الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

38/06/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / الأصول العملية/ الاستصحاب

كان الكلام في أنه بناءً على ما هو الصحيح في تفسير الرواية من حصول اليقين بعد الصلاة بسبق النجاسة ووقوع الصلاة مع النجاسة وعدم حصول هذا اليقين قبل الصلاة، قبل الصلاة كان عنده شك وبعد الصلاة حصل له اليقين بسبق النجاسة ووقوع الصلاة مع النجاسة، بناءً على هذا الاحتمال، وبناءً على أنّ الاستصحاب؛ حينئذٍ يجري بلحاظ حال الصلاة لا بلحاظ ما بعد الصلاة، كان هناك إشكال يجري. بناءً على هذا يرِد إشكال أنه لا وجه لتعليل عدم الإعادة بحرمة نقض اليقين بالشك؛ لأنه عندما يحصل اليقين بعد الصلاة بوقوع الصلاة مع النجاسة، الإعادة لا تكون نقضاً لليقين بالشك، وإنّما هي نقض لليقين باليقين.

قلنا أنه في الكفاية ذكر بأنّه ــــــــ سيأتي حل هذا الإشكال في البحث الآتي ــــــــ لو فرضنا أننا عجزنا عن حل هذا الإشكال فهل يمنع هذا من الاستدلال بالرواية على الاستصحاب، أو لا ؟ قال بأنه لا يمنع من ذلك؛ لأنّ الإشكال مشترك الورود، هو كما يرِد إذا حملنا الرواية على الاستصحاب يرِد إذا حملنا الرواية على اليقين. فإذن: هذا الإشكال ليس مختصاً بما إذا حملنا الرواية على الاستصحاب؛ بل إذا حملنا الرواية على قاعدة اليقين أيضاً يرِد هذا الإشكال.

هذا الكلام من صاحب الكفاية(قدّس سرّه) صار مورد اعتراض، والاعتراض ينشأ من أنّ هذا الإشكال إنما يرِد إذا فرضنا حصول اليقين بعد الصلاة بوقوع الصلاة مع النجاسة. بناءً على هذا لا مجال لقاعدة اليقين؛ لأنها متقوّمة بحصول اليقين قبل الصلاة بعد الفحص والنظر وحصول الشك عند رؤية هذا الشيء واحتمال أنه هو نفس النجاسة السابقة أو أنها نجاسة طارئة؛ حينئذٍ تتحقق أركان قاعدة اليقين. فإذا افترضنا حصول اليقين بعد الصلاة؛ حينئذٍ لا مجال لقاعدة اليقين، فالإشكال إنما يرِد إذا قلنا بحصول اليقين بعد الصلاة، ومع القول بحصول اليقين بعد الصلاة لا مجال لقاعدة اليقين، لكن هناك مجال لقاعدة الاستصحاب، فما معنى أنّ الإشكال مشترك الورود ؟ هذا المعترض يقول إذن: الإشكال يختص بحمل الرواية على الاستصحاب، فإذا عجزنا عن حل الإشكال، يمكن حمل الرواية على قاعدة اليقين، فلا يصح الاستدلال بالرواية على الاستصحاب، بمعنى أنّ عدم دفع هذا الإشكال يضر بالاستدلال بالرواية.

