الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
38/05/28
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / الأصول العملية/ الاستصحاب
كان الكلام في بعض الوجوه التي ذُكرت لإثبات التعميم في صحيحة زرارة. وذكرنا أحد الوجوه الذي كان هو مسألة استدلال أنّ ذكر القيد(من وضوئه) ليس لغرض التقييد، وإنّما لأجل أنّ اليقين من الصفات ذات الإضافة التي لابدّ لها من متعلق ومضاف إليه، فذُكر الوضوء لأجل ذلك، وبالتالي لا يكون قرينة على التقييد، وبالتالي يكون اليقين في الصغرى مطلقاً وغير مقيّد، فيثبت المطلوب.
كانت هناك ملاحظة عليه: بالنتيجة كما يُحتمل أن يكون هذا لأجل مراعاة اليقين وكونه من الصفات ذات الإضافة، يُحتمل أن يكون لأجل التقييد، كلٌ منهما محتمل، فلا يمكن أن نثبت عدم التقييد وأنّ(من وضوئه) ليست قيداً بمجرّد أنّ اليقين من الصفات ذات الإضافة؛ لأنّ بالتالي كما قلنا الذي يريد أن يذكر اليقين مقيداً بالوضوء يقول هذه الجملة(كان على يقين من وضوئه) فكون اليقين من الصفات ذات الإضافة ليس قرينة على عدم التقييد، وإنّما محتمل أن يكون ليس قيداً ذُكر باعتباره مراعاة لحال اليقين، ولكن في قِباله أن يكون ذُكر لأجل التقييد.
نقلنا كلاماً للسيد الشهيد(قدّس سرّه) بأنّ هذا بهذا المقدار لا يضر بالاستدلال بهذه الرواية، يمكن الاستدلال بالرواية على التعميم بالرغم من أجل هذا الإجمال والتردد في(من وضوئه) في أنه هل هو لأجل القيدية، أو مراعاة لحال اليقين، بالرغم من هذا التردد يمكن الاستدلال بالرواية، وبينّ في الدرس السابق أنّ الظاهر أنّ مقصوده هو أنّ مجرّد أن يكون هناك كلام قبل الجملة التي نتكلّم عنها على أحد التقديرين يكون صالحاً للقرينية وعلى التقدير الآخر ليس صالحاً للقرينية، هذا لا يمنع من التمسك بإطلاق اليقين في الكبرى الرواية، وإنّما الذي يمنع من ذلك هو أن يحتف هذا بما يصلح للقرينية، ليس لدينا دليلة على القرينة، ولو كنّا نقطع بالقرينة لقيّدنا الإطلاق بلا إشكال، لكن ليس هناك وضوح في أنه قرينة، لكنّه يصلح أن يكون قرينة، فيدخل في باب احتفاف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة وهذا يمنع من جريان مقدّمات الحكمة والتمسك بالإطلاق، لكن هذا يحصل عندما يتردد الأمر بين أن يكون هذا قرينة بالفعل وبين أن لا يكون قرينة بالفعل، هنا نقول: بالرغم من أنه لم يثبت كونه قرية بالفعل، لكنه صالح للقرينية، فإذا احتف الكلام به، فهو يمنع من التمسك بالإطلاق. وأمّا حيث يكون التردد بين الصلاحية وعدمها، حيث يكون التردد بين أن يكون هذا على تقدير يصلح أن يكون قرينة، أمّا على التقدير الآخر هو لا يصلح أن يكون قرينة، هذا لا يمنع من التمسك بالإطلاق؛ لأنّ الصلاحية غير ثابتة، فلا يدخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة، لا نحرز أنّ هذا الكلام(لا ينقض اليقين بالشك) احتف بما يصلح أن يكون قرينة؛ لأنّ(فأنه على يقين من وضوئه) على أحد التقديرين لا يصلح أن يكون قرينة، وهو على تقدير أن يكون ذُكر لمراعاة اليقين، وأنّ اليقين لابدّ له من متعلق، هو لا يصلح أن يكون قرينة على تقييد الإطلاق في الجملة الثانية، ولا يصلح أن يكون قرينة على العهد في الجملة الثانية والإشارة إلى اليقين الخاص، إنّما يصلح أن يكون قرينة على أنّ اليقين للعهد والإشارة إلى اليقين الخاص في الجملة الثانية عندما نفترض أنه جيء له للقيدية، ولماذا قلنا أنه يصلح وليس قرينة فعلية على هذا التقدير ؟ لأنه في الجملة الثانية يُحتمل أن تكون الألف واللام للجنس وليس للعهد، فإذن: هو مجرّد صلاحية أن يكون قرينة، وعلى التقدير الآخر لا يصلح، فالدوران يكون بين الصلاحية وعدم الصلاحية، فالصلاحية لا تكون محرزة، فلا يدخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة حتى يمنع من جريان مقدمات الحكمة والإطلاق. نعم، يدخل في كبرى أخرى، وهي كبرى احتفاف الكلام بما يحتمل أن يكون صالحاً للقرينية، لكن هكذا كبرى ليست ثابتة لدينا، وليس هناك سيرة من قِبل العقلاء على العمل بها، أنّ الشيء إذا احتف الكلام بشيءٍ على أحد تقديريه يصلح للقرينية وعلى التقدير الآخر لا يصلح. إذن: هذا الكلام احتف بما يُحتمل أن يكون صالحاً للقرينية، وهذا لا يمنع من التمسك بالإطلاق وجريان مقدمات الحكمة. الكبرى تقول: احتفاف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة، فلابدّ من إحراز الصلاحية، ومع عدم إحراز الصلاحية هذا لا يمنع من التمسك بالإطلاق.
