42/06/09
الموضوع: القطع /حجیة القطع/-
لا بأس بأن نقرأ سورة الفاتحة ونهدي ثوابها لأرواح شهدائنا الأبرار وضحايا التفجيرات ، خصوصاً التفجير الأخير في بغداد .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمدهم جميعاً برحمته الواسعة ، ويسكنهم فسيح جناته ويتفضل عليهم برضوانه ، كما أننا نسأله سبحانه وتعالى أن يَمن على ذويهم وأهليهم بالصبر والسلوان وأن يمنحهم أجرَ الصابرين .
هذه المصائب وهذه المحن التي نواجهها ليست شيئاً جديداً بالنسبة لنا تاريخنا حافل بهذه المحن وهذه المصائب ، طالما أُبتلينا بأنواع الاضطهاد والقتل والتشريد والتبعيد والإقصاء والتهميش ، وكأن أعداءنا لا هَمَّ لهم إلا النيل منا والإساءة إلينا ، لكننا بحمد الله على طول الخط تحملنا كل هذه المحن وهذه المصائب بصبر ثابت ووعي وإدراك لحجم مسؤوليتنا التي حملناها على عاتقنا ، وإستطاعت هذه الطائفة الـمُحقَّة أن تتجاوز كل المحن وكل الصعوبات وكل العقبات التي مرَّت عليها ، إستطاعت أن تتحمل كل هذا بفضل الأمل الذي زرعه الأئمة عليهم السلام في نفوس شيعتهم ، الأمل بأن الوضع سيتغير نحو الأحسن ، الأمل بأن الأرض سيملؤها القسط والعدل وتنعم بالسلامة والسعادة ، بعدما ملأت شقاءً وظلماً وجوراً ، عاش الشيعة على هذا الأمل وكان هو الحافز المهم والأساسي في تحمل كل هذه الصعاب ، وهي صعابٌ كبيرة جداً الجبال الرواسي لا تتحملها على ما يحدثنا التاريخ ، إستطاعوا أن يتحملوا كل هذه المصائب وأنواع البلاء الذي صَبَّهُ عليهم أعداؤهم ، إستطاعوا تحمل كل ذلك بفضل هذا الأمل الذي زرعه الأئمة في نفوسهم ، الأمل بأن هناك مستقبل زاهر ينعم بالسعادة يتخلصون به من هذا الظلم والجور الواقع عليهم ، نحن اليوم نعيش هذه المحن وهذه المصائب وأنواع البلاء تحيط بنا ، واليأس من إصلاح أوضاعنا وتحسينها على يد هذه الطغمة الحاكمة الفاسدة ، اليأس يغمرنا في الحقيقة وإذا كان هناك بصيص أمل في نهاية هذا النفق المظلم الذي نعيش فيه فهو أملنا بالمرجعية الحكيمة الرشيدة التي هي المنقذ لنا مما نحن فيه ، والتي هي الجهة الوحيدة الآن القادرة على تصحيح المسار والقادرة على إصلاح ما أفسده هؤلاء الفاسدون نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ لنا مرجعيتنا وأن يجعلها خيمة علينا جميعاً ، وأن يُسددها في خطاها وأن يجعل الصلاح والخير في ما تقرره وفيما تقوله ، اللهم أرنا الحقَ حقاً وأرزقنا إتباعه و أرنا الباطلَ باطلاً وأرزقنا إجتنابه ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
في الدرس السابق قلنا أن هناك إصطلاحات في المقام ، طريقية القطع ، محركية القطع ، منجزية ومعذرية القطع ، المعَبَّر عنها بالحُجيَّة ، وهناك أيضاً إصطلاح وجوب متابعة القطع .
طريقية القطع قلنا أنها عبارة عن الكاشفية والإراءة التامة ، ولا اشكال في ثبوت هذه الطريقية والكاشفية للقطع ولا كلام في ذلك ، وإنما الكلام يقع في أن هذه الكاشفية والطريقية هل هي من ذاتيات القطع أو أنها مجعولة له .
