الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

41/11/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: التزاحم

كان الكلام في التمييز بين التزاحم الحكمي والتزاحم الملاكي وذكرنا بأن الموجود في كلماتهم أن التزاحم الحكمي هو تزاحم بين الاحكام في مقام الامتثال وهو ينشأ من عجز المكلف عن امتثال كلا الحكمين المتزاحمين، وأما التزاحم الملاكي فالمراد به التزاحم بين الملاكات التي تقتضي جعل الحكم كما اذا كان في فعل واحد جهة مصلحة وجهة مفسدة فمادة الاجتماع لمورد العموم والخصوص من وجه يكون فيها مصلحة تقتضي الوجوب وفيها جهة مفسدة تقتضي الحرمة كما في مثال اكرم العلماء ولا تكرم الفساق فيقع التزاحم بين الملاكات في مادة الاجتماع فكل ملاك يقتضي جعل الحكم على طبقه وقالوا بأن التزاحم الملاكي من شؤون المولى فهو الذي يلاحظ الجهات ويجعل الحكم على طبق الملاك الاقوى وليس للعبد الا الامتثال حتى لو اختلف نظره مع نظر المولى بخلاف التزاحم الحكمي ففيه يعمل المكلف نظره في الاهمية واحتمالها لترجيح احد الحكمين المتزاحمين وحيث لم تثبت الاهمية ولا احتمالها يحكم المكلف بالتخيير بينهما ولا يلتمس دليلاً من الشارع

ثم هل يكفي في تطبيق قوانين باب التزاحم في التزاحم الحكمي مجرد احراز الملاكين بحيث لا نعتبر فيه جعل نفس الحكمين، مثلا اذا فرضنا عدم وجود خطاب شرعي ب(انقذ الغريق) واحرزنا وجود ملاك وجوب الانقاذ في كل من الغريقين اللذين يتزاحم انقاذهما، فهل يكفي هذا لاجراء احكام التزاحم من الترجيح بالاهمية واحتمالها ومع فرض عدم ذلك يحكم بالتخيير او انه لا بد من فرض جعل الحكمين حتى يقع التزاحم بينهما

ذهب المحقق النائيني الى عدم كفاية احراز الملاكين ويعلله بأن عالم تزاحم الملاكات غير عالم تزاحم الاحكام فإن الاول يكون في عالم التشريع وإنشاء الاحكام فعندما يريد المولى أن ينشيء الاحكام على موضوعاتها ويقع التزاحم بين ملاكاتها كما لو كان هناك ملاكاً في الفعل يقتضي الوجوب وملاك يقتضي التحريم، ولا محالة في حالة من هذا القبيل يقع الكسر والانكسار ويشرع المولى الحكم على طبق اقوى الملاكين بحسب نظره واذا لم توجد اقوائية في البين فلا بد أن يحكم بالتخيير فهو تزاحم في عالم تشريع الاحكام

واما التزاحم الحكمي فهو يكون في عالم الامتثال وفي عالم صرف قدرة المكلف الوحيدة وهل يصرفها في امتثال هذا الحكم او يصرفها في امتثال هذا الحكم، ومن الواضح بأن هذا العالم متأخر عن عالم التشريع فهو إنما يفرض بعد فرض الفراغ عن جعل الاحكام على موضوعاتها، فبعد الفراغ عن عالم التشريع يحصل التزاحم في عالم الامتثال

وواضح أن التزاحم الاول يرجع الى المولى فهو الذي يختار احد الحكمين على طبق ما يراه من الاقوائية في أحد الملاكين والعبد ليس له دخل في ذلك بينما في التزاحم الحكمي يكون الترجيح راجعاً الى المكلف فعقله هو الذي يحدد له تقديم الأهم او محتمل الاهمية على الآخر وحيث لا تكون اهمية ولا احتمالها فعقله يحكم بكون المكلف مخير بينهما

