الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
38/05/06
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / الأصول العملية/ الاستصحاب
تبيّن ممّا ذكرناه أنّ الصحيح هو انعقاد السيرة على العمل بالاستصحاب، العقلاء يعملون بالحالة السابقة، إنّ هذا الشيء في الجملة مما لا يمكن إنكاره ولا يصح إنكاره. وأيضاً تقدّم أنّ عدم الردع عن هذه السيرة يكون دليلاً على الإمضاء للنكتة السابقة وهي أنّ هذه السيرة وإن كنّا لا نملك دليلاً على امتدادها إلى المجال الشرعي، لكن هي في معرض الامتداد، وبذلك لو لم يرضَ الشارع بها لكانت تتعرض أغراضه الشرعية إلى الخطر والفوات، ومن هنا لو لم يرضَ الشارع بهذه السيرة العقلائية لردع عنها، والمفروض أنه يتمكن من الردع، وتقدم الكلام أيضاً عن أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظن وغير العلم هل تصلح أن تكون رادعة، أو لا تصلح ؟ وذكرنا أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) [1] يرى بأنها تصلح للرادعية في محل الكلام وإن كانت لا تصلح للرادعية في خبر الثقة، وذلك هو تمم الاستدلال بالسيرة على حجية خبر الثقة بأنّ الآيات لا تصلح للرادعية، بينما هنا ذكر أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظن تصلح للرادعية عن هذا العمل العقلائي، وبهذا لا يمكن تتميم الاستدلال بالسيرة على حجية الاستصحاب.
ذكرنا في الدرس السابق بعض الوجوه للتفرقة بين المقامين، لماذا الآيات لا تصلح للردع هناك وتصلح للردع في محل الكلام. الذي يمكن أن يقال في المقام تعليقاً على ما ذكره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في الحاشية من التمسك بالاستصحاب لإثبات الحجية عند الشك في الرادعية وعدمها، قال: نتمسك باستصحاب الحجية الثابت قبل نزول هذه الآيات باعتبار أنّ خبر الثقة كانت هناك سيرة على العمل به، وهذه السيرة ممضاة شرعاً قبل نزول الآيات التي نشك في أنها رادعة، أو ليست رادعة، فإذا شككنا في أنها رادعة أو ليست رادعة، بإمكاننا أن نستصحب الحجية الثابتة قبل نزول هذه الآيات، باعتبار فرض انعقاد السيرة وعدم الردع عنها؛ لأنّ الردع إنّما يكون بهذه الآيات، وعدم الردع عنها، ونستكشف من عدم الردع عنها الإمضاء، فتكون حجة، فنستصحب هذه الحجية.
أشرنا في الدرس السابق إلى أنّ هذا الاستدلال بالاستصحاب غير تام، لا هناك ولا في محل الكلام، الاستدلال بالاستصحاب لإثبات حجية خبر الثقة، أو لإثبات حجية الاستصحاب هو غير تام. أمّا عدم تماميته في المقام، فواضح؛ لأنه مصادرة، فهو أول الكلام، فنحن نتكلم في الاستصحاب، فكيف نستدل بالاستصحاب عندما نشك في رادعية الآيات عن العمل بالحالة السابقة الذي فرضنا أنه استقر عليه عمل العقلاء، إذا شككنا في رادعية هذه الآيات عن هذا العمل أو عدم رادعيتها لا يمكننا أن نستدل على حجية الاستصحاب بالاستصحاب؛ لأنّ الكلام هو في حجية الاستصحاب، فعدم تمامية هذا الكلام في مقامنا واضح؛ ولذا هو لم يجرِ الاستصحاب في محل الكلام، وإنّما تمسك به هناك.