في الدرس السابق قلنا: يمكن حمل كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وتصحيح كلامه بأنّ عدم التمكّن من حل الإشكال لا يضر بالاستدلال بالرواية بأن يكون مقصوده هو أنّ الإشكال لم ينشأ من حمل الرواية على الاستصحاب حتى نقول إن لم يمكن حل الإشكال، فلا نحمل الرواية على الاستصحاب ونحملها على قاعدة اليقين، الإشكال لم ينشأ من حمل الرواية على الاستصحاب، وإنما الإشكال نشأ من أنّ قول السائل في الرواية(ثمّ صلّيت، فرأيت فيه) على نسخة التهذيب، أو (رأيته فيه) على نسخة العلل، هذا ظاهر في حصول اليقين بأنّ ما رآه هو نفس ما فحص عنه سابقاً، الإشكال ينشأ من ظهور العبارة في حصول اليقين بسبق النجاسة، فيرِد الإشكال بأنه إذا كان سؤال السائل ظاهر في حصول اليقين، فكيف يعلل الإمام(عليه السلام) عدم الإعادة بحرمة نقض اليقين بالشك ؟! وكأنه يفترض أنّ الإعادة نقض لليقين بالشك، فيُنهى عنها، بينما الإعادة بناءً على حصول اليقين بعد الصلاة ليست نقضاً لليقين بالشك، وإنّما هي نقض لليقين باليقين، فكيف يمكن إيجاد الانسجام بين أنّ السائل فرض حصول اليقين بسبق النجاسة وبين صحة التعليل ؟ صحة التعليل لا تنسجم مع فرض حصول اليقين بعد الصلاة. الإشكال ينشأ من هذا، على أي شيءٍ حُملت الرواية، سواء حُملت الرواية على الاستصحاب، أو حُملت على قاعدة اليقين لا فرق بينهما. وإذا لم نقبل بهذا الظهور، وقلنا أنّ العبارة ليست ظاهرة في حصول اليقين، وإنّما هي ظاهرة في حصول الشك في أنّ ما رآه هل هو نفس ما فحص عنه أو لا؛ حينئذٍ يصح التعليل على كلا التقديرين؛ ولذا هو يريد أن يقول أنّ هذا الإشكال يرِد على كل حال؛ لأنّ الإشكال ينشأ من ظهور هذه العبارة في حصول اليقين بعد الصلاة، ومعه لا يصح تعليل عدم الإعادة بحرمة نقض اليقين بالشك، فيرد الإشكال. فالإشكال حينئذٍ يرِد على كل حال. هذا مقصود صاحب الكفاية(قدّس سرّه).

قد يقال: الصحيح خلافاً لصاحب الكفاية(قدّس سرّه) أنّ هذا الإشكال إذا لم نتمكن من حلّه، فهو يضر بالاستدلال بالرواية، وذلك باعتبار أنّ مصب الإشكال هو نفس الظهور الذي يُستند إليه لاستفادة الاستصحاب من الرواية، وهو ظهور(فصليت، فرأيت فيه) في حصول اليقين بعد الصلاة بسبق النجاسة، وهذا الظهور إنما يكون هو المنشأ لاستفادة الاستصحاب من الرواية باعتبار أنّه مع اليقين بسبق النجاسة ووقوع الصلاة مع النجاسة يستحيل انطباق الرواية على قاعدة اليقين؛ لأنّ المقوّم لقاعدة اليقين هو أن يكون هناك شك، حتى يسري الشك إلى اليقين السابق، فإذن: يستحيل انطباق الرواية على قاعدة اليقين بعد فرض هذا الظهور، لكن لا يستحيل انطباقها على الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة، بلحاظ حال الصلاة يمكن تطبيق الرواية باعتبار أنه في حال الصلاة عنده يقين سابق قبل ظن الإصابة بطهارة الثوب، وبعد ظن الإصابة شكك وفحص ونظر، فلم يرى شيئاً، فصار عنده شك في أنه تنجس الثوب، أو لا ، فأركان الاستصحاب حال الصلاة تكون متوفرة، فيمكن انطباق الرواية على الاستصحاب ولا يمكن انطباقها على قاعدة اليقين. من هنا يُستفاد من الرواية أنها ناظرة إلى الاستصحاب وتطبّق على الاستصحاب. إذن: استفادة الاستصحاب من الرواية ناشئ من ظهور قوله(فصليت، فرأيت فيه) في حصول اليقين بسبق النجاسة بعد الصلاة، هذا الظهور الذي هو منشأ استفادة الظهور من الرواية هو بنفسه محل الإشكال.

