40/10/14
الموضوع: أسباب حصول التعارض بين الأدلة
ذكرنا مثالا على ما يوجب اختلاف الأحاديث وهو عدم الالتفات الى تغير الأوضاع اللغوية وقد طبق ذلك على التعبير بالكراهة فقد يتخيل بان المعنى الاصطلاحي هو الذي كان متداولا بين الروايات ونتيجة لهذا الفهم قد يتخيل حصول التعارض بين الروايات التي تنهى عن موضوع وبين التي تعبر عنه بالكراهة، وقلنا بان هذا نشا من الغفلة عن ان الكراهة لا يراد بها المعنى الاصطلاحي بل ان المراد بها المبغوضية والحرمة فيرتفع الاختلاف
وفي المقابل قد يقال بان الكراهة مستعملة بالمعنى الاصطلاحي ويستشهد لذلك بموارد:
منها ما رواه في الكافي عن العدة عن أحمد بن محمد، قال: كتبت إليه (عليه السلام) جعلت فداك من كل سوء امرأة أرضعت عناقا حتى فطمت وكبرت وضربها الفحل ثم وضعت أيجوز أن يؤكل لحمها ولبنها؟ فكتب (عليه السلام) «فعل مكروه ولا بأس به»[1] فجعله في قبال التحريم وقوله لا باس به أي يجوز الاتيان به وان كان فيه حزازة
ومنها رواية علل الشرائع الواردة في تعليل حلية بقر الوحش وغيرها مما يؤكل من أصناف الحيوانات الوحشية « لِأَنَّ غِذَاءَهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَ لَا مُحَرَّمٍ » ثم يعللها بامور اخرى « وَ لَا هِيَ مُضِرَّةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَ لَا مُضِرَّةٌ بِالْإِنْسِ وَ لَا فِي خَلْقِهَا تَشْوِيهٌ »[2]
وفي المقابل يمكن ان يقصد بغير المكروه هو ان غذائها ليس من الجيف والخبائث التي يشمأز منها الانسان فلا هو محرم شرعا ولا هو مستقذر عرفا فلا دلالة فيها على استعمال الكراهة في الكراهة الاصطلاحية بناءا على هذا الاحتمال
ومنها ما في التهذيب من رواية زرارة عن ابي جعفر (عليه السلام) « ويكره كل شئ من البحر ليس له قشر مثل الورق وليس بحرام انما هو مكروه »[3]
الا ان هذه الرواية يوجد عنها جواب ذكره بعض المحققين بان المراد منها ليس بحرام منصوص عليه في الكتاب الكريم، لان الحرام في الروايات مستعمل في معنيين الاول هو الحرمة الاصطلاحية والثاني ما حرم في الكتاب خاصة، وورد في بعض الروايات ان الامام ( عليه السلام) يقول: « إنّما الحرام ما حرَّم الله ورسوله في كتابه ، ولكنّهم قد كانوا يعافون أشياء ، فنحن نعافها »[4] وعلى هذا يكون معنى (انما مكروه) اي انه محرم بحرمة غير مذكورة في الكتاب الكريم وبناءا على هذا لا يمكن الاستدلال بها
ويظهر من هذا ان هذه على تقدير تمامية بعضها موارد نادرة، والغالب استعمال الكراهة في المبغوضية المناسبة للتحريم ولو سلمنا باستعمال الكراهة بالمعنى الاصطلاحي فان هذا يكشف عن ان الكراهة كما تستعمل في الحرمة الاصطلاحية تستعمل في الكراهة، وعلى كلا التقديرين فلا يمكن بمجرد ورود لفظ الكراهة في رواية ان نحملها على الكراهة الاصطلاحية بل لا بد من اثباتها بقرينة تعين احد المعنيين
وايضا من هذا القبيل ما ورد في كتاب الصوم في مسالة التقبيل في اثناء الصوم فبعض الروايات تنهى عنه وبعضها تعده من المفطرات واخرى تقول لا باس به فهذا نوع من الاختلاف بين الاحاديث وهناك رواية تحل هذا الاختلاف حيث يقول (عليه السلام): « اما الشيخ الكبير مثلي ومثلك فلا باس »[5]
والامام ينبه على تفسير بعض الروايات بتفسير اخر غير ما يفهمه السائل مثل ما ورد في حديث عبدالله بن سنان قال : قلت له : عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال : «نعم ، قلت : يعني سفلته؟ قال : ليس حيث تذهب إنما هو إذاعة سره.»[6]
القسم الثاني : ما لا يكون مرتبطا بالباحث نفسه بل يرتبط باسباب خارجة عنه.
ويمكن ذكر امثلة للاسباب الخارجة التي توجب الاختلاف في نظر الباحث،
فمنها: ضياع كثير من القرائن وعندما تضيع القرينة يفهم من الحديث معنى اخر وهو يصطدم باحاديث اخرى بينما لو لاحظنا القرينة يرتفع هذا الاختلاف، واسباب ضياع القرائن كثيرة، منها التقطيع فهو يؤدي الى ضياع القرائن ونشوء المضمرات فان بعض القرائن لا تذكر الا في نهاية الحديث او في وسطه وبالتقطيع تضيع هذه القرائن، وفي بعض الاحيان ينشأ ضياع القرائن من غفلة الناقل عن تلك القرينة كما في الحديث المعروف (( انت ومالك لابيك)) وظاهره ان ما تملكه لابيك والامام (عليه السلام) اخبره ان هذا الحديث مجزأ عن سياقه وقرينته فقال: « إنما جاء بأبيه إلى النّبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله هذا أبي وقد ظلمني ميراثي من أُمّي فأخبره الأب أنّه قد أنفقه عليه وعلى نفسه ، وقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن عند الرجل شيء أو كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحبس الأب للابن ؟!»[7] فيظهر ان الامام يقول ان هناك سياق يظهر منه معنى اخر فالقضية ترتبط بمورد خاص صرف فيه الاب المال على الابن وعليه وليس فيها معنى عام وفيه قال الرسول (صلى الله عليه واله) ((انت ومالك لابيك))
ويمكن ان يكون ضياع القرائن ناشئاً من كون القرينة ليست لفظية فان الراوي يعتني بالقرينة اللفظية وينقلها وينفى عدم نقلها بامانة الراوي ووثاقته، ولكنه لا يرى نفسه ملزما بنقل القرينة الارتكازية فانه يرى انها موجودة عند كل الناس دون القرينة الحالية، فعندما يصل الينا الحديث يصل مجردا عن قرينته الارتكازية التي كانت موجودة في زمان صدور الكلام
ومن جملة ما يدخل في هذا القسم مسالة النقل بالمعنى اذ لا اشكال في جوازه وقد دلت الروايات على ذلك ففي الكافي بسنده الى داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): « إني أسمع الكلام منك فأريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجيئ قال: فتعمد ذلك؟ قلت: لا، فقال: تريد المعاني؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس.»[8]
وفي رواية اخرى عن محمد بن مسلم قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): «أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص؟ قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس.»[9]
ولكن هذا النقل بالمعنى الذي لا اشكال فيه سبب مشكلة فان الرواة يختلفون في الفهم فقد يفهم بعضهم من الحديث شيئا والاخرون لا يفهمون ذلك
ومما يدخل في هذا القسم مسالة التزوير وشواهده كثيرة فهناك من يزورون على الائمة ويدخلون في كلامهم ما لم يصدر منهم ترويجاً لارائهم ونشراً لافكارهم وقد حذر الائمة من ذلك حتى ان بعض الروايات تقول[10] عرضت على الامام احاديث فانكر منها احاديث كثيرة، وقد ورد عن الامام[11] (عليه السلام) لعن ابي الخطاب والمغيرة لانهما كانا يكذبان على الائمة (عليهم السلام)