قد يُعترض على هذا الكلام، ويقال: تقدّم سابقاً في أحد الوجوه المتقدّمة دعوى أنّ الألف واللام للجنس في اليقين وليست للعهد، في هذا الوجه تقدّم سابقاً أنّه قد يُقال: لماذا لا نجري مقدّمات الحكمة في مدخول اللام، يعني في اليقين ؟ تقدّم أنّ هذا غير صحيح، والسيد الشهيد(قدّس سرّه) أيضاً ذكر هذا، أنه لا يجوز إجراء مقدمات الحكمة في مدخول اللام الذي هو اليقين؛ لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية، وكان المقصود به الألف واللام، فأنها على أحد معنييها وهو العهد تصلح أن تكون قرينة على أنّ المراد باليقين هو اليقين الخاص، وهذا على خلاف الإطلاق. إذن: هناك شيء يصلح أن يكون قرينة على خلاف الإطلاق، هذا يمنع من الإطلاق ومن جريان مقدّمات الحكمة.[1]
هذا الكلام لا ينافي ما ذكره هنا؛ لأنّ التردد هناك كان بين ما يكون قرينة بالفعل وبين ما لا يكون قرينة بالفعل، بمعنى أنّ مقدمات الحكمة في مدخول اللام(اليقين) احتف باللام، اللام على تقدير العهد هي قرينة فعلية على عدم الإطلاق وعدم جريان مقدّمات الحكمة في اليقين، هي قرينة بالفعل وليس مجرّد صلاحية، وعلى التقدير الآخر لا تكون قرينة، فالدوران يكون بين ما يكون قرينة بالفعل وبين ما لا يكون قرينة بالفعل، هذا يمنع من التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ عدم ثبوت القرينة الفعلية لا يمنع من الصلاحية، إذن: احتف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة، وهذا يمنع من التمسك بالإطلاق، ليس الشك والتردد في الصلاحية وعدم الصلاحية؛ بل في أنّ اللام هل هي قرينة بالفعل إذا كانت عهدية على عدم الإطلاق، أو ليست قرينة بالفعل إن لم تكن عهدية، وهذا بخلاف المقام، في محل الكلام نتكلم عن الجملة السابقة، يعني عن جملة(فأنه على يقين من وضوئه) هذه الجملة على أحد التقديرين تصلح أن تكون قرينة وليست قرينة بالفعل على تقدير أن يكون(من وضوئه) قيداً هي تصلح أن تكون قرينة على إرادة اليقين الخاص في جملة(ولا ينقض اليقين بالشك)، فالأمر يدور بين الصلاحية وعدم الصلاحية وقلنا ليس هناك وضوح في أنه إذا دار الأمر بين الصلاحية، يعني احتمال أن يكون الشيء صالحاً لا أننا نحرز أنه صالح للقرينية، ولكننا لا نعلم به هل هو قرينة أو لا، وإنّما احتمال أن يكون الشيء الذي احتف بالكلام صالحاً للقرينية، ليس لدينا هكذا كبرى كلّية تقول بأنّ احتفاف الكلام باحتمال الصلاحية للقرينية يكون مانعاً من التمسك بالإطلاق، وإنّما الكبرى المسلّمة عندهم هي احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية يمنع من التمسك بالإطلاق.