فإذن: منشأ ظهور الرواية واستفادة الاستصحاب من الرواية هو نفسه مصب الإشكال، وإلاّ إذا رفعنا اليد عن هذا الظهور ولم نقل أنّ هذه العبارة ظاهرة في حصول اليقين، قلنا فرضاً أنّ العبارة ظاهرة في حصول الشك؛ حينئذٍ لا يرِد الإشكال؛ لأنّ الإعادة حينئذٍ مع الشك تكون نقضاً لليقين بالشك وليست نقضاً لليقين باليقين، فلا يرِد الإشكال حينئذٍ، وبناءً على هذا؛ حينئذٍ إذا رفعنا اليد عن هذا الظهور يرتفع الإشكال ولا يمكن تعيين الاستصحاب في مقابل قاعدة اليقين؛ بل تكون نسبة الرواية إلى كلٍ من قاعدة اليقين والاستصحاب نسبة واحدة كما يمكن تطبيق الرواية على الاستصحاب يمكن تطبيقها على قاعدة اليقين؛ لأنه شكٌ متأخرٌ عن الصلاة ويقين سابق، فيمكن تطبيق الرواية على كلٍ منهما، وبالتالي هذا الإشكال سوف يضر بالرواية؛ لأنّ استفادة الاستصحاب من الرواية يكون مبني على هذا الظهور؛ لأنّ هذا الظهور إذا تمّ يستحيل تطبيق الرواية على قاعدة اليقين ولابدّ من تطبيقها حينئذٍ على الاستصحاب، فيستفاد الاستصحاب من الرواية بهذا الاعتبار، ولكن هذا الظهور هو نفسه مصب الإشكال، فإذا عجزنا عن حل الإشكال، فلا يمكن أن نستفيد الاستصحاب من الرواية، فيضر في الاستدلال بالرواية على الاستصحاب؛ لأنّ استفادة الاستصحاب تكون على أساس هذا الظهور، وهذا الظهور هو مصب الإشكال.

أقول: هذا الكلام مبني على أنه في حالة رفع اليد عن هذا الظهور لا يمكن أن نستفيد الاستصحاب؛ لأنه فُرض أنّ استفادة الاستصحاب من الرواية على أساس هذا الظهور، وبعد رفع اليد عن هذا الظهور تكون نسبة الرواية إلى كلتا القاعدتين على حدٍ سواء هذا الكلام يمكن التأمل فيه، باعتبار أننا حتى إذا رفعنا اليد عن هذا الظهور وقلنا أنّ عبارة(فصليت، فرأيت فيه) ظاهرة في الشك، هذا وحده لا يكفي لأن نقول أنّ الرواية تكون نسبتها إلى كلتا القاعدتين على حدٍ سواء؛ لأنّ تطبيق قاعدة اليقين لا يكفي فيه مجرّد حصول الشك بعد الصلاة؛ بل لابدّ من افتراض حصول يقين قبل الصلاة بعد الفحص والنظر بطهارة الثوب، لابدّ من فرض هذا حتى يكون لدينا يقين بطهارة الثوب قبل الصلاة وشك في طهارته ونجاسته حال الصلاة حصل بعد الصلاة، فيكون هذا شكّاً سارياً إلى اليقين السابق وموجباً لزواله. قاعدة اليقين متقوّمة ليست فقط بالشك بعد الصلاة، وإنّما هي متقوّمة بالشك بعد الصلاة واليقين بعد الفحص والنظر وعدم العثور بطهارة الثوب وعدم نجاسته، تتقوّم بكلٍ منهما، وحصول اليقين بعد الفحص والنظر نستفيده من قول السائل في الرواية: (فنظرت، فلم أرى شيئاً) بعد ظن الإصابة قبل الصلاة، ونحن قلنا أنه لا يمكن أن نستفيد منه اليقين بطهارة الثوب؛ لأنّ العبارة لا تتحمل ذلك وليس مفادها ذلك، العبارة تقول: (فنظرت، فلم أرى شيئاً) ما ينفيه هو رؤية شيء بعد الفحص، أمّا أنه حصل له اليقين بالطهارة بعدم وجود النجاسة في الثوب لا يمكن أن يُستفاد من العبارة، ومن هنا يكون رفع اليد عن ظهور قوله بعد الصلاة(فصليت، فرأيت فيه) في حصول اليقين، هذا لا يجعل نسبة الرواية إلى كلٍ من القاعدتين على حدٍ سواء؛ بل يمكن أن نقول أنه بالرغم من رفع اليد عن حصول حالة اليقين بعد الصلاة، نقول أنّ الرواية ظاهرة في الاستصحاب؛ لأنّ قوله قبل الصلاة(فنظرت، فلم أرى شيئاً) لا يُستفاد منها أكثر من الشك الذي كان مفروضاً وجوده قبل الفحص والنظر(فظننت أنه أصابه.....فنظرت فلم أرى شيئاً) فيبقى هذا شك نفسه على حاله، فإذا كان هناك شك كما نستفيده من العبارة؛ حينئذٍ يمكن تطبيق الرواية على الاستصحاب، لكن بلحاظ اليقين الموجود قبل ظن الإصابة.

