الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

38/06/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / الأصول العملية/ الاستصحاب

فرغنا من الصحيحة الأولى التي استُدلّ بها على الاستصحاب وتبيّن من خلال البحث السابق أنّ دلالتها تامّة على الاستصحاب كقاعدة كلّية من دون أن تختص بموردها الذي هو باب الوضوء .

الآن ننتقل إلى الصحيحة الثانية لزرارة، وهذه الصحيحة أيضاً استُدل بموضعين منها على الاستصحاب كقاعدة كلية، وهي تتضمن عدّة أسئلة يسألها زرارة عن الإمام(عليه السلام) والاستدلال بها يكون بالسؤال الثالث مع جوابه، والسؤال السادس مع جوابه. هذه الرواية رواها الشيخ الطوسي(قدّس سرّه) في التهذيب[1] ورواها الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) في العلل [2] ، الشيخ الطوسي(قدّس سرّه) رواها في التهذيب غير مسندة إلى الإمام(عليه السلام) وإنّما قال: ( عن زرارة، قال: قلت له) من دون أن يذكر أسم الإمام الذي سأله، فتكون مضمرة بحسب ما في التهذيب، لكن الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) رواها في العلل بسندٍ صحيح عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) فتكون مسندة في رواية العلل، والطريق الذي ذكره للرواية في العلل طريق صحيح بلا إشكال، فتكون الرواية معتبرة بطريق الصدوق ومسندة، وبطريق الشيخ الطوسي(قدّس سرّه) تكون مضمرة، لكنّها أيضاً معتبرة بناءً على ما تقدّم من أنّ الإضمار في هذه الروايات خصوصاً إذا كان من قِبل زرارة غير ضائر في سند الرواية وفي صحتها. الرواية معتبرة بكلا الطريقين.

نقرأ الرواية كما هي في التهذيب، هناك اختلافات بين ما نقله الشيخ الطوسي(قدّس سرّه) في التهذيب وبين ما نقله الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) في العلل، اختلافات قد تكون مؤثرة في بعض الموارد على ما سيأتي، نقرأ ما في التهذيب، (قال: قلت له اصاب ثوبي دم رعاف، أو غيره، أو شيءٍ من مني، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له من الماء، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت، ثمّ أني ذكرت بعد ذلك. قال: تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه، فطلبته، فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته، قال: تغسله وتعيد). في هذا السؤال الثاني الذي ليس هو موضع الاستدلال بالرواية واضح أنّ السؤال عن صورة العلم الإجمالي، إذا علم إجمالاً بنجاسة الثوب، لكن لم يقدر على تعيين موضع هذه النجاسة، وسؤاله هو أنّ هذا الفحص وعدم العثور على النجاسة مع فرض العلم الإجمالي هل يكفي أو لا يكفي ؟ الإمام(عليه السلام) أجابه بأنّ هذا لا يكفي؛ بل يجب إعادة الصلاة كما يجب غسل الثوب.

بعبارةٍ أخرى: كأنّ الإمام(عليه السلام) يريد أن يقول له لا فرق بين العلم التفصيلي بالنجاسة وبين العلم الإجمالي بالنجاسة، كلٌ منهما يمنع من صحة الصلاة، كما أنه في كل منهما يجب غسل الثوب، بالنتيجة هو يعلم بأنه صلّى في ثوب نجس، غاية الأمر مرّة يعلم تفصيلاً بالموضع الذي اصابته النجاسة كما في السؤال الأول، لكن عرض له النسيان، وأخرى يعلم إجمالاً بأنّ الثوب أصابته النجاسة ولم يستطع تحديد موضعه، فحصه وعدم عثوره على النجاسة لا يؤثر؛ لأنه صلى في ثوب نجس، فيحكم بوجوب إعادة الصلاة، وبوجوب غسل الثوب. ولا ينبغي أن يُفهم من قوله: (فطلبته فلم أقدر عليه) أنه تبدلّ علمه الإجمالي إلى الشك، وإنّما يُفهم منها أنه فارغ عن اصل إصابة النجاسة للثوب، وإنما فحص عن موضعه، فلم يقدر على تشخيصه، مع العلم بإصابة الدم لهذا الثوب، وليس المقصود بذلك تبدل العلم الإجمالي إلى الشك؛ وحينئذٍ يكون الجواب في الرواية واضح؛ لأنه على القاعدة، علمٌ بإصابة النجاسة للثوب وهو صلّى بثوبٍ نجس.

