الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

42/06/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع / حجية القطع / رأي المحقق الأصفهاني ومناقشته

ذَكرنا أن مسألة حُجيَّة القطع قالوا بأنها داخلة في مسألة التحسين والتقبيح العقلين ، وحينئذٍ يجري فيها _ حُجيَّة القطع _ النزاع الجاري في أصل المسألة ، والنزاع الجاري في مسألة التحسين والتقبيح العقلين هو النزاع المعروف بين الفلاسفة وغيرهم ، حيث ذهبَ المشهور الى أن حُسن العدل وقبح الظلم أمران واقعيان لا يتوقفان على وجود تباني من قبل العقلاء ، وهما ثابتان بقطع النظر عن التباني ، والعقل يدرك حُسن العدل وقبح الظلم ، أو أنهما أمران عقلائيان ثابتان ببناء العقلاء ، ولو لا تباني العقلاء على حُسن العدل وقبح الظلم لما كانا كذلك .

نفس النزاع يجري أيضاً في حُجيَّة القطع ، فهل هي أمرٌ واقعي حقيقي ثابت بقطع النظر عن تباني العقلاء أم هو أمر جعلي إعتباري بمعنى أن العقلاء إعتبروا حُجيَّة القطع وتبانوا على ذلك حفظاً للنظام ولعدم وقوع الخلل فيه .

ذكرنا أن المحقق الأصفهاني إختار ذلك _ أنَّ حُسن العدل وقبح الظلم أمران عقلائيان وداخلان في المشهورات والتأديبات الصلاحية _ وإستدل عليه بأن مواد القضايا البرهانية منحصرة في الضروريات الستة ، وحيث أن مسألة حُسن العدل وقبح الظلم ليست داخلة في واحدة من هذه الأمور الستة فتخرج عن القضايا البرهانية وتدخل في المشهورات والتأديبات الصلاحية ، والضروريات الستة هي :

    1. الأوليات : هي قضايا مجرد تصور طرفيها يكفي في التصديق بالنسبة ، من قبيل كون الكل أكبر من جزءهِ .

    2. الحسيات : وهي تارة تكون محسوسة بالحواس الظاهرة وتسمى بالمشاهدات ، وأخرى تكون محسوسة بالحواس الباطنة وتسمى بالوجدانيات ، وكلها تدخل في الحسيات ، إلا أن آلة الحس تارة تكون ظاهرة ، وأخرى تكون باطنة كإدراك الإنسان أنَّ له علم وشوق وحُب وأمثال ذلك ، هذه قضايا وجدانية محسوسة بالحواس الباطنة لا بالحواس الظاهرة .

    3. الفطريات : وهي القضايا التي قياساتها معها ، هي قضايا تحمل القياس الذي يثبت صحة النسبة وصحة القضية والإذعان بها ، من قبيل أن الأربعة زوج ، بإعتبار إنقسامها الى متساويين ، وكل ما ينقسم الى متساويين هو زوج.

    4. التجريبيات : وهي القضايا الحاصلة من تكرار المشاهدة وتكرار التجربة .

    5. المتواترات : كالحكم بوجود بلدة إسمها مكة مثلا نظراً لأخبار جماعة كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب .

    6. الحدسيات : هي القضايا الموجبة لليقين ، ويُشترط فيها أن توجب اليقين لأن الكلام عن القضايا البرهانية .

يقول المحقق الأصفهاني ومن الواضح أن إستحقاق المدح على العدل وإستحقاق الذم على الظلم ليس من الأوليات لأنها قضايا مجرد تصور طرفيها يكفي في التصديق بالنسبة ، فمجرد تصور الطرفين _ تصور الكل وتصور الجزء _ كافٍ في الحكم بأن هذا أكبر من هذا والحكم بصحة النسبة ، ومن الواضح أن حُسن العدل وقبح الظلم ليس كذلك ، فإن تصورهما وحده لا يكفي في الإذعان بالنسبة ، بدليل وقوع النزاع في ذلك فالفلاسفة يقولون أن العدل ليس حسناً بذاته وإنما الحسن ثابت بتباني العقلاء ، ولولا تبانيهم لم يكن العدل حسناً ، ووقوع النزاع فيها هو أدل دليل على أنها ليست من الأوليات التي يكفي في الإذعان بالنسبة فيها مجرد تصور الطرفين .