وأمّا عدم صحة الاستدلال بالاستصحاب بالنسبة إلى الاستدلال على حجية خبر الثقة، باعتبار أنّ العمدة في الاستدلال على حجية الاستصحاب هي عبارة عن أخبار الثقات، صحاح زرارة؛ فحينئذٍ كيف يمكننا أن نستدل بالاستصحاب على حجية خبر الثقة، والحال أنّ الاستصحاب لم تثبت حجيته، إلاّ بأخبار الثقات، هذا في الحقيقة هو استدلال على حجية خبر الثقة بأخبار الثقات، وهذا أيضاً مصادرة، كالاستدلال على حجية الاستصحاب بالاستصحاب، هناك نستدل على حجية خبر الثقة بالاستصحاب الذي لم يثبت إلاّ بأخبار الثقات، هذا معناه أننا نستدل على حجية خبر الثقة بخبر الثقة. بقطع النظر عن هذه الملاحظة التي أشرنا إليها سابقاً يمكن أن يقال: في المقام أساساً الاستدلال بالاستصحاب هو غير تام؛ وذلك لأننا لا نحرز الإمضاء في فترة ما قبل نزول الآيات، كيف يمكن أن نحرز الإمضاء في فترة ما قبل نزول الآيات، هذا يبتني على دعوى أنّ سكوت الشارع وعدم ردعه مطلقاً مهما كان وفي أي ظرفٍ كان يكون كاشفاً عن الإمضاء، كلما سكت الشارع ولم يردع، فهذا يكون كاشفاً عن الإمضاء. هذا من الصعب جداً أن نقوله في محل الكلام، وذلك باعتبار أننا نتكلّم عن فترة زمنية محدودة، يعني فترة زمنية تبدأ من بداية الدعوة ونزول الشريعة إلى نزول الآيات القرآنية الناهية عن العمل بالظن التي نشك في أنها رادعة، أو ليست رادعة. في هذه الفترة الزمنية المحدودة ومع الالتفات إلى أنّ الشارع يلاحظ مسألة تدريجية بيان مراداته وآرائه وأحكامه، مع الالتفات إلى ذلك؛ حينئذٍ من الصعب جداً أن نقول أنّ سكوت الشارع في تلك الفترة عن هذه السيرة المنعقدة على العمل بخبر الثقة، أو الاستصحاب يكون كاشفاً عن الإمضاء والرضا، عندما يكون البناء على التدريج في بيان آراء الشارع؛ لأنّه هناك ظروف معينة كانت موجودة في بداية الدعوة تمنع من أن يبيّن تمام آرائه وتمام أحكامه دفعة واحدة، فهو يبينها تدريجاً. جاءت الدعوة ولنفترض أنّه كانت هناك سيرة على العمل بخبر الثقة، وسيرة على العمل بالاستصحاب، في هذه الفترة الزمنية المحدودة ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ بناء الشارع على التدرّج في بيان أحكامه لا يمكننا أن نقول أنّ سكوت الشارع عن هذه السيرة في تلك الفترة يكون كاشفاً كشفاً واضحاً جزمياً عن الإمضاء، صعب جداً أن نثبت أنّ عدم الردع عن السيرة في تلك الفترة يكون كاشفاً عن الإمضاء، لا يوجد عندنا جزم بأنّ الشارع أمضى تلك السيرة بحيث ثبتت الحجية لخبر الثقة تلك الفترة ولعد ذلك نزلت الآيات، نشك في أنها رادعة أو لا؛ فحينئذٍ بإمكاننا أن نستصحب الحجية الثابتة في ذلك الزمان وقبل نزول الآيات، هذ صعب جداً إثباته، ومن هنا لا يمكن إجراء الاستصحاب؛ لأنه يفقد الركن الأساسي للاستصحاب وهو اليقين السابق؛ إذ لا يقين بالحجية في فترة ما قبل نزول هذه الآيات، خصوصاً إذا التفتنا إلى أنّ هذه السيرة لا دليل على امتدادها إلى المجال الشرعي، وإنّما كنّا نقول أنها تعرّض أغراض الشارع للخطر باعتبار أنها في معرض الامتداد، عندما تكون الفترة الزمنية قصيرة والسيرة غير ممتدة إلى المجال الشرعي في تلك الفترة في بداية الدعوة، لا يمكن أن نثبت أنّ الشارع إذا سكت، فلابدّ أنه يرضى عن هذه السيرة، هذا أمر صعب جداً، وإثبات الحجية على هذا الأساس في فترة ما قبل نزول الآيات هذا أيضاً ليس واضحاً. هذا بالنسبة إلى ما ذكره في الاستصحاب.