السؤال الثالث: (قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت، فلم أرى شيئاً، ثمّ صلّيت فرأيت فيه، قال الإمام(عليه السلام): تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: ولمَ ذلك ـــــــ واضح أنّ زرارة لا يسأل أسئلة يريد فيها فقط صدور فتوى من الإمام(عليه السلام)، وإنّما يريد أن يعرف مدارك هذا الحكم ــــــــ قال: لأنك كنت على يقينٍ من طهارتك، ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً). علل الإمام(عليه السلام) عدم وجوب إعادة الصلاة بأنك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً.

هذه الفقرة هي موضع الاستدلال الأول على الاستصحاب في هذه الصحيحة. هنا طُرحت احتمالات في تفسير هذا السؤال وجوابه، أنه ما هو المقصود بهذا السؤال ؟ وهذه الاحتمالات تؤثر في الاستدلال بالرواية:

الاحتمال الأول: أن يكون المقصود بالسؤال هو أنّ هذا المكلّف الذي ظنّ بإصابة النجاسة للثوب والذي قال: ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أرى شيئاً، أن تُفسّر هذه العبارة بأنه علم بعدم النجاسة عند النظر والفحص، بأن حصل له العلم بطهارة الثوب وعدم نجاسته عند الفحص وعدم العثور على النجاسة، ثمّ وجد نجاسة بعد الفراغ من الصلاة، وهذه النجاسة فيها احتمالان: الأول: احتمال أنها نفس النجاسة التي فحص عنها قبل ذلك ولم يعثر عليها، الآن هذه النجاسة التي عثر عليها بعد الصلاة هي نفس تلك النجاسة. الثاني: احتمال أنّها نجاسة أخرى طارئة بعد الصلاة. في هذه الحالة، بناءً على الاحتمال الأول في تفسير العبارة؛ حينئذٍ يمكن تطبيق الاستصحاب على مورد الرواية في هذا السؤال الثالث، لكن الاستصحاب هنا ينطبق بلحاظ حال ما بعد الصلاة لا بلحاظ حال الصلاة، والسر في ذلك هو أنّ هذا المكلف لديه يقين بطهارة الثوب قبل عروض هذه النجاسة، هذا الركن الأول من أركان الاستصحاب(اليقين بطهارة الثوب سابقاً) بعد الصلاة يشك في ارتفاع هذه الطهارة أو بقائها؛ لأنّ هذه النجاسة التي وجدها بعد الصلاة إن كانت هي نفس النجاسة التي فحص عنها قبل الصلاة، فهذا معناه أنّ الطهارة ارتفعت حال الصلاة، أمّا إذا كانت هي طارئة حال الصلاة، إذن: عنده يقين بطهارة الثوب وشكٌ حال الصلاة في ارتفاع الطهارة أو بقائها، فتتحقق أركان الاستصحاب، فيمكن تطبيق الاستصحاب عليه. الإمام(عليه السلام) يقول له: لا يجب عليك إعادة الصلاة؛ لأنّك على يقين من طهارة الثوب وتشك في ارتفاع هذه الطهارة حال الصلاة. صحيح هو بعد الصلاة يعلم أنّ ثوبه أصابته نجاسة، لكن يحتمل أنها نجاسة طارئة ليست موجودة حال الصلاة. إذن: حال الصلاة لا يقين عنده بنجاسة الثوب، وإنما عنده شكٌ فيه. فبلحاظ حال الصلاة يقين سابق بطهارة الثوب وشكٌ في بقاء هذه الطهارة أو ارتفاعها؛ فحينئذٍ يقول له لا ينبغي لك أن تخلط اليقين بالشك. ويعللّ صحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها بذلك.