لدى السيد الشهيد(قدّس سرّه) مطلب آخر تقدّم في بحث الظهور وهو أنه خلافاً للمعروف والمشهور يبني على أنّ احتمال وجود القرينة وليس احتمال قرينية الموجود ، وإنّما احتمال وجود القرينة المتصلة مانع من التمسك بالظهور وموجب للإجمال، هذا يذكره فيما إذا فرضنا جاءنا كلام وقد حُذف منه شيء لا نعلم ما هو، أو يُحتمل وجود شيء يكون قرينة على تقدير وجوده، هو يرى أنّ هذا يكون موجباً لعدم إمكان التمسك بالظهور. الظاهر أنّ هذا الكلام أيضاً لا ينافي هذا، وهذا مطلب آخر، هو يعمم هذا الحكم لاحتمال وجود القرينة، فإذا احتملنا وجود قرينة، لكن هي قرينة بالفعل على تقدير وجودها، هذا يمنع من التمسك بالظهور، هذا مطلب، وهذا الذي ذكره هنا مطلب آخر، هذا يقول أنّ الكبرى المسلمة هي أنّ الكلام الذي يحتف بما يصلح أن يكون قرينة يمنع من الإطلاق، أما احتفاف الكلام بما يحتمل أن يكون صالحاً للقرينية، هذا لا دليل على أنه يمنع من الإطلاق والظهور.
أحد الوجوه التي ذكرناها في الدرس السابق ولم نعلق عليه هو دعوى أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدم الاختصاص، والمقصود بها أنّ النقض أسند إلى اليقين في الجملة(ولا ينقض اليقين بالشك) وهذا الإسناد مصححه هو وجود جهة الإبرام والاستحكام في اليقين؛ لأنّ ما لا إبرام ولا استحكام فيه لا يصح إسناد النقض إليه، الحبل عندما يكون مبرماً تقول: (نقضت الحبل) أمّا إذا كان هو مفكك بالأساس، فلا معنى لأن تقول نقضت الحبل، هذه المناسبة التي صححت إسناد النقض إلى اليقين لا دخل لتعلّق اليقين بالوضوء بها، هذه المناسبة موجودة في ذات اليقين بقطع النظر عن متعلقه، نفس اليقين فيه جهة استحكام، سواء تعلّق بالوضوء، أو بالنوم أو بالطهارة .....الخ، ومن هنا يقال أنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع هو أن نتعدّى من المورد إلى مطلق موارد اليقين، سواء كانت يقيناً بالوضوء، أو يقيناً بأي شيءٍ آخر، وهذا يثبت كبرى الاستصحاب وعدم الاختصاص بباب الوضوء.
نسلّم ما قاله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) من أنّ مصحح إسناد النقض إلى اليقين هو ما في اليقين من جهة إبرام واستحكام، لكن هذا لا يستلزم أن يكون المراد من اليقين في الرواية هو مطلق اليقين وذلك باعتبار أنّ جهة الاحكام والاستحكام والإبرام موجودة في اليقين سواءً أريد به طبيعي اليقين، أو أريد به اليقين الخاص، حتى اليقين الخاص فيه جهة إبرام واستحكام، وهذه هي الجهة المصححة لإسناد النقض إليه. لماذا نقول جهة الإبرام والاستحكام موجودة فقط في طبيعي اليقين ؟ هي إذا كانت موجودة في طبيعي اليقين فهي موجودة في كل مصاديقه وأفراده، اليقين بالوضوء أيضاً فيه جهة إبرام واستحكام، فكما يصح إسناد النقض إلى طبيعي اليقين، فيقال: (لا يُنقض اليقين بالشك) كذلك يمكن إسناد النقض إلى اليقين الخاص، فيقال: (لا تنقض اليقين بالوضوء بالشك) استعمال صحيح ولا غبار عليه ومصحح هذا الإسناد موجود؛ لأنّ جهة الإبرام موجودة في اليقين بالوضوء، فيصح أن يُسند النقض إليها، فيقال: (لا تنقض اليقين بالوضوء بالشك) يصح هذا الاستعمال مع كون المقصود هو اليقين بالوضوء لا مطلق اليقين، فمجرّد أنّ هذا يصحح الإسناد هذا لا يعني أنّ اليقين الذي أسند إليه النقض لابدّ أن يكون مطلقاً وعاماً، كل منهما يجوز فيه الإسناد ويمكن فيه تصحيح النسبة.
