ردع الشارع عن العمل بالقطع ، لأن الحُجيَّة على هذا التقدير لا هي ذاتيةٌ للقطع ولا شرعية بجعل المولى وإنما بجعل العقلاء وتبانيهم ، وقد يخالفهم الشارع في ذلك في موارد ويجعل حكماً مخالفاً للحكم المقطوع به ، يجعل ترخيصاً ظاهرياً يخالف الحكم المقطوع به ، وكثيراً ما يخالف الشارع ما تبانى عليه العقلاء ، وهذا واضح على رأي الفلاسفة.

وأما على رأي المشهور في أصل المسألة _ أنَّ الحُسن والقبح ذاتيان في العدل والظلم _ فينفتح المجال لهذا البحث ، فإذا كان الحُسن والقبح ذاتيين ، وحُجيَّة القطع مندرجة في أصل المسالة ، وأنَّ الفعل الذي يقع به الإمتثال حَسنٌ والذي يقع به العصيان قبيحٌ ، ولكن لا لذات الفعل بل لإنطباق عنوان حسن لذاته _كالطاعة والإمتثال _ أو قبيح لذاته _ كالتمرد والعصيان _ عليه ، فإذا صارَ الفعل حسناً أو قبيحاً ، فهل يمكن للمولى أن يُرخصَ في المخالفة التي هي قبيحة بإعتبار إنطباق عنوان الظلم عليها ؟ هل يمكن أن يمنع القاطع من العمل بقطعه ؟ هل يمكن أن يجعلَ حكماً مخالفاً للتكليف المقطوع به ؟ وهل يمكن أن يجعل تراخيص ظاهرية في موارد العلم الإجمالي الذي يؤدي الى مخالفة التكليف المقطوع به ولو إجمالاً ، أو لا يمكن جميع ذلك ؟ يأتي هذا البحث ، وأما على الرأي الآخر الإمكان واضح ولا موجب للنزاع فيه.

وبتوضيح آخر : القطع على رأي الفلاسفة كالظن ، فكما يمكن أن يردع الشارع عن العمل بالظن _ كما ردعَ فعلاً عن العمل بالظن الحاصل من القياس _ كذلك يمكن أن يردع عن العمل بالقطع ، لأن حُجيته على هذا الرأي ثابتة ببناء العقلاء ويمكن أن يخالفهم في بعض الموارد فلا يكون القطع حجة .

وأما على قول المشهور فهناك محاذير تلزم من ردع الشارع عن القطع ، منها لزوم إجتماع النقيضين بنظر القاطع أو واقعاً ، ومنها التفكيك بين الشيء ولوازمه الذاتية ، كما سيأتي بحثها ومناقشتها .

بعد أن إتضح أنَّ حُسنَ العدل وقُبح الظلم بمعنى إستحقاق المدح وإستحقاق الذم من الأمور الواقعية الثابتة لهذه العناوين نتعرض الى ما ذكره السيد الأستاذ قدس الله نفسه الزكية من الإشكال على طريقة الإستدلال على حُجيَّة القطع بجعلها صغرى لمسألة حُسن العدل وقبح الظلم وإستحقاق فاعل العدل المدح وإستحقاق فاعل الظلم للذم.