كما أنها ليست من الحسيات ، فحُسن العدل لا هو محسوس بالحواس الظاهرة ولا هو محسوس بالحواس الباطنة من قبيل أنَّ لنا علماً ، أنَّ لنا شوقاً وأمثال هذه الأمور .

كما أنه ليس من الفطريات التي قياساتها معها ، العدل حسنٌ هذا لا يحمل في طياته قياساً يدل على ثبوت النسبة وصحة هذه القضية ،كما هو الحال في قضية الأربعة زوج .

وأما عدم كونه من الثلاثة الباقية _ المتواترات ، التجريبيات ، الحدسيات _ فواضح جداً ، فيَثبت أنَّ قضية حُسن العدل وقبح الظلم ليست من القضايا البرهانية ، فحينئذ تكون من القضايا المشهورة وتدخل في المشهورات ، هذا بيان للمحقق الأصفهاني لتبرير ما إختاره في هذه المسألة ،وله وجه آخر يأتي الكلام فيه .

وهذا الوجه الذي ذكره إعترض عليه بإعتراضات ، ذكرنا في الدرس السابق الإعتراض الأول وحاصله :

إنَّ حُسن العدل وقبح الظلم قضايا ثابتة من البداية ، ثابتةٌ في الوقت الذي لم يكن فيه بشر ، أو فيه واحد أو إثنان ، لم يكن هناك عقلاء وتباني من قبل العقلاء على حُسن العدل ، بل هو موجود وثابت قبل العقلاء وقبل تباني العقلاء ، وهي قضية ثابتة وأزلية .

وفيه : من قال أنها ثابتة في الزمان الأول ، وإثبات ذلك إما بأن نعثر على شخص عاش في الزمان الأول ونطلع على إدراكه ولا وجود لهكذا شخص ، أو ندعي نحن ذلك ونقول أنا نُدرك بعقولنا أن مسألة حُسن العدل قضية أزلية ، ولكن الدعوى بهذا الشكل مصادرة ، لأن الطرف المقابل لا يؤمن بذلك وينكره .

الإعتراض الثاني هو دعوى أننا نرى أن حُسن العدل وقبح الظلم أمور ثابتة حتى لو لم يكن موجباً لحفظ النظام وتركه موجباً للإخلال بالنظام ، فلا يمكن أن يقال أن حُسن العدل وقبح الظلم من الأحكام العقلائية ومما تطابقت عليها أراء العقلاء حفظاً للنظام وإبقاءً للنوع .

وجوابها كالجواب السابق وهو أنها مُصادرة ، من قال أنه بقطع النظر عن الإخلال بالنظام ولو لم يكن ترك العدل موجباً للإخلال بالنظام ، يكون حُسن العدل ثابتاً ؟! وذلك لأن الطرف المقابل لا يرى ثبوته بقطع النظر عن حُسن العدل وقبح الظلم ، فدعوى ثبوتها بقطع النظر عن الإخلال بالنظام مصادرة ، وليست ملزمة للطرف المقابل .