الصحيح هو أنّ الآيات لا تصلح للردع عن هذه السيرة ليس فقط لا تصلح للردع عن هذه السيرة في باب الاستصحاب؛ بل لا تصلح للردع أيضاً حتى في باب خبر الثقة، والسر في ذلك هو ما اُشير إليه سابقاً من أنّ الردع لكي يكون مؤثراً وموجباً للارتداع ولو في الجملة، لابدّ أن يتناسب طرداً مع حجم السيرة ومدى رسوخ هذه السيرة في نفوس الناس وامتدادها، لكي يكون الردع مؤثراً لابد أن يتناسب مع حجم السيرة ومدى رسوخها، وكلّما كانت السيرة راسخة كلما كانت بحاجة إلى ردع مناسب لها حتى يتحقق الغرض، وإلاّ سيرة راسخة في نفوس الناس وممتدة ولها جذور عقلائية لا يتحقق الغرض من الردع بمجرّد إطلاق دليل أو عموم دليل؛ بل لابدّ من التنصيص والتصريح حتى يتحقق الغرض، وإلاّ لا فائدة في الردع بمثل إطلاق دليل أو عموم دليل، وهذا هو الذي يثبت في حجية خبر الثقة، حبق السيرة هناك راسخة وممتدة ولها جذور عقلائية وحجمها كبير جداً؛ فلذلك هناك ذُكر بأنّ الآيات الناهية عن العمل بالظن الشاملة بإطلاقها وعمومها لمثل هذه السيرة لا تصلح للردع عن هذه السيرة؛ لأنّها لا تناسب رسوخ تلك السيرة وامتدادها واستحكامها. هل يمكن أن يقال هذا الكلام في المقام ؟ يعني أيضاً نقول أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظن لا تصلح للردع عن السيرة المنعقدة على العمل بالحالة السابقة بالاستصحاب، أيضاً هي لا تصلح للردع، أو لا ؟ الظاهر أنه يمكن أن يقال بذلك، بالرغم من وجود فرق بين السيرتين في مدى الرسوخ وحجم السيرة، لا إشكال أنّ السيرة على العمل بخبر الثقة غير السيرة على العمل بالاستصحاب، بعد الفراغ عن أنه هناك بناء وسيرة من قبل العقلاء على العمل بكلٍ منهما، لكن رسوخ تلك السيرة أوضح من رسوخ السيرة على العمل بالحالة السابقة، والدليل على ذلك هو أننا نجد أنهم اختلفوا في وجود السيرة وعدم وجودها في المقام ولم يختلفوا في وجود السيرة وعدمه في العمل بخبر الثقة، لا يوجد هناك خلاف في أنه انعقدت السيرة على العمل بخبر الثقة، بينما هنا يوجد جماعة أنكروا وجود سيرة على العمل بالاستصحاب، السيد الخوئي(قدّس سرّه) يقول لا يوجد عمل بالاستصحاب وغيره أيضاً يقول بذلك، هناك جماعة أنكروا السيرة في محل الكلام، هذا بالرغم من إيماننا بوجود سيرة، لكن يكشف عن أنّ رسوخ السيرة في محل الكلام ليس كرسوخ تلك السيرة، هناك فرق بينهما، لكن الظاهر أنّ هذا الفرق بينهما لا يبرر أن نقول أنّ الآيات تصلح للردع في محل الكلام، وإن كانت لا تصلح للردع في باب خبر الثقة؛ بل الظاهر أنّ الآيات حتى في محل الكلام أيضاً