ومن هنا يظهر بأن أحكام التزاحم من الترجيح بالاهمية واحتمالها والتخيير لا تجري في التزاحم الملاكي فإن التخيير لا معنى له في عالم تشريع الاحكام فعند تزاحم الملاكان فالمولى يجعل الحكم على طبق الملاك الاقوى

كما لا معنى لتقديم احدهما على الآخر باحتمال الاهمية فلا معنى لجريان الاحكام المذكورة في التزاحم في عالم التشريع وانما يكون لها معنى معقول في عالم الامتثال والتزاحم الحكمي

وهناك رأي آخر يرى بأنه لابد من تحديد المراد بالملاك في البداية فليس المقصود بالملاك في المقام هو المصلحة والمفسدة الموجودة في متعلق التكليف كما لا يراد بها المصلحة القائمة في نفس الجعل بل المراد بالملاك هو مطلق المقتضي والغرض الذي يقتضي جعل الحكم لأن التكليف كسائر الافعال الاختيارية التي لا بد أن تكون صادرة لغرض ما، فلا بد للتكليف من مقتضي وداعي للتكليف وهو المراد بالملاك

وحينئذ عندما لا يجعل الحكم مع وجود الملاك له بهذا المعنى لعجز المكلف عن الامتثال كما في محل الكلام فهذا العجز وإن كان يمنع من جعل الحكم لأن الغرض من جعل الاحكام هو تحريك المكلف نحو الامتثال فاذا كان المكلف عاجزاً فلا معنى لجعل الحكم

ولكن مانعيته عن جعل الحكم لا ترجع الى قصور في المقتضي كما أنه لا يوجد قصور في تعلق الغرض بهذا وانما عدم جعل الحكم راجع الى قصور المكلف في مقام الامتثال، فالمقتضي تام والموضوع تام ولكن هناك قصور من المكلف في مقام الامتثال وهذا من قبيل قصور المولى نفسه لو فرض كعجز المولى عن الكلام وايصال الحكم الى المكلف فبطبيعة الحال لا يجعل الحكم ولكن غرضه متعلق به، والا فالغرض تام وموضوع التكليف تام وانما منع من جعل التكليف قصور في نفس المولى

وفي محل الكلام فالغرض تام وموضوع التكليف تام والمقتضي تام وانما منع من جعل التكليف قصور في نفس المكلف في مقام الامتثال ومن هنا يصدق الفوت بالنسبة الى متعلق التكليف في هذه الحالة فيقال فاته متعلق التكليف لأن الغرض منه تام والمقتضي تام وانما منع منه عجز المكلف وقصوره في مقام الامتثال

ومن هنا يظهر أن التزاحم الملاكي يكون في مورد الاجتماع والتزاحم بين المقتضيات المتنافية في الآثار والتي لا يحرز في كل منها بلوغ مرتبة الغرض الفعلي الذي يقتضي جعل الحكم على طبقه فيتزاحمان في مقام الاقتضاء وفي هذا التزاحم لا يجب موافقة أحدهما تخييراً ولا الترجيح بينهما في الاهمية لأن المقتضي لا يقتضي الموافقة بنظر العقل ما لم يحرز فعلية الغرض

فالتزاحم الملاكي يعتبر فيه التنافي بين مقتضيات الاحكام المتنافية بلحاظ الآثار ولا يعتبر فية التزاحم والتنافي بين الحكمين في مقام الامتثال، ولذا من المعقول جداً أن نفترض التزاحم الملاكي بين الوجوب والاباحة فإن التنافي يقع بين المقتضي للوجوب والمقتضي للاباحة وان لم يكن تنافي بين الوجوب والاباحة ولا اشكال في ان المولى يجعل الحكم على طبق الاقوى من المقتضيين وقد يكون مقتضي الاباحة اقوى من مقتضي الوجوب كما في موارد الحرج والعسر

بخلاف التزاحم الحكمي فهو لا يكون الا في فرض التزاحم بين الملاكات الفعلية المتنافية التي يكون كل واحد منها مورداً للغرض الفعلي الذي يقتضي جعل الحكم بالفعل