وهاتان المناقشتان قد يُتخلص منها بإدعاء إدراك الوجدان لذلك ، أي أننا ندرك بوجداننا وجود حُسن العدل وقبح الظلم من الزمان الأول في المناقشة الأولى ، ويدعى في المناقشة الثانية أننا ندرك بعقولنا أن مسألة حُسن العدل وقبح الظلم لا علاقة لها بإختلال النظام ، حتى لو لم يكن موجبًا للإخلال بالنظام فرضاً مع ذلك نحن ندرك هذه القضية حُسن العدل وقبح الظلم بالوجدان ، إذا إدُّعي هذا فلا نقاش في الوجدانيات ، ولكنه لا يكون دليلاً برهانياً ملزماً للطرف المقابل ، لأن الطرف الآخر وجدانه لا يساعد على أن قضية حُسن العدل وقبح الظلم أزلية ، ويقول هذه تأديبات صلاحية حَصلت نتيجة تباني العقلاء عليها وإلا لا واقع لها أصلاً ، فلو أدعي الوجدان في هذه الأمور حينئذٍ يكون الدليل وجدانياً ، ولا يكون ملزماً للطرف المقابل ويخرج عن كونه برهاناً .

المناقشة الثالثة وهي المهمة أن يقال للمحقق الأصفهاني ولمن إلتزم بهذا الرأي بأن سيرة العقلاء وتباني العقلاء _ الذي قلتم أنه هو المنشأ لقضية حُسن العدل وقبح الظلم _ يمتنع أن يكون قضية إعتباطية لا سبب لها في هذه المسألة وفي غيرها ، ونفس كونهم عقلاء يعني أن هناك سبباً ومنشأً لهذا التباني ، هو الذي دفعهم الى التباني على قضية من القضايا ، فلابد من مبرر وأمر راجح لهذا التباني في نظر العقلاء على أساسه تبانوا على قضية من القضايا ، فيقال أنها ثبتت ببناء العقلاء .

المناقشة تقول حينئذٍ ننقل الكلام الى هذا الأمر الراجح الذي دفع العقلاء الى هذا التباني ، هذا الأمر الذي بسببه تبانى العقلاء على حُسن العدل وقبح الظلم مثلا على رأي الفلاسفة ، هذا الأمر الذي دفع العقلاء الى هذا التباني هل رجحانه و حُسنه أمر ذاتي فيه أم أن حُسنه مجعولٌ وثابتٌ ببناء العقلاء ؟ إن قلتَ أن حُسنه ذاتي فيه ثبتَ المطلوب ، إذ إنتهينا الى وجود قضايا حُسنها ذاتي ولا تحتاج الى إعتبار معتبر وتباني عقلاء وأمثال ذلك ، وإن قلتَ أنها ثابتة ببناء العقلاء فنسأل ثانيةً إن بناء العقلاء على هذا الأمر الراجح _كحُجيَّة القطع مثلاً _ هل حُسنه ذاتي أم ثابتٌ ببناء آخر للعقلاء ؟ فإن قلتَ أن حُسنه ذاتي فننتهي الى وجود قضايا واقعية الحسن فيها يكون ذاتياً والقبح كذلك ، وإن قلتَ أنه ثابت ببناء العقلاء فننقل الكلام ثالثةً وهكذا لا إلى نهاية فيلزم التسلسل ، فلابد أن نصل وجود قضايا واقعية لا تتوقف على بناء وتباني من قبل العقلاء ، وأن العقل يُدرك هذه الأمور الواقعية ، ودور العقل بالنسبة إليها دور المدرك لا دور الخالق والموجٍد ، فننتهي الى قضايا حُسنها ذاتي بقطع النظر عن بناء العقلاء ، وإذا تم هذا في هذه القضايا أمكن قوله في حُسن العدل وقبح الظلم ، و حُجيَّة القطع أيضاً حُسنها ذاتي ونلتزم بهذا ، هذه هي المناقشة الثالثة .

وهذه المناقشة تارة يكون المقصود بها الرد على من ينكر قاعدة التحسين والتقبيح العقليين فتكون تامة ، لأن الذي ينكر أصل قاعدة التحسين والتقبيح العقليين يقول لا توجد لدينا قضية حسنها ذاتي إطلاقاً ، كل الأمور حُسنها ثابت ببناء العقلاء ، إذا كان هذا هو المدعى فهذه المناقشة تامة ، لأنها تُثبت ضرورة الإنتهاء الى أمور وقضايا حُسنها ذاتي ، وهذا يَبطل ما يُدعى من إنكار أصل القاعدة ، وإلا لزمَ التسلسل كما قُلنا.