قلنا الصحيح أنها من ذاتيات القطع ، بل القطع هو نفس الطريقية والكاشفية ، ليس شيئاً أخر سوى الكاشفية ، القطع ليس هو شيءٌ له الكاشفية بحيث تكون هناك إثنينية بينهما ، في الحقيقة القطع هو الكاشفية هو الإراءة التامة ، ولذا لا يتصور فيه الجعل ، لأن الجعل يستلزم وجود إثنينية حتى يُجعل هذا لذاك ويحمل هذا على ذاك ، لكن القطع والكاشفية والطريقية شيء واحد ، ولذا لا يتصور فيه الجعل ، ومن هنا يظهر الفرق بين الطريقية بالنسبة الى القطع وبين الحُجيَّة بالنسبة الى القطع ، وهي _ الحُجيَّة _الشيء الآخر الذي سيأتي الكلام عنه ، هناك فرقٌ كبير بين الحجية وبين الكاشفية ، الحجية غير القطع مفهوماً لا يصح القول بأن القطع هو نفس الحجية ، الحجية شيءٌ والقطع شيءٌ آخر هما متغايران مفهوماً ، ولا يصح حمل الحجية على القطع بالحمل الذاتي الأولي ، وإنما يصح حملها عليه بالحمل الشائع الصناعي ، بخلاف الطريقية والكاشفية للقطع ، فإنهما عبارة أخرى عن القطع ولذا يصح حملهما عليه حملاً ذاتياً أولياً ، فيقال : القطعُ طريقٌ ، القطعُ إنكشافٌ تامٌ ، هذا حمل ذاتي أولي لعدم تغاير بين هذه المفاهيم ، على كل حال هذا البحث لا يتعلق غرض الأصولي به ، لما قلناه من أن غرض الأصولي هو إثبات ما يُنجِّز غرض المولى أو يُعذر عنه ، وهو يدور دائماً حول هذا المحور ، وأما حقيقة القطع وواقع القطع وأن الكاشفية الثابتة له هل هي من لوازم ذاته أو هي أمرٌ مجعولٌ له هذا شيءٌ لا يتعلق به غرض الأصولي.
وأما المحركية _ وهي الإصطلاح الثاني _ فقلنا أنها أمر تكويني واقعي لا يَثبُت بجعل جاعل ، هذه المحركية للقطع بمعنى أنَّ القاطع بشيء يتحرك بنحوٍ مناسب لمقطوعهِ ، وأيضاً لا يتعلق به غرض الأصولي ، ماذا يترتب على كون المحركية ثابتة للقطع ؟
أما الإصطلاح الثالث وهو المهم في المقام ، وهو المنجزية والمعذرية للقطع أي الحُجيَّة ، فإن معناها كون القطع منجزاً ومعذراً ، هذا هو الذي يهتم به الأصولي ، ما يُنجز التكليف على العبد وما يكون معذراً للعبد أمام المولى ، حينما يقطع بالتكليف ، يُقال أنَّ القطع يُنجز هذا التكليف المقطوع به على العبد ، والعقل يرى إستحقاق العبد للعقاب والذم فيما لو كان القطع مصيباً وثابتاً في الواقع ، وإذا خالفه يستحق العقاب على تقدير إصابة القطع للواقع ، وإذا قطع بعدم التكليف يكون قطعه بالعدم معذراً له ، بمعنى على تقدير خطأ القطع بعدم التكليف _ أي على تقدير ثبوت التكليف في الواقع _ وكان المكلَّف قاطعاً بعدمه ، قطعُه هذا بالعدم يكون معذراً له ، فلا يكون مستحقاً للعقاب ولا يكون مستحقاً للوم والتوبيخ .
الكلام يقع في ما هو الدليل على ثبوت الحُجيَّة للقطع ، بمعنى كيف يمكن الإستدلال على حُجيَّة القطع بعد أن فرغنا كما تقدم من أن الحجية ليست من اللوازم الذاتية للقطع ، وإنما هي شيء يَثبت للقطع .
الصحيح أنه لا كلام ولا نقاش ظاهراً في ثبوت هذه الحجية للقطع بالمعنى الذي ذكرناه ، بمعنى أن القطع بالتكليف يكون منجزاً لذلك التكليف ، وموجباً لإستحقاق العقاب على المخالفة على تقدير الإصابة ، وأما على تقدير عدم الإصابة يكون هناك تجرياً ولا تكون هناك مخالفة ، فلو قطع المكلف بأنَّ هذا خمر مثلاً ، فإذا خالف وكان هذا خمر في الواقع وشربه يكون مستحقاً للعقاب ، وأما على تقدير أن هذا ماء في الواقع وشِربُه لا يعني ذلك إلا التجري ، وسيأتي بحثه إن شاء الله ، فعلى تقدير الإصابة مخالفة التكليف توجب إستحقاق العقاب ، لأن القطع بالتكليف يكون منجِزاً لذلك التكليف على المكلف ، بمعنى أنه يكون موجباً لإستحقاق العقاب على مخالفته ، كما أنَّ القطع بعدم التكليف يكون عذراً للمكلف فلا يكون مستحقاً للعقاب على تقدير عدم الإصابة ، فالقطع بالإباحة مثلاً يكون معذراً للمكلف حتى إذا كان التكليف ثابتاً في الواقع .
