الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
38/06/16
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / الأصول العملية/ الاستصحاب
قلنا: أنّ الأنحاء المتصوّرة في المسألة اربعة، النحو الأول والثاني ذكرناهما، والنحو الثالث أيضاً تقدّم وهي فرض الصلاة مع الطهارة الظاهرية تشتمل معظم مراتب المصلحة الموجودة في الصلاة مع الطهارة الواقعية، لكنّ المقدار الباقي من المصلحة يكون لازماً وواجب التدارك ولا يسوّغ الشارع بتفويته. هنا قلنا لا توجد توسعة في دائرة الواجب، بمعنى أنّ الواجب لا يكون هو الجامع بين الصلاة مع الطهارة الواقعية والصلاة مع الطهارة الظاهرية؛ لوضوح أنّ الصلاة مع الطهارة الظاهرية لا تدرك تمام المصلحة ولا معظم المصلحة مع كون الباقي مقداراً غير لازم، وإنّما هي تدرك جزء المصلحة مع كون الباقي مقداراً لازماً، فكيف يخيّر المكلّف ابتداءً بين الصلاة مع الطهارة الواقعية وبين الصلاة مع الطهارة الظاهرية ؟! فلا يوجد هنا توسعة في دائرة الواجب، وكذلك هنا لا يوجد إجزاء، بمعنى أنّه لا تكون الصلاة مع الطهارة الظاهرية مجزية عن الصلاة مع الطهارة الواقعية؛ بل يجب الإتيان بالصلاة مع الطهارة الواقعية عند التمكّن لإدراك المصلحة الواقعية، ومن هنا لا يكون وجوب الصلاة مع الطهارة الواقعية مقيّد بعد الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية؛ بل حتى مع الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية يجب الإتيان بالصلاة مع الطهارة الواقعية.
النحو الرابع: أنّ الصلاة مع الطهارة الظاهرية غير مشتملة على مصلحة الواقع، يعني المصلحة الموجودة في الصلاة مع الطهارة الواقعية، وإنّما تكون الصلاة مع الطهارة الظاهرية موجبة لتفويت الملاك الواقعي على المكلف وموجبة لعدم التمكّن من تحصيل الملاك الواقعي بحيث أنّ المكلف إذا جاء بالصلاة مع الطهارة الظاهرية لا يتمكن من تحصيل الواقع. بعبارةٍ أخرى: أنّ الصلاة مع الطهارة الظاهرية تكون موجية لتعجيز المكلف عن الإتيان بالصلاة مع الطهارة الواقعية بما لها من الملاك.
في هذه الحالة نفترض أنّ وجوب الصلاة مع الطهارة الواقعية يكون مقيّداً بعدم الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية؛ لأنه إذا صلّى مع الطهارة الظاهرية لا يتم امتثال الواقع، لكن هذا هل يعني الإجزاء، مجرّد أن نفترض أنّ وجوب الصلاة مع الطهارة الواقعية مقيّد بعدم الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية باعتبار أنّ الصلاة مع الطهارة الظاهرية موجبة للتعجيز ولعدم قدرة المكلف على امتثال الواجب الواقعي، في هذا النحو هل يكون الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية مجزياً ؟
الصحيح هو أنّه لا يكون مجزياً، باعتبار أنّ وجوب الصلاة مع الطهارة الواقعية حتى لو فرضنا أنه يكون مقيداً بعدم الصلاة مع الطهارة الظاهرية، لكن هذا التقييد إنما نشأ باعتبار عدم القدرة على الإتيان بالواجب الواقعي، باعتبار أنّ المفروض أنّ الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية يوجب عدم قدرة المكلف على الإتيان بالواجب الواقعي، التقييد نشأ من جهة عدم القدرة على الإتيان بالواجب الواقعي عند الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية، هكذا تقييد في الحقيقة مرجعه إلى التقييد في القدرة، بمعنى أن وجوب الصلاة مع الطهارة الواقعية مشروط بالقدرة عليها، وحيث أنّه مع الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية لا يكون المكلف قادراً على الإتيان بالواجب الواقعي بماله من الملاك، سوف يفوته ذلك، فيكون وجوب الصلاة مع الطهارة الواقعية مقيّداً بعدمه، هذا لا يزيد على التقييد بالقدرة، أنه مقيّد بالقدرة على هذا، غاية الأمر أننا بدلاً من أن نقول وجوب الواجب الواقعي مقيّد بالقدرة عليه، نقول هو مقيّد بعدم الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية، باعتبار أنّ الصلاة مع الطهارة الظاهرية موجبة للتعجيز وسلب قدرة المكلف على الإتيان بالواجب الواقعي، مثل هذا التقييد الذي يكون موجباً للتعجيز مع افتراض