أيضاً يمكن تطبيق قاعدة اليقين على مورد الرواية، بافتراض حصول اليقين بطهارة الثوب بعد الفحص، لا نلتفت إلى اليقين الموجود قبل عروض النجاسة، هذا الذي طبّقنا عليه الاستصحاب، وإنّما نفترض حصول يقين بطهارة الثوب بعد الفحص وعدم العثور على النجاسة؛ لأنّ هذا بعد أن فحص ولم يعثر على النجاسة حصل له يقين حال الصلاة بطهارة الثوب، هذا اليقين الحاصل بعد الفحص لا إشكال أنه يزول بوجدان نجاسةٍ بعد الصلاة يُحتمل أن تكون هي نفس النجاسة التي فحص عنها حال الصلاة، فيكون الشك شكاً سارياً إلى ذلك اليقين وموجباً لتزلزله وتبدله وهو مورد قاعدة اليقين. يقين بطهارة الثوب حاصل نتيجة الفحص وعدم العثور، بعد ذلك وجد نجاسة، صحيح هو ليس لديه يقين بأنها نفس النجاسة التي فحص عنها، لكنّه يحتمل أنها نفس النجاسة التي فحص عنها ولم يعثر عليها، وهذا يوجب تزلزل ذلك اليقين، هذا الشك الساري، الشك الحاصل بعد الصلاة يسري إلى اليقين، لكن ليس اليقين بطهارة الثوب قبل عروض النجاسة، هذا اليقين لا يتزلزل بهذا الشك، هو يبقى على يقين من طهارة الثوب قبل عروض النجاسة، اليقين الذي يتزلزل بهذا الشك هو اليقين الذي يُفرض حصوله بعد الفحص وعدم العثور على النجاسة حال الصلاة، هذا اليقين لا إشكال أنه يتزلزل ويزول بهذا الشك الساري، يزول بوجدان نجاسة في الثوب بعد الصلاة يحتمل أن تكون هي نفس النجاسة السابقة، فيمكن تطبيق قاعدة اليقين على هذا المورد كما يمكن تطبيق قاعدة الاستصحاب.

وبعبارة أخرى: مرّة نلتفت إلى اليقين الموجود قبل عروض النجاسة؛ حينئذٍ تنطبق قاعدة الاستصحاب، يقين سابق بطهارة الثوب وشكٌ حال الصلاة في أنّ طهارة الثوب التي كان على يقين منها هل هي باقية أو مرتفعة ؟ وقلنا أنّ سبب هذا التردد هو؛ لأنّ هذه النجاسة التي عثر عليها بعد الصلاة إن كانت هي نفس النجاسة التي فحص عنها، هذا معناه أنّ يقينه السابق بالطهارة زال، وأمّا على تقدير أن تكون هذه النجاسة طارئة، بالنتيجة هو يشك، لا يقين عنده بنجاسة الثوب حال الصلاة. يقين سابق بطهارة الثوب ولا يقين حال الصلاة بنجاسة الثوب، شكٌ في بقاء الطهارة وعدمه، فيستصحب بقاء الطهارة . ومرّة نلتفت إلى اليقين الحاصل بأن نفترض أنه بعد النظر والفحص وعدم العثور تيقن بعدم نجاسة الثوب، هذا اليقين بطهارة الثوب وعدم نجاسته بلحاظ الشك الذي يحصل بعد الصلاة يكون مورداً لقاعدة اليقين؛ لأنّ هذا الشك يسري قهراً إلى هذا اليقين لا إلى ذاك اليقين الحاصل قبل عروض النجاسة.