هذه عمدة الوجوه لإثبات التعميم على الاحتمال الأول الذي اختاره الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) وهو أنّ الجزاء محذوف وتقديره فلا يجب عليه الوضوء وأنّ جملة(فأنه على يقينٍ من وضوئه) علّة أقيمت مقام الجزاء المحذوف. وتبيّن أنّ عمدة هذه الوجوه هو الوجه الأول الذي ذكره الشيخ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وهو مسألة الارتكازية، بمعنى أنّ التعليل كان بأمرٍ ارتكازي وليس هو إلاّ كبرى الاستصحاب لا الاستصحاب في باب الوضوء. وعليه: يمكن التعدّي وإثبات الكبرى الكلية في باب الاستصحاب . هذا كلّه بناءً على الاحتمال الأول.
وأمّا بناءً على الاحتمال الثالث: الاحتمال الثالث كان يقول أنّ الجزاء هو جملة(لا ينقض اليقين بالشك) ، فكأنه قال: (وإن لم يستيقن أنه قد نام، فلا ينقض اليقين بالشك) وأمّا جملة(فأنه على يقين من وضوئه) فهي تمهيد وتوطئة للجزاء غير المحذوف. بناءً على هذا الاحتمال الظاهر أنه من الصعب جداً أن نستفيد الكبرى الكلية من هذه الرواية؛ وذلك لأنّ مفاد الجملة هو هذا الذي ذكرناه، وهذه الجملة لا تتحمل أكثر من إثبات الحكم في باب الوضوء ولا تتعدّى إلى غيره؛ لأنّ الجملة شرطية، وشرطها هو(غن لم يستيقن أنه قد نام) يعني إذا شك بالنوم(فلا ينقض اليقين بالشك) الشك في هذه الجملة لابدّ أن نفسّره بالشك في الموضوع الذي هو النوم، يعني أنّ هذا الشك في النوم الذي فُرض في هذه القضية هو المراد بالشك الذي نُهي عن نقض اليقين به، وأيضاً اليقين المراد به هو اليقين الحاصل لديه وهو اليقين بالوضوء، يقول(فلا ينقض اليقين بالشك). إذا فككنا العبارة، فكأنه قال: (إذا كان متيقناً بالوضوء وشكّ بالنوم، فلا ينقض اليقين بالشك) أي الشك بالنوم الذي هو موضوع الجملة الشرطية، فلا يمكن أن نثبت الاستصحاب ككبرى كلّية في جميع الموارد. نعم، يمكن أن لا نقتصر على خصوص موارد الشك بالنوم، يمكن أن نعممها إلى غير الشك بالنوم مما يكون ناقضاً للوضوء، مثل الشك بالريح، أو الإغماء إذا كان ناقضاً للوضوء، ويمكن التعدي إلى بقية النواقض، وهذا التعدّي لا نستفيده من جملة (ولا ينقض اليقين بالشك) لأنّ هذه الجملة جعلناها جزاءً على الاحتمال الثالث، الجزاء مرتبط بالشرط، الشكّ في الجزاء يُراد به الشك في النوم الذي فُرض في موضوع القضية الشرطية، اليقين هو نفس اليقين الذي أيضاً فُرض في القضية، فكأنه قال: (وإنّ شكّ بالنوم، فلا ينقض يقينه المفروض ـــــــ الذي هو اليقين بالوضوء ـــــــ بالشك في النوم) وهذه العبارة لا تتحمل أنّ نعممها لغيرها، لكن يمكن استفادة الاستصحاب في غير موارد الشكّ في النوم ممّا يكون ناقضاً للوضوء من جملة(فأنه على يقين من وضوئه) لأنّ هذه الجملة ذُكرت كتمهيدٍ وتوطئةٍ لجملة الجزاء التي هي (فلا ينقض اليقين بالشك)، جملة(فأنه على يقين من وضوئه) كأنّها مسوقة مساق التعليل، والتعليل فيها باليقين بالوضوء، وهذا يمكن أن نعممّه لكل يقين بالوضوء عندما يُشك في انتقاضه، سواء شك في انتقاضه بالنوم، أو شك في انتقاضه بالحدث، فكأنّ اليقين بالوضوء هو السبب في النهي عن نقض اليقين بالوضوء بالشك في النوم، وهذا يمكن على اساسه توسعة المورد وجعله شاملاً لغير موارد الشك في النوم مما يكون ناقضاً للوضوء، لكن لا نستطيع أن نتوسّع أكثر من هذا ونثبته لكل موارد الشك في انتقاض الحالة السابقة، أي شيءٍ كانت هي الحالة السابقة. استفادة الكبرى الكلية من الرواية بناءً على الاحتمال الثالث مشكل جداً.