أنه ليس مشتملاً على تمام مصلحة الواقع، هذا هو المفروض في النحو الرابع، أنّ الصلاة مع الطهارة الظاهرية لا تشتمل على تمام مراتب مصلحة الواقع، مثل هذا لا معنى لأن يقال أنه يكون مجزياً عن الصلاة مع الطهارة الواقعية، كيف يكون مجزياً والحال أننا افترصنا أنه غير مشتمل على مصلحة الواقع، وإنّما قُيّد وجوب الصلاة مع الطهارة الواقعية بعدمه من أجل عدم القدرة، التقييد لا يزيد على التقييد بالقدرة، إنما يجب عليك الإتيان بالصلاة مع الطهارة الواقعية مع القدرة عليها، ومع الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية أنت لا تكون قادراً عليها، فإذن يكون وجوب الواجب الواقعي مقيداً بعدم الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية، مثل هذا، أي الصلاة مع الطهارة الظاهرية التي تكون موجبة لتعجيز المكلف عن الإتيان بالواقع وفوات مصلحة الواقع فقط من دون افتراض أنه يشتمل على مصلحة، مصلحة الواقع ليست موجودة فيه عندما يأتي به المكلف، في مثل هذه الحالة لا يقال لا يكون ما جاء به مجزياً، وإن كان عندما يأتي به يرتفع وجوب الواجب الواقعي؛ لأنه فرضنا ـــــــ مثلاً ـــــــ أنّ وجوب الواجب الواقعي مقيّد بعدمه، لكن هذا لا يعني الإجزاء؛ بل الظاهر عدم الإجزاء، بمعنى أنّ المكلف مطالب عند التمكّن بالإتيان بالواجب الواقعي لإدراك هذه المصلحة التي فاتته عندما جاء بالصلاة مع الطهارة الظاهرية.
ومن هنا يتبيّن أنّ الإجزاء إنّما يكون في الموارد التي يُحكم فيها بتوسعة دائرة الواجب وهو النحو الأول والنحو الثاني المتقدمين، في النحو الأول والثاني فرضنا توسعة دائرة الواجب الذي يرجع في الحقيقة إلى كون الواجب هو الأعم من الصلاة مع الطهارة الواقعية والصلاة مع الطهارة الظاهرية، هنا الإجزاء يكون واضحاً، عندما يأتي بالصلاة مع الطهارة الظاهرية يكون مجزياً حتى إذا فرضنا أنه لا يدرك تمام مصلحة الواقع، وإنّما يدرك معظم مصلحة الواقع كما في النحو الثاني، هنا يقال بالإجزاء. أمّا إذا لم نفترض توسعة في دائرة الواجب، بمعنى أنه بقي الواجب هو الصلاة مع الطهارة الواقعية وكانت الصلاة مع الطهارة الظاهرية لا تشتمل على تمام مصلحة الصلاة مع الطهارة الواقعية، أو لنعبّر تعبيراً يشمل النحو الثالث والرابع، لا تشتمل الصلاة مع الطهارة الظاهرية على ما يكون لازماً من مصلحة الصلاة مع الطهارة الواقعية، وإن كانت في بعض الحالات توجب سقوط وجوب الصلاة مع الطهارة الواقعية كما في النحو الرابع، في مثل هذه الحالة لا وجه للإجزاء والظاهر عدم تحقق الإجزاء.
ومنه يظهر أنّ ما ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) هو الصحيح، بمعنى أنّ مرجع الوجهين إلى وجهِ واحد وإلى جواب واحد، بمعنى أنّ الإجزاء وهو الوجه الأول يستلزم التوسعة في دائرة الواجب، والتوسعة في دائرة الواجب تعني الوجه الثاني، أي أنّ الشرط هو الطهارة الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ، وكون الواجب هو الأعم من الصلاة مع الطهارة الظاهرية والصلاة مع الطهارة الواقعية، الإجزاء يستلزم التوسعة في دائرة الواجب، كما أنّ توسعة الواجب تستلزم الإجزاء، فهما يرجعان إلى شيءٍ واحدٍ تقريباً، فيصح ما ذكره. على كل الصلاة مع الطهارة الظاهرية كانت وافية بملاك الواقع؛ حينئذٍ تثبت التوسعة بشكلٍ واضح ويكون الواجب هو الجامع ويتحقق الإجزاء، وفي هذه الحالة لا مجال لتقييد وجوب الواجب الواقعي بعدم الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية، وإن لم تكن وافية بمصلحة الواقع، أو لم تكن وافية بالمقدار اللازم بمصلحة الواقع، في هذه الحالة لا توسعة، ويبقى الواجب هو الصلاة مع الطهارة الواقعية فقط ولا توجد توسعة، وبالتالي لا إجزاء، حسب القواعد الأولية له بقطع النظر عن الأدلة الخاصة؛ لأنّ المفروض أنّ الصلاة مع الطهارة الظاهرية لا تفي باللازم من مصلحة الواقع، فمع التمكن منه يجب الإتيان به، وهذا معناه عدم الإلزام. وعلى كل حال لابدّ من التكلّم عن هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرت لدفع الإشكال المذكور في محل الكلام.