فإذن: حسب التفسير الذي نفسّر به الرواية يمكن تطبيق قاعدة اليقين ويمكن تطبيق قاعدة الاستصحاب. إذا لاحظنا اليقين قبل عروض النجاسة تنطبق قاعدة الاستصحاب؛ لأنّ هذا الشك لا يسري إلى ذاك اليقين ولا يوجب زواله، بينما إذا لاحظنا اليقين الحاصل بعد الفحص وعدم العثور على فرض حصوله؛ حينئذٍ تكون الرواية مورداً لقاعدة اليقين، هذا إمكان احتمال ــــــــ نحن نتكلم عن مجرّد احتمالات ثبوتية ـــــــ أن تكون الرواية مورداً لقاعدة اليقين واحتمال أن تكون مورداً لقاعدة الاستصحاب. أمّا في مقام الإثبات فيأتي البحث فيه إن شاء الله.

الاحتمال الثاني: في تفسير العبارة. أن نفترض أنه بعد الفحص نظر فلم يرى شيئاً، نفترض أنه لم يحصل له العلم بالطهارة حال الصلاة، بعد الصلاة وجد نجاسة في الثوب وحصل له العلم ـــــــ نفترض عكس الصورة السابقة ــــــــ بأنّ ما وجده هو نفس ما فحص عنه.

إذن: هو حال الصلاة لم يحصل له العلم بنجاسة الثوب، لكن بعد أن وجد النجاسة بعد الصلاة حصل له العلم بأنّ هذه النجاسة التي وجدها هي نفس ما فحص عنه سابقاً، وأنّ هذه النجاسة التي وجدها كانت سابقاً موجودة من البداية. قوله: (فنظر فلم يرى شيئاً) لا نفسّرها بحصول العلم له بطهارة الثوب حال الصلاة كما في الاحتمال الأول، وقوله: (فرأيت فيه) يعني فرأيتها فيه، كما هو الموجود في العلل، يعني رأيت النجاسة فيها قبل ذلك. نفسّر هذه العبارة بنفس ما موجود في العلل، يعني رأيت النجاسة التي كنت فحصت عنها قبل ذلك.

إذن: حال الصلاة لا يوجد علم بطهارة الثوب، بعد ذلك يوجد علم بأنّ هذه النجاسة هي نفس النجاسة التي كانت موجودة سابقاً. في هذه الحالة لا مجال لقاعدة اليقين بناءً على هذا الاحتمال؛ لأننا لم نفترض حصول يقين بعد الفحص والنظر وعدم العثور على النجاسة، لم نفترض حصول يقين حتى نقول أنّ هذا الشك المتأخر يكون شكاً سارياً ويوجب زوال هذا اليقين، كلا ليس مورداً لقاعدة اليقين إطلاقاً، وإنما يكون هذا مورداً لقاعدة الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة؛ لأنه كان على يقين من طهارة الثوب قبل عروض النجاسة، قبل الصلاة كان على يقين من طهارة ثوبه، ثمّ بعد ذلك شك في بقاء هذه الطهارة أو زوالها حين الصلاة، هو حين الصلاة كان شاكاً في أنّ طهارة ثوبه المتيقن منها هل كانت باقية، أو زالت ؟ فيكون مورداً لاستصحاب طهارة الثوب المتيقنة سابقاً، وإن انكشف خلاف ذلك بعد الصلاة، أي أنّ النجاسة التي رآها بعد الصلاة هي نفس النجاسة التي كانت موجودة سابقاً. الاستصحاب الذي نجريه نجريه بلحاظ حال الصلاة لا بلحاظ حال السؤال، ولا بلحاظ حال ما بعد الصلاة، وإنما بلحاظ حال الصلاة، نقول: هذا مكلف كان على يقين من طهارة ثوبه سابقاً وحينما صلّى هو على شك من طهارة ثوبه ونجاسته، فحكمه هو استصحاب حال الطهارة المتيقنة سابقاً ويُحكم على أساس ذلك بصحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها. نعم، كما قلنا قاعدة اليقين لا مجال لها؛ لأننا لم نفترض كما في الاحتمال الأول حصول اليقين بطهارة الثوب بعد الفحص وعدم العثور حتى يكون الشك المتأخر سارياً، لا مجال لذلك إطلاقاً.

 


[1] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج1، ص421.
[2] علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج2، ص360، باب80.