لا تصلح للردع؛ لأنّ المفروض في محل الكلام أننا فرغنا عن انعقاد سيرة، فرغنا عن بناء العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة، وعدم الاعتناء بالشك لأسبابٍ متعددة، إذن: العقلاء يعملون بالحالة السابقة ولا يعتنون بالشك فيها ويرتبون الأثر على الحالة السابقة، وتقدّم أيضاً أنه لولا ذلك لكان هناك اختلال بشكلٍ ما في نظام معاشهم، وهذا معناه أنّ هناك رسوخاً في الأخذ بالحالة السابقة، صحيح هي لا تصل إلى درجة الرسوخ الموجود في العمل بخبر الثقة، لكن هي سيرة عقلائية وبناء من قِبل العقلاء وسيرة مستحكمة وراسخة، ومثل هذه السيرة يمكن تطبيق نفس ما ذكرناه في حجية خبر الثقة، مثل هذه السيرة لكي يحافظ الشارع على أغراضه التشريعية، لا يُكتفى بالردع عنها بإطلاق دليل أو عموم دليل يكون شاملاً لها بإطلاقه وبعمومه، وبمثل هذه الآيات التي هي محل كلام في أنه هل هي تشمل المقام أساساً أو لا تشمله، هل هي واردة في أصول الدين أو تشمل حتى فروع الدين، يوجد كلام في ذلك، مثل هذه الآيات لا تصلح للردع عن مثل هذه السيرة المستحكمة والتي بنا عليها العقلاء، كما هو الحال في خبر الثقة يمكن أن قال بأنّ هذه الآيات بقطع النظر عن أنها واردة في أصول الدين، حتى لو كانت واردة في فروع إطلاق دليلٍ وعمومه يشمل المقام بإطلاقه، أو بعمومه لا يصلح للردع؛ لأنّ الغرض من الردع هو الارتداع ووقف هذه العملية، أن يرتدع الناس عن العمل بهذا الشيء لو لم يرضَ به الشارع ويردع عنه، لكي يكون مؤثراً هذا الردع، إطلاق آية، أو عمومها كما لا يحقق الغرض ولا يكون مؤثراً في خبر الثقة أيضاً لا يحقق الغرض ولا يكون مؤثراً في محل الكلام، والذي يوضح هذا المطلب أكثر إذا لاحظنا ما فعله الشارع في باب القياس مع أنّ القياس لا يمكن أن يقارن لا بالسيرة المنعقدة على العمل بخبر الثقة ولا بالسيرة المنعقدة على العمل بالاستصحاب والأخذ بالحالة السابقة. مع ذلك الشارع عندما كان لا يرضى به ويرى أنه يعرّض أغراضه التشريعية للخطر، صرّح في روايات كثيرة ومرار عديدة، صرّح بشكل واضح وصريح في النهي عن العمل بالقياس ولم يكتفِ بالآيات الناهية عن العمل بالظن مع أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظن بإطلاقها بعمومها تشمل القياس، لم يكتفِ بذلك وإنما هو يرى بأنه عندما يريد أن يردع حقيقة لا يكتفي بإطلاق الآيات وعموم الآيات؛ بل لابدّ من الردع الصريح الذي يعتبر نصّاً في الردع حتى يحقق الغرض في الجملة، هذا إذا لاحظنا ما فعله الشارع في باب القياس هذا الأمر الذي ذكرناه يكون واضحاً.
