الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/06/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع / حجية القطع / مناقشة المحقق الأصفهاني

الوجه الثاني : إنَّ دعوى أنَّ الحسن والقبح أمران ذاتيان في العدل والظلم معناها هو أنه يكفي في إنتزاعهما مجرد إفتراض الشيء ، ولا يتوقف إنتزاعهما من الشيء على ملاحظة ما هو خارج عن حقيقة ذلك الشيء ، فمجرد إفتراض العدل كافٍ في إنتزاع الحُسن منه ، ومجرد إفتراض الظلم كافٍ في إنتزاع القبح منه ، الحسن والقبح ذاتيان للعدل والظلم بمعنى أنه يكفي في إنتزاعهما مجرد إفتراض العدل والظلم ، هذا معنى انهما أمران ذاتيان ، من قبيل الإمكان بالنسبة للإنسان والإستحالة بالنسبة الى إجتماع النقيضين أو إرتفاعهما ، إذ يكفي مجرد إفتراض الإنسان في إنتزاع عنوان الإمكان منه ،كما يكفي مجرد إفتراض إجتماع النقيضين أو إرتفاعهما وتصور ذلك في إنتزاع عنوان الإستحالة منه ، فهل حُسن العدل من هذا القبيل يكفي في إنتزاع الحُسن منه مجرد فرض العدل فقط من دون ملاحظة ما هو خراج عن حقيقته أو لا ؟

يقول المحقق الأصفهاني بالتأمل يظهر أنَّ ألأمر ليس هكذا ، وذلك لأن المراد بالحُسن هو إستحقاق المدح كما أنَّ المراد بالقبح إستحقاق الذم ، يقال أنَّ العدل حسنٌ بمعنى أنَّ فاعله يستحق المدح والثواب ، والظلم قبيح بمعنى أنَّ فاعلهُ يستحق الذم والعقاب ، وهما ليسا من الأمور الذاتية في العدل والظلم ، ليسا من قبيل الإمكان بالنسبة الى الإنسان أو الإستحالة بالنسبة الى إجتماع النقيضين ، وذلك بإعتبار أَنَّ سلب مال الغير نحو من أنحاء التصرف ومقولة خاصة ، ولكن عندما يلاحظ هذا التصرف بالنسبة الى وجود مالك لهذا المال وأنَّه يكره أخذ هذا المال منه عندئذٍ ينتزع أنَّ هذا التصرف غصب ، فتَعنون هذا التصرف الخارجي بكونه غصباً يتوقف على ملاحظة كراهية المالك لأخذ هذا المال ، ومن الواضح أَنَّ كراهية المالك أمر خارج عن حقيقة ذلك التصرف ، فإنتزاع الغصب يتوقف على ملاحظة ما هو خارج عن حقيقة ذلك الشيء ولا يكفي مجرد إفتراض أنَّ هذا تصرف من التصرفات في إنتزاع كونه غضباً ما لم يُلحظ شيء خارج عن حقيقة ذلك الفعل وهو كراهة المالك ، ولذا لو فرضنا أَنَّ التصرف إقترن برضا المالك فلا ينتزع منه عنوان الغصب ، الفعل الخارجي هو أخذُ مالٍ لشخصٍ آخر ، وهو كما لو أخذ مالَ نفسه أو مالَ من أذِنَ له في أخذه ، الفعلُ في الخارج واحدٌ ، وإنما يُنتزع عنوان الغصب في التصرف الأول بإعتبار ملاحظته الى ما هو خارج عن حقيقته وهو كراهية المالك لهذا التصرف ، وبعد إنتزاع عنوان الغصب يترتب إستحقاق الذم.