إذن ثبوت الحُجيَّة بكلا جانبيها _ المنجزية والمعذرية _ لا كلام فيه ، وإنما الكلام في كيفية تخريج ثبوت الحُجيَّة للقطع ، فهل الحُجيَّة من اللوازم الذاتية للقطع التي لا تنفك عنها إطلاقاً كالزوجية للأربعة أو أنَّ هذه الحُجيَّة ثابتة للقطع بحكم العقل ، أو ثابتة ببناء العقلاء .
وهذا البحث يقعُ مقدمةً لبحث آخر يأتي التعرض له ، وهو هل يمكن للشارع أن ينهى عن العمل بالقطع أو لا ؟
هناك بحث طويل في أنه هل يمكن للشارع أن يرفع لزوم العمل بالقطع _ الذي يحكم به العقل _ ، وبعبارة أكثر وضوح هل يمكن للشارع في أن يرخص في ترك العمل بالقطع أولا ؟
هذا البحث يظهر أثره في البحث الذي سيأتي وهو هل يمكن إجراء الأصول المؤمنة في أطراف العلم الإجمالي ، هو قطع بالتكليف لكن إجمالي فهل يمكن إجراء الأصول المؤمنة في أطرافه ؟
على القول بأن الحُجيَّة من اللوازم الذاتية للقطع لا يمكن إجراء الأصول في موارد القطع الجمالي لأن هذا يعني التفكيك بين القطع وبين الحُجيَّة ، والمفروض أنَّ الحُجيَّة من اللوازم الذاتية للقطع التي لا تنفك عنه بحسب الفرض .
وأما إذا قلنا بأن الحُجيَّة ليست من اللوازم الذاتية للقطع وإنما هي ثابتة له بحكم العقل ، أو ببناء العقلاء فيمكن القول بإمكان إجراء الأصول المؤمنة في بعض أطراف العلم الإجمالي على الأقل .
إذن الكلام ليس في أصل ثبوت الحُجيَّة للقطع ، بل يبدو أن هذا لا كلام ولا نقاش فيه ، وإنما الكلام في توجيه ثبوت الحُجيَّة للقطع وتخريج ذلك .
الذي يُلاحِظ كلماتهم في المقام يرى بأنهم يرون بأن قضية حُجيَّة القطع ثابتة ومُسلَّمة ، والذي يفهم من كلماتهم هو إدخال هذه المسألة _ حُجيَّة القطع _ في باب التحسين والتقبيح العقليين ، في مسألة حُسن العدل وقبح الظلم ، ومن الواضح أن مسألة التحسين والتقبيح العقليين وحُسن العدل وقبح الظلم يعتبرونها من المسائل العقلية المسلَّمة البديهية التي لا تحتاج الى برهان فإذا دَخلت حُجيَّة القطع في التحسين والتقبيح العقليين حينئذٍ تكون من المسائل البديهية والمسلَّمة .
وتوضيح ذلك بهذا البيان :إذا فرضنا أن المكلف قَطَعَ بالتكليف فالعقل يُدرك حُسن إطاعة هذا التكليف والعمل به ، ويُدرك أيضاً إستحقاق المدح والثواب على هذه الإطاعة ، كما يُدرك قبح ترك العمل بالتكليف المقطوع به ومخالفته وإستحقاق العقاب على هذه المخالفة .
وحُسن إطاعة التكليف المقطوع به يدخل في مسألة حُسن العدل ، وقبح مخالفة التكليف المقطوع به يدخل في مسألة قبح الظلم ، بإعتبار أن إطاعة المولى فيما يُكلفنا به عدلٌ ، لأنه وضع للشيء في موضعه أو إعطاء ذي الحق حقه ، ومخالفة المولى ظلمٌ لأنه وضعٌ للشيء في غير موضعه أو سلب صاحب الحق حقه ، إطاعة المولى إعطاءٌ لحق المولى له ووضع للشيء في موضعه وهو عدل ، كما أن مخالفة المولى ظلم لأنه سلبُ صاحب الحق حقه وهو المولى سبحانه تعالى ، لأن له حق الطاعة على العبد _ على الأقل فيما يقطع به من التكاليف فضلاً عن القول بأن له حق الطاعة فيما نحتمله من التكاليف _ ما يقطع به العبد من التكاليف قطعاً للمولى حق الطاعة على العبد فيها ، والعقل يحكم بذلك ، فإذا خالف يكون قد سلبَ هذا الحق من صاحب الحق وهو عبارة عن الظلم ، إذن حُسن الطاعة يدخل في حسن العدل لأن الطاعة عدل ووضع للشيء في موضعه وإعطاء لذي الحق حقه ، وهو العدل ، وقبح المعصية يدخل في قبح الظلم لأن المعصية ومخالفة المولى ظلم وسلب لصاحب الحق حقه ، فتدخل في مسألة التحسين والتقبيح العقليين .