مضافاً إلى أنّ هناك كلام في أنه أساساً هذه الآيات هل تشمل محل الكلام ، أو لا ؟ هذه الآيات كنّا نقول على تقدير شمولها لمحل الكلام هي لا تصلح للردع، لكن هناك كلام في أصل شمول هذه الآيات لمحل الكلام، يعني شمولها لسيرةٍ منعقدة من قِبل العقلاء وسيرة بهذا الشكل الذي بيّناه، أصل شمول الآيات الناهية عن العمل بالظن لمحل الكلام هو محل كلامٍ، هناك رأي يرى أنّ الآيات أساساً هي إرشاد إلى عدم إمكان التعويل على الظن؛ لأنهّ يترتب عليه احتمال الوقوع في المخالفة واحتمال الوقوع في العقاب وأمثال هذه الأمور، مثل هذه الآيات التي هي واردة في مقام الإرشاد لا تشمل ظنّاً قامت السيرة العقلائية على العمل به؛ لأنّ قيام السيرة على العمل به معناه أنّ العقلاء يعتبرونه مؤمّناً، عندما يسلكون هذا الطريق يرون أنّ هذا مؤمّن لهم من احتمال العقاب، فإذن: في هذا المورد لا يوجد احتمال العقاب في نظر العقلاء، الآيات لا تكون ناظرة له، الآيات ترشد إلى عدم العمل بالظن الذي لا يكون مؤمّناً من ناحية العقاب، والظن الذي عمل به العقلاء واستقرت سيرتهم على الأخذ به يكون مؤمّناً من ناحية العقاب في نظرهم، مثل هذه الآيات لا تكون شاملة له أساساً، هذا الكلام موجود، السيد الخوئي(قدّس سرّه) يقوله.
وهناك رأي آخر يقول أنّ الآيات لا تشمل محل الكلام؛ لأنّ شمولها لمحل الكلام مبني على تخيّل أنّ المراد بالظن فيها هو الظن المنطقي في قِبال الشك والعلم والوهم، بينما ليس المراد بالظن في الآيات القرآنية هو ذلك، وإنّما المراد بالظن هو كناية عن العمل غير المتزن، العمل الذي لا يكون له أسس مقبولة وعقلائية، في مقابل العمل بالعلم والذي هو العمل الذي له مبررات معقولة وعقلائية، فيكون هذا هو المقصود من الظن الذي تنهى عنه الآيات الشريفة، هي تنهى عن العمل الذي لا يكون مبنياً على أسس منطقية وعقلائية، ومن الواضح أنّ مثل هذه الآيات لا تكون شاملة لمحل الكلام؛ لأنّ المفروض انعقاد السيرة، يعني المفروض أنّ العمل بالظن في مورد الاستصحاب هو عمل منطقي بنظر العقلاء وهو عمل متزن وله أسس عقلائية، فلا تكون الآية شاملة له.
بالنسبة إلى ما ذكره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) ذكر مطلباً مهماً جداً وهو مسألة أنّ عملهم بالاستصحاب ليس قائماً على أساس التعبّد، وإنّما هو قائم على اساس الاطمئنان تارة، وعلى اساس الاحتياط تارة أخرى، أو على اساس الغفلة وأمثالها،[2] ومعنى هذا الكلام هو إنكار أن يكون العقلاء يعملون بالاستصحاب في غير هذه الموارد، يعني إذا كان المورد ليس فيه اطمئنان ببقاء الحالة السابقة وليس موافقاً للاحتياط، وليس فيه غفلة، في هذه الحالة العقلاء لا يعملون بالاستصحاب تعبّداً، وإنّما يعملون به عندما يكون هناك اطمئنان ببقاء الحالة السابقة، يعملون به عندما يوافق الاحتياط، إذن: عملهم بالاطمئنان وبالاحتياط وليس بالاستصحاب، وهذا لا ينفعنا، نحن لابدّ أن نفترض أنّ العقلاء يعملون بالاستصحاب لأجل أنه استصحاب للحالة السابقة، سواء حصل اطمئنان أو لم يحصل اطمئنان، وسواء وافق الاحتياط، أو لم يوافق الاحتياط، حتى مع افتراض الالتفات وعدم الغفلة، هذا هو الذي ينفعنا، هل نستطيع