ونفس الكلام يُطبقه على مورد آخر وهو أنَّ الفعل الخارجي يُنتزع منه أنه مُخلٌ بالنظام ، لكن العنوان لا ينتزع من قَصرِ النظر على ذات التصرف وذاتياته ، وإنما يُنتزع منه عندما يلاحظ كون هذا التصرف موجِباً لإختلال النظام ، فيقال هذا التصرف مُخلٌ بالنظام ، وهذا التصرفُ يُحفظ به النظام ، وإذا إنتُزعَ عنوان الغصب أو الإخلال بالنظام عندئذٍ يترتب إستحقاق الذم وهو القُبح ، لأنه قال أنَّ المراد بالحُسن والقبح إستحقاق المدح وإستحقاق الذم ، وكيف ينتزع القبح بمعنى إستحقاق الذم الذي هو متفرع ٌعلى كون الفعل غصباً أو كونه مخلاً بالنظام من مقام ذات التصرف في مال الغير ؟ والحال أنَّ هذا القبح بمعنى إستحقاق الذم هو متفرعٌ على كون ذلك التصرف غَصباً ، وقد عرفتَ أنَّ إنتزاع عنون الغصب من التصرف موقوف على ملاحظة أمر خارج عن حقيقته وذاتياته وهو ملاحظة كراهية المالك لهذا التصرف ، أو كونه موجباً للإخلال بالنظام ، وهكذا .

إذن الحُسن _ بمعنى إستحقاق المدح _ والقبح _ بمعنى إستحقاق الذم _ لا ينتزعان من ذات التصرف الخارجي ، وهو يعني إنهما ليسا من الأمور الذاتية فيه ، ولو كانا كذلك لإنتُزِعا من مقام الذات ، ولكفى في صحة إنتزاعهما مجرد إفتراض الشيء من دون ملاحظة شيء خارج عن ذات الشيء وذاتياته ، فيثبت أنَّ الحسن والقبح ليسا من الأمور الذاتية المنتزعة من الشيء في مقام ذاته ، فلا يمكن القول أن الحسن والقبح ذاتيان في الأشياء ، هذا الوجه الثاني الذي ذكره.

وتوضيح هذا الوجه : الذاتي في كتاب البرهان ما يصح إنتزاعه من نفس الذات بلا حاجة الى انضمام شيء آخر خارج الذات كإنتزاع الإمكان من الإنسان والإستحالة من المحالات ، وهذا لا ينطبق على حُسن العدل وقبح الظلم ، لأنه يُحدد أن المراد منهما هو إستحقاق المدح والذم .

فإذا صَحَّ هذا الفهم من كلامه _ وفِهم كلامه ليس أمراً سهلاً _ يقول يظهر الفرق بين كون الفعل فيه مفسدة عامة يختل بها النظام أو فيه مصلحة عامة يُحفظ بها النظام وبين كون الفعل حسناً بمعنى إستحقاق المدح و كونه قبيحاً بمعنى إستحقاق الذم ، فرقٌ بين هذا المعنى وبين الحُسن والقبح في محل الكلام ، والفرق يَكمن في أَنَّ الأول من الأمور الواقعية التي يُدركها العقل ولا يتوقف كون الفعل فيه مصلحة عامة أو مفسدة عامة على توافق أراء العقلاء ، توافقت آراؤهم أو لم تتوافق الفعل فيه مصلحة عامة أو مفسدة عامة وهو معنى أنه من الأمور الواقعية ، فلا يُتوهم أنَّ إشتمال الفعل على المصلحة وبالتالي كونه حسناً من المجعولات العقلائية بل هو أمر واقعي خارجي يُدركه العقل ، بخلاف الحُسن بمعنى إستحقاق المدح والقبح بمعنى إستحقاق الذم في محل الكلام ، فإنما هو بإعتبار تَعنون الفعل بعنوان العدل والإحسان ، وإستحقاق الذم بإعتبار تعنونه بعنوان الظلم والغصب ، وهو لا يتعنون بهذا العناوين بلحاظ مقام ذاته بل بلحاظ ما هو خارج عن ذاته كما تقدم ، هذا ما يمكن أن يوضح به كلام المحقق الأصفهاني بحسب الظاهر.

