الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

40/10/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: في حكم التعارض

كان الكلام في الاستدلال على ان مقتضى الأصل هو التساقط في الدليلين المتعارضين، وكان يبتني على استقصاء الاحتمالات في اعمال دليل الحجية للمتعارضين واحدها هو عدم شمول دليل الحجية لكل من الدليلين المتعارضين فاذا ابطلنا بقية الاحتمالات يتعين هذا وهو معنى التساقط والاحتمالات التي ذكروها ثلاثة ولكن اضافوا اليها احتمالين اخرين ذكرنا الرابع منهما واليوم نذكر الاحتمال الخامس

وهو نظير الاحتمال الرابع بمعنى ان نلتزم بشمول دليل الحجية لكل منهما لكن بنحو مقيد غاية الامر ان التقييد يختلف في الاحتمال الرابع عن الاحتمال الخامس ففي الاحتمال الرابع قيدنا شمول دليل الحجية لكل منهما بترك الاخر وفي الاحتمال الخامس يقيد شمول دليل الحجية لكل منهما بالأخذ به فدليل الحجية يشمل الأول إذا اخذت به وكذا الاخر، فتكون الحجية ثابتة لكل من الدليلين المتعارضين، وهذا التقييد لتلافي الاشكال الذي يرد على الاحتمال الرابع، فهناك قلنا بانه في حالة عدم الاخذ بهما يلزم ان يكون كل منهما حجة فعلا فيؤدي الى التعبد بالمتنافيين، فاستبدل التقييد بترك الاخر الى الاخذ بالدليل، فاذا اخذت بهذا فهو حجة عليك وكذا الاخر وحيث انه لا يمكن الاخذ بهما معا للتنافي بينهما فلا يكون كل منهما حجة بالفعل فلا يكون هذا من التعبد بالمتنافيين

والوجه في هذا الاحتمال هو ان دليل الحجية له اطلاق افرادي وبه يشمل افراد الاخبار وله اطلاق احوالي وبه يشمل هذا الفرد بجميع احواله عملت به ام لم تعمل به، والمحذور انما يلزم من التمسك باطلاق دليل الحجية الأحوالي دون الافرادي فيرتفع المحذور بتقييد الاطلاق الاحوالي لدليل الحجية فيكون شاملا للدليل بقيد الاخذ به فلا يلزم منه التعبد بالمتنافيين لان هذا لا يؤدي الى فعلية الحجية التعبدية لهما معا لانه غير قادر على الاخذ بهما معا لمكان التنافي بينهما بحسب الفرض، ولا داعي لرفع اليد عن الاطلاق الافرادي وهذا لا ينتج التساقط المطلق بل ينتج شمول دليل الحجية لهما معا بهذا النحو

الا ان هذا الاحتمال لوحظ عليه أيضا بملاحظتين:

الملاحظة الأولى: انه في حالة ترك الاخذ بهما معا فكلاهما لا يكون حجة لان حجية كل منهما مشروطة بالاخذ به، فيكون المكلف مطلق العنان حينئذ ويمكنه الرجوع الى الأصول والقواعد المؤمنة وهذا مما لا يلتزمون به باعتبار انهم يلتزمون بوجوب الاخذ باحدهما،

وقد يقال بانهم في حالة من هذا القبيل قد يلتزمون بعدم حجية كل من الدليلين

الملاحظة الثانية: ان هذا الاحتمال لا يساعد عليه الفهم العرفي والارتكاز العقلائي لان الارتكاز العقلائي ان الحجية تجعل للطريق ثم يؤخذ به فمرحلة العمل بالطريق متاخرة عن ثبوت الحجية له فما ذكره من ان الطريق يكون حجة اذا اخذ به وان لم يلزم منه محذور عقلي الا انه خلاف الارتكازات العقلائية، فلابد من استبعاد هذا الاحتمال كما استبعدنا الاحتمال الرابع والأول والثاني فيتعين الاحتمال الثالث وهو عدم شمول دليل الحجية لكل منهما وهو معنى التساقط، وبهذا يكون هذا البرهان تاما.

هذا بناءا على ان دليل الحجية العام دليلا شرعياً تعبدياً تاسيسياً ولعله افتراض لا واقع له في الأدلة، واما بناءا على ان دليل الحجية العام هو بناء العقلاء او هو دليل امضائي لما عليه العقلاء -كما هو الصحيح- فلا اشكال في تعين السقوط في حالة التعارض فانه لم يثبت بناء من قبل العقلاء على العمل بالدليل اذا كان له معارض فيما اذا لم يمكن الجمع بينهما جمعاً عرفياً وعدم وجود مرجح لاحدهما على الاخر

نفي الاحتمال الثالث

وبعد فرض التساقط بين الدليلين المتعارضين يقع الكلام في امكان التمسك بهما لنفي الاحتمال الثالث او لا؟

وبعبارة أخرى: ان الدليلين المتعارضين بعد فرض سقوطهما وعدم شمول دليل الحجية لهما، هل يسقطان عن الحجية بالمرة او ان سقوط المدلول المطابقي الذي يتنافيان فيه لا يمنع من التمسك بهما لإثبات شيء خارج عن دائرة التنافي بينهما يتفقان فيه؟

والمثال الواضح لذلك ما إذا دل دليل على وجوب شيء ودل دليل اخر على حرمته فوقع التعارض بينهما وكل من الدليلين ينفي احتمال الاباحة فهل يمكن ان نتمسك بكل من الدليلين لنفي احتمال الاباحة وان اقتضاها الأصل؟

وينبغي التنبيه على ان محل الكلام هو ما إذا فرضنا عدم العلم اجمالاً بصدق أحدهما ومطابقته للواقع، والا لا يأتي هذا البحث لان الثالث يخالف الواقع الموجود في أحدهما فينتفي الثالث بلا اشكال،

ويتفرع على هذا انه لابد من استثناء صورتين من محل الكلام:

الصورة الأولى: ما إذا كان التنافي بين المتعارضين ذاتيا على نحو التناقض لا على نحو التضاد لان النقيضين لا يرتفعان

الصورة الثانية: ما اذا كان التنافي بينهما ذاتيا بنحو التضاد لكن لم يكن للضدين ثالث كالحركة والسكون فحكمهما حكم المتناقضين،

ومن هنا يظهر ان محل الكلام ينحصر في صورتين:

الأولى: ما اذا كان التنافي بينهما بالعرض

الثانية: اذا كان التنافي بينهما ذاتيا بنحو التضاد وكان للضدين ضد ثالث، كما اذا دل دليل على وجوب شيء ودل دليل اخر على حرمته، فيقع الكلام حينئذ -بعد فرض عدم العلم الإجمالي بصدق احد الدليلين- في امكان التمسك بالدليلين المتعارضين لنفي الاحتمال الثالث