إذن: لا نستطيع أن نقول منشأ استفادة الاستصحاب من الرواية هو ظهور قوله بعد الصلاة(فصليت، فرأيت فيه) في حصول اليقين، حتى نقول أنّ هذا هو مصب الإشكال، فإذا لم نستطع حل الإشكال، فلا نستفيد الاستصحاب من هذه الرواية، فيكون عدم حل الإشكال مانعاً من الاستدلال بالرواية على الاستصحاب؛ بل نقول حتى مع غض النظر عن هذا الظهور بعد الصلاة، حتى مع افتراض حصول الشك بعد الصلاة، مع ذلك يمكن أن نقول باستفادة الاستصحاب من الرواية على أساس أنه لدينا يقين سابق قبل ظن الإصابة بطهارة الثوب، ولدينا شكٌ لاحقٌ بعد الفحص والنظر، هذا الشك اللاحق نستفيده من قوله: (فنظرت، فلم أرى شيئاً)؛ إذ لا يُستفاد منه حصول اليقين، فتبقى الحالة التي كانت موجودة قبل الفحص هي موجودة أيضاً بعد الفحص، المنفي هو رؤية شيء، وهذا لا يعني حصول اليقين، فيمكن أن يُستفاد الاستصحاب منها على هذا الأساس، وليس مبنياً على هذا الظهور حتى يقال أنّ الاستدلال بالرواية على الاستصحاب غير ممكن؛ لأنّ منشأ استفادة الاستصحاب هو محل الإشكال، محل الإشكال هو الظهور بلا إشكال، لكن يمكن تطبيق الاستصحاب على الرواية ويبقى الإشكال وهو أنّ كيف يصح تعليل عدم الإعادة بحرمة نقض اليقين بالشك، فلابدّ من افتراض أنّ الرواية تحمل شيئاً آخر كما سيأتي في الحلول الآتية ويكون لازم ذلك هو صحة هذا التعليل، يعني هناك شيء مفترض في الرواية على أساسه يصح التعليل بالاستصحاب، لكن بضم هذا الشيء يكون تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب وبحرمة نقض اليقين بالشك تكون صحيحة.

الذي أريد أن أقوله هو: أنّ ظهور قوله(فصليت، فرأيت فيه) في حصول اليقين، وإن كان هو منشأ الإشكال، لكنّه لا ينحصر به استفادة الاستصحاب؛ بل يمكن استفادة الاستصحاب من شيءٍ آخر، وإن فرضنا عدم حصول هذا الظهور؛ لأنّ فرض الشك بعد الصلاة لا يمنع من استفادة الاستصحاب، يمكن أن نستفيد الاستصحاب ، ليس مصب الإشكال هو نفس الشيء الذي نستفيد منه الاستصحاب، وإنّما ما نستفيد منه الاستصحاب هو شيء آخر ومصبّ الإشكال شيء آخر. إذن: بالإمكان أن نقول أنّ هذا لا يؤثر على استفادة الاستصحاب من الرواية والاستدلال بالرواية على الاستصحاب؛ لأنّ مصب الإشكال هو شيء آخر.