مرة أخرى نقول: أنّ الإشكال أساساً هو مبني على افتراض حصول اليقين بعد الصلاة بوقوع الصلاة مع النجاسة، وهذا الإشكال يقول: كيف يمكن تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب ؟! أصلاً لا يوجد تطابق ولا انسجام بين السؤال وبين الجواب، زرارة يسأل: لماذا يجب علي إعادة الصلاة في هذا الفرض ؟ الإمام(عليه السلام) يجيبه ويعلل عدم وجوب الإعادة بالاستصحاب. الإشكال يقول: أنّ هذا الاستصحاب، إن كان الملحوظ فيه هو جريانه بلحاظ ما بعد الصلاة، بلحاظ حال السؤال، الآن نريد أن نجري الاستصحاب، فالإشكال فيه واضح، الآن الإعادة ليست نقضاً لليقين بالشك؛ بل هي نقض لليقين باليقين؛ لأنه عنده يقين بوقوع الصلاة مع الثوب النجس، فلا معنى لأن يقال له لا تعيد الصلاة؛ لأنّ الإعادة نقض لليقين بالشك، الذي هو معنى الاستصحاب، وهذا لم ينقض اليقين بالشك لو أعاد، وإنّما نقض اليقين باليقين، التعليل واضح في أنه يفترض أنّ الإعادة نقض اليقين بالشك؛ ولذا نهى عنها؛ لأنه يحرم نقض اليقين بالشك. إذن: الرواية افترضت أنّ الإعادة نقض لليقين بالشك، والحال أنّ الاستصحاب إذا كان جارياً بلحاظ ما بعد الصلاة لا تكون الإعادة نقضاً لليقين بالشك؛ بل نقض لليقين، فإذن: لا يوجد ربط بين السؤال والجواب، لا ربط بين الحكم المعلل وبين التعليل. هذا هو الإشكال.
وأمّا إذا قلنا بأنّ الاستصحاب جرى بلحاظ ما قبل الصلاة، الإشكال يقول: الآن تبيّن خطأ الاستصحاب؛ لأنّه كان شاكاً لا يعلم، جرى في حقه الاستصحاب الذي هو أصل ظاهري يثبت حكماً ظاهرياً موضوعه الشك، فعندما كان شاكاً كان يجري في حقه الاستصحاب، الآنّ تبيّن له يقيناً أنّ الصلاة وقعت مع الثوب النجس، كيف يؤثر الاستصحاب الجاري في ظرف الشك والمرتفع بارتفاع الشك، كيف يؤثر في إثبات عدم وجوب الإعادة الآن ؟ بحيث يقال: أنت الآن لا تجب عليك الإعادة؛ لأنّ الاستصحاب يجري في حقك بلحاظ ما قبل الصلاة. حينئذٍ بالإمكان لمعترضٍ أن يقول كان الاستصحاب يجري في حقي قبل الصلاة، وكان يسوّغ لي الدخول في الصلاة، لكن كيف يُحكم بعدم الإعادة بعد تبيّن أنّ الصلاة وقعت مع النجاسة وأنّ الاستصحاب كان مشتبهاً، وأنّ الحكم الظاهري لم يصب الواقع ؟! كيف يمكن هذا التعليل ؟ هذا هو الإشكال.