وأخرى لا يكون المدعى إنكار أصل التحسين والتقبيح العقليين ، وإنما الطرف المقابل يُنكر كون مسألة حُجيَّة القطع من صغريات هذه المسألة ، فالحُسن والقبح العقلي ثابت ، لا إشكال في وجود أشياء حُسنها ذاتي وقبحها كذلك ، لكن حُجيَّة القطع ليست من هذا القبيل بل هي ثابتة ببناء العقلاء ، فيدعى أن حُسن العدل ذاتي وقبح الظلم أيضاً ذاتي ، لكن الحُجيَّة ليست من الأمور الذاتية للقطع ، وإنما العقلاء لحفظ النظام ومنعاً من الإخلال بالنظام تبانوا على أن قطعَ العبد بتكليف المولى يكون منجزاً عليه ، وقطعَ العبد بعدم تكليف المولى يكون معذراً له ، لنتظيم أمورهم وتجنباً للهرج والمرج ، وهذه غير مسألة التحسين والتقبيح العقلين ، فيؤمن بهذه وينكر كون مسألة حجية القطع هي من هذا القبيل وإنما هي تدخل في المشهورات والتأديبات الصلاحية ،فإذا كان هذا هو مدعى الطرف المقابل فالمناقشة الثالثة لا تكون كافيةً لرده ، لأن الطرف المقابل يؤمن بوجود قضايا حُسنها ذاتي وهذه المناقشة غاية ما يثبت بها أن هناك قضايا يكون حسنها ذاتياً ، وهو لا ينكره ، ولكن مسألة حجية القطع داخلة فيها ومن صغرياتها فلا ، هي مسألة أخرى ، وهذه المناقشة لا تثبت ان الحُجيَّة أمر ذاتي للقطع وإنما تثبت أن هناك قضايا كون حسنها ذاتياً والطرف المقابل يُسلمهُ .

وبعبارة أخرى لا منافاة بين أن تكون حُجيَّة القطع من المشهورات والتأديبات الصلاحية ، ولكن مناشئ هذه القضية هي أمور واقعية ، فتكون من الأمور التي تبانى عليها العقلاء حفظاً لنظامهم ومنعاً لإختلال النظام بَنوا على أن القطع بالتكليف يكون منجزاً والقطع بعدم التكليف يكون معذراً ، ومنشأ هذا التباني يكون إدراكاً منهم للزوم حفظ النظام وقبح الإخلال بالنظام ، ليكن حفظ النظام حسنه ذاتي والإخلال بالنظام قبحه ذاتي ، ويكون هذا المنشأ من الأمور الواقعية ويكون هو المبرر لبناء العقلاء على حجية القطع ، فتكون مسألة حُجيَّة القطع ثابتة ببناء العقلاء وليست أمراً واقعياً ، لو إدَّعى هذه الدعوى فلا تكون هذه المناقشة مناقشة له موجبةً لإبطال دعواه .

والحاصل : أن كون سيرة العقلاء لا تحصل إعتباطاً بل لابد أن تنشأ من أمرٍ راجح أمر مُسلَّم ، لكنه لا يعني كون قضية حُجيَّة القطع قضية عقلية ، فيمكن أن يقال بأنها قضية عقلائية تستند الى إدراك العقل حُسن النظام وقبح الإخلال به وهذا ما دعى العقلاء الى التباني على حجية القطع أي إستحقاق الذم والمدح على موافقته ومخالفته .

هذا هو الدليل الأول للمحقق الأصفهاني لإثبات هذا الرأي ، وذَكرَ بياناً آخر يصلح أن يكون دليلاً ثانياً على مُدَّعاه .