فإذا صحَّ هذا الفهم لكلام المحقق الأصفهاني حينئذ يمكن أن يلاحظ عليه بالملاحظة المذكورة في كلماتهم وهي :

أنَّ محل الكلام ليس في الأفعال الخارجية التي ينطبق عليها عنوان العدل وعنوان الظلم ، المشهور القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين لا يدعون أن الأفعال الخارجية _ التي ينطبق عليها عنوان العدل والظلم _ الحسن والقبح فيها ذاتي ، لا أحد يقول بأن الغضب بما هو حركة خارجية القبح فيها ذاتي ، وإنما يقولون أنَّ عنوان العدل حُسنه ذاتي وعنوان الظلم قبحه ذاتي ، بمعنى أَنَّ الحُسن ينتزع من عنوان العدل بمجرد إفتراضه ولا يتوقف ذلك على ملاحظة أمر خارج عن ذاته وذاتياته ، كما أن عنوان الظلم يكفي في إنتزاع عنوان القبح منه مجرد إفتراضه ولا يتوقف على ملاحظة أمر خارج عن ذاته وذاتياته ، هذا مقصودهم ، ولا يلاحظون الأفعال الخارجية التي ينطبق عليها عنوان الظلم ، هذا التصرف الخارجي الذي يُسمى غصباً لا يقولون قبحه ذاتي ، وإنما عنوان الظلم الذي ينطبق على هذا التصرف قبحه ذاتي ، وعنوان العدل يكون حُسنه ذاتياً فإذن لا كلام في أنَّ الأفعال الخارجية من دون أن تتعنون بعنوان العدل لا تكون حَسنة ،كما أن الأفعال الخارجية من دون أن تتعنون بعنوان الظلم لا تكون قبيحة ، وإنما يثبت لها الحُسن بإعتبار تعنونها بعنوان العدل ويثبت لها القُبح بإعتبار تعنونها بعنوان الظلم ، فلا ينتزعان من مقام الذات بل بإعتبار إنطباق عنوان العدل أو الظلم عليها ، فمحل النزاع والخلاف في نفس عنوان العدل والظلم ، أن إتصاف العدل بالحُسن هل هو أمر ذاتي أم هو ثابت ببناء العقلاء.

المشهور ومن يؤمن بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين يقول هو أمر ذاتي فيه ، ولا يقول أنَّ الحُسن أمرٌ ذاتي في المصاديق الخارجية التي ينطبق عيها عنوان العدل ، وليس محل الكلام في الأفعال الخارجية.

ولكن هذا الملاحظة واضحة ، لذلك نُجل المحقق الأصفهاني أن يكون مقصوده ما فهمناه أو ما فهمه الغير أيضاً ، صحيح هو طبَّق كلامه على الأفعال الخارجية كسلب ذي الحق حقه وهي مقولة وحركة خاصة ، لكن من البعيد جداً أن يقصد مناقشة المشهور في دعوى أنَّ الفعل الخارجي الحُسن فيه ذاتي ، مع أنَّ المشهور لا يقول بذلك ، من البعيد جداً أن لا يُدرك أن المشهور لا يقول بذلك وأنَّ النزاع في عنوان العدل وعنوان الظلم ، وما ذكره في الوجه الثاني لا يثبت به أن حُسن العدل ليس ذاتياً ، ما يثبت بكلامه هو أنَّ الأفعال الخارجية التي ينطبق عليها عنوان العدل وعنوان الظلم هذه القبح والحسن فيها ليس ذاتياً ، وهو مُسلَّم.

والذي يبدو بحسب الظاهر أنَّ إقامة برهان على أحد الرأيين في المسألة لا يخلو من صعوبة ، ومن هنا يُرجع الى الوجدان وكلٌ حسبَ وجدانه ، وبحسب ما ندركه بالوجدان ما ذهب اليه المشهور هو الصحيح بمعنى أن َّحسن العدل ينبع من ذاتيات العدل وأنه أمر ذاتي فيه وواقعي ، ولا يتوقف إتصاف العدل بالحُسن على تباني العقلاء ، وكذا مجرد تصور عنوان الظلم كافٍ في إنتزاع القبح منه ، فيكون الحُسن والقبح أمران ذاتيان بالنسبة الى عنواني العدل والظلم لا بالنسبة الى المصاديق والأفعال الخارجية التي تكون حَسنة بإعتبارِ إنطباق عنوان العدل عليها ، وتكون قبيحة بإعتبار إنطباق عنوان الظلم عليها .