بعد أن أدخلوا مسألة حُجيَّة القطع _ بمعنى المنجزية و المعذرية _ في مسألة التحسين والتقبيح العقليين إختلفوا تبعاً لإختلافهم في أصل المسألة ، هناك خلاف معروف في أن حُسن العدل وقبح الظلم هل هما أمران واقعيان يُدركهما العقل وليس دور العقل بالنسبة إليهما إلا دور المدرِك ، أو أنهما حُكمان عقلائيان حصلا نتيجة تباني العقلاء عليهما حفظاً للنظام ، وإلا لإختل النظام إذا لم يكن هناك تباني على حُسن العدل وإستحقاق صاحبه الثواب والمدح ، وقبح الظلم وإستحقاق الظالم العقاب والذم ، بناؤهم عليها هو الذي خلقها ، وإلا هذه القضايا ليس لها واقعية ولا وجود لها لولا تباني العقلاء عليها .
هناك خلاف معروف ، المشهور ذهبَ الى أنهما أمران واقعيان يدركهما العقل ، ودوره دور المدرِك فقط ، بينما الفلاسفة ذهبوا الى أنهما أمران عقلائيان حصلا نتيجة تباني العقلاء عليهما ، ولولا التباني لما كان العدل حسناً ولما كان الظلم قبيحاً ، ومِن مَن وافقَ الفلاسفة المحقق الأصفهاني قده عُرفَ عنه هذا الرأي وأنه يرى مسألة التحسين والتقبيح العقلين هما من القضايا التي تبانى عليها العقلاء ولذا أدخلها في باب المشهورات والتأديبات الصلاحية كما في المنطق ، والتي ليس لها واقع إلا التأديب والشهرة ، والتباني على العمل بها لحفظ النظام.
تبعاً لهذا الخلاف في أصل مسألة التحسين والتقبيح العقليين في أن حُسن العدل وقبح الظلم هل هما أمران واقعيان أو أنهما أمران عقلائيان ثابتان ببناء العقلاء ، تبعاً لذلك وقع الإختلاف في جزئية ومفردة من مفردات مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، وهي حُجيَّة القطع فبعد أن أدخلوها في مسألة التحسين والتقبيح العقليين نقلوا الخلاف في أصل المسالة الى حُجيَّة القطع ، فهل هي من الأمور الواقعية الثابتة للقطع بقطع النظر عن تباني العقلاء ووجود عقلاء ، بقطع النظر عن وجود النظام والإخلال به ، بقطع النظر عن هذا كله ،هل لها واقعية أم لا ؟
وهذا من قبيل الإمكان والإستحالة تقول هذا ممكن ، هذا مستحيل ، هذا لا يتوقف على وجود عقلاء وتباني عقلاء عليه ، ولو لم يتبانى العقلاء على ذلك ، ولو لم يكن هناك عقلاء أصلاً فكون إجتماع النقيضين محال أمرٌ ثابت وواقعي لا يتوقف على تباني العقلاء عليه ، حُجيَّة القطع هل هي من هذا القبيل أم هي أمر عقلائي ثابتٌ ببناء العقلاء ؟
فالعقلاء تبانوا على مُنجزية ومعذرية القطع للزوم حفظ النظام ، تبانوا على أن العبد إذا قطع بتكليف المولى يكون قطعه منجزاً للتكليف عليه ، وإذا قطع بعدم تكليف المولى قطعه يكون معذراً له ، ولأنهم تبانوا على ذلك صار القطع منجزاً ومعذراً ، وإلا لإختل النظام العام لهذا النوع البشري .
قلنا أن المحقق الأصفهاني ذهب الى رأي الفلاسفة في المقام وأن حُسن العدل وقبح الظلم من الأمور العقلائية من المشهورات والتأديبات الصلاحية .
نُقِلَ عنه الإستدلال على ذلك[1] بأنَّ المواد البرهانية التي تكون ملزمة للطرف المقابل منحصرة في ستة يُعبَّر عنها بالضروريات الستة ، وهي الأوليات والحسيات والفطريات والتجريبات والمتواترات والحدسيات ، وحُسن العدل وقبح الظلم ليس واحداً منها ، فيتعين أن يكون داخلاً في المشهورات ، نُقِل عنه ذلك .
وهذا عليه عدة إعتراضات نذكرها :
الإعتراض الأول إن حجية القطع _ منجزيته ومعذريته _ كانت ثابتة في زمان لم يكن فيه خليقة أصلاً ، فلا عقلاء ولا تباني لهم ، ولا نوع حتى يكون حافظاً له ، ومع ذلك هذه القضايا ثابتة ، ولا يمكن إنكاره .