الأجوبة التي ذُكرت لحل الإشكال:
بالنسبة للوجه الذي ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وهي مسألة الإجزاء الذي يقول فيه أنّ التعليل بالاستصحاب إنّما هو باعتبار ضم وبملاحظة حال السؤال، وهذا التعليل يصح باعتبار ملاحظة كبرى كلّية هي كبرى اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء، كبرى الملازمة بين الأمر الظاهري وبين الإجزاء، بضم كبرى الإجزاء يصح هذا التعليل؛ لأنّ الاستصحاب وإنّ كان لا يصح به التعليل ابتداءً والإشكال يرِد بهذا الاعتبار، لكن إذا ضممنا هذه الكبرى يمكن تصحيح التعليل بالاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب ليس اجنبياً بالمرّة، وإنّما له دخله في وجوب الإعادة، باعتبار أنه يحقق صغرى تلك الكبرى. لدينا كبرى تقول أنّ الأمر الظاهري يقتضي الإجزاء، هذه الكبرى صغراها أمر ظاهري حتى تقول يستلزم الإجزاء، الذي يحقق الأمر الظاهري هو الاستصحاب، فإذن: الاستصحاب ليس أجنبياً عن الحكم بوجوب الإعادة، هو له دخل في وجوب الإعادة، لكن دخله باعتبار أنه يحقق صغرى لتلك الكبرى، فالإمام(عليه السلام) علل الحكم بعدم الإعادة بالاستصحاب، باعتبار أنه يحقق صغرى الأمر الظاهري، فكأنه يقول له أنت لا تجب عليك الإعادة؛ لأنّ الاستصحاب كان يجري في حقك، والاستصحاب يحقق لك حكماً ظاهرياً، والحكم الظاهري يقتضي الإجزاء وعدم الإعادة، فيصح تعليل عدم الإعادة بهذا الاعتبار بافتراض كبرى كلية يكون الاستصحاب محققاً لصغراها .
هذا الجواب عن الإشكال في حد نفسه معقول ومقبول، لكن المشكلة هي أنّ هناك استهجاناً عرفيـاً لتعليل عدم الإعادة بالاستصحاب، ليس هناك ربط بين الحكم المعلل وبين الاستصحاب مع افتراض أنّ المقصود بالاستصحاب هو الاستصحاب الجاري حال الصلاة، ما هو الربط بين عدم وجوب الإعادة الآن وبين الاستصحاب الجاري الذي تبيّن بطلانه قبل الصلاة ؟ كيف يمكن تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب ؟ يقول: بضمّ هذه الكبرى، هذا الاستهجان العرفي، عدم عرفية التعليل، عدم الربط الذي يدركه العرف بين الحكم المعلل وبين العلّة، هذا إنما يرتفع ونصحح التعليل ويكون التعليل عرفياً وغير مستهجن إذا افترضنا أنّ الكبرى من الأمور المركوزة في أذهان العرف بحيث أنّ العرف يلتفت إليها بمجرّد بيان ما يحقق صغراها، اقتضاء الامر الظاهري للإجزاء مركوز في ذهن العرف، الملازمة بين الأمر الظاهري وبين الإجزاء مركوز في ذهنه، أمر واضح عنده جداً، الإمام(عليه السلام) لا داعي لأن يتحمّل عناء بيان تلك الكبرى؛ لأنّها مركوزة في الذهن العرفي، وإنّما يبيّن الصغرى، فيعلل ويصحّ هذا التعليل(لا تجب عليك الإعادة؛ لأنّ الاستصحاب كان جارياً في حقّك)، والكبرى مركوزة وواضحة لدى العرف؛ حينئذٍ يكون التعليل مقبولاً عرفاً ولا يكون مستهجناً؛ لأنّ هذه الكبرى الغير المذكورة والغير المصرّح بها في الرواية فُرض كونها موجودة في ذهن المخاطَب، فهو يلفت نظره إلى أنّه لديك استصحاب يحقق صغرى هذه الكبرى، فكأنّ الاستصحاب هو الذي يكون موجباً لعدم إعادة الصلاة، لكن باعتبار هذه الكبرى المركوزة في الذهن، فيخرج التعليل عن كونه غير عرفي، وعن كونه مستهجناً.
لكن الواقع ليس هكذا، الواقع أنّ كبرى الإجزاء ليست مركوزة في ذهن العرف وليست واضحة لدى العرف، ليست غير واضحة لدى العرف العام فقط، وإنما لدى العرف الخاص أيضاً غير واضحة؛ لذا وقع الخلاف في إجزاء الأمر الظاهري عن الواقع، فليست أمراً واضحاً أو مسلّماً، وليست من الأمور البديهية، ولم يُشر إليها في الرواية إطلاقاً، لا في سؤال السائل ولا في جواب الإمام(عليه السلام)، فقط الوارد هو التعليل بالاستصحاب من دون افتراض وضوح هذه الكبرى الاستهجان العرفي يبقى على حاله، أنه كيف يمكن تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب ؟ مع كون هذه الكبرى التي ذكرت غير واضحة لدى المخاطب، خصوصاً وأنّ المخاطب هو سأل عن علّة الحكم ولا يريد أن يأخذ الحكم تعبداً، وإنما هو سأل: لمَ ذلك ؟ لماذا لم تجب الإعادة في هذا الفرض ووجبت في الفروض السابقة ؟ هناك في السؤال الأول والسؤال الثاني هناك قال تجب الإعادة، بينما في هذا الفرض الثالث قال لا تجب الإعادة، فطرح زرارة هذا السؤال مع اشتراك كل هذه الفروض ــــــــ كما نبهنا سابقاً ــــــــ في اليقين بوقوع الصلاة مع النجاسة، في الفرض الأول صورة النسيان، في الفرض الثاني صورة العلم الإجمالي، وفي هذا الفرض هناك يقين بوقوع الصلاة مع النجاسة، كل الفروض يوجد فيها اليقين بوقوع الصلاة مع النجاسة، لماذا تجب الإعادة في تلك الفروض ولا تجب الإعادة في هذا الفرض ؟ زرارة يريد أن يعرف سبب الحكم، يريد جواباً يقنعه بعدم وجوب الإعادة هنا، جواب الاستصحاب مع عدم كون تلك الكبرى مركوزة في ذهنه لا يكون مقنعاً لزرارة؛ لأنّ الكبرى غير مركوزة، من دون إشارة إلى تلك الكبرى هذا الجواب غير عرفي؛ بل قد يكون مستهجناً، فيبقى الإشكال على حاله، وهذا الوجه الأول لا يدفع هذا الإشكال الذي هو عبارة عن عدم عرفية التعليل وكون الجواب لا ربط له بالسؤال.
الوجه الثاني: هو الموجود في الكفاية والذي هو عبارة عن توسعة دائرة الشرطية إلى ما تعم الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية. حل الإشكال يكون على أساس أنّ الاستصحاب إنما ذُكر في جواب الإمام(عليه السلام) وعُلل به عدم وجوب الإعادة يحقق صغرى لكبرى، والكبرى ليست هي الإجزاء، وإنما هي في المقام هي كبرى هذه التوسعة بأن نفترض هذه التوسعة وأنّ الشرط في صحة الصلاة ليس هو الطهارة الواقعية؛ بل الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية. هذا هو الشرط، وتكون الصلاة صحيحة واقعاً في كلٍ منهما. سأله زرارة لماذا أعيد الصلاة، قال أنت كان يجري في حقك الاستصحاب، والاستصحاب حكم ظاهري حقق لك الطهارة الظاهرية، الطهارة المستصحبة، والشرط في صحة الصلاة ليس هو خصوص الطهارة الواقعية؛ بل هو الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية، أي الطهارة المستصحبة، فنبهه على الاستصحاب الذي يحقق صغرى هذه الكبرى، إذا فرضنا أنّ التعليل كان بملاحظة هذه الكبرى، في هذا الجواب يقال؛ حينئذٍ يكون التعليل مقبولاً ويكون عرفياً؛ وحينئذٍ يندفع الإشكال.
نفس الملاحظة السابقة على الجواب الأول ايضاً ترِد هنا، وهي أنّ هذا إنما يتم عندما تكون الكبرى واضحة عند العرف وعند المخاطبين، عندما تكون الكبرى واضحة يكون هناك مجال لأن نقول أنّ التعليل يكون عرفياً ويخرج عن حالة الاستهجان، لكنه عندما لا تكون واضحة كما هو الظاهر، كون الشرط في صحة الصلاة هو الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية هذا ليس واضحاً، صحيح أنّ الاستصحاب مع عدم تبيّن خلافه يحقق طهارة ظاهرية ويبني المكلّف عليها، لكن ليس معناه أنه إذا تبين خلافه يتحقق ما هو الشرط واقعاً، الحكم الظاهري يكون حجّة ما دام موجوداً، أمّا إذا تبيّن خلافه يبقى الواقع على واقعه، نقول: الشارع لم يجعل الشرط في صحة الصلاة هو خصوص الطهارة الواقعية، وإنّما هو الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة المستصحبة، هذا إنما يحسن تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب باعتباره يحقق صغرى لتلك الكبرى عندما تكون الكبرى واضحة ومرتكزة في ذهن المخاطب؛ حينئذٍ يمكن تصحيح التعليل وإخراجه عن حدّ الاستهجان، وأمّا إذا لم تكن واضحة كما هي كذلك، فهذا لا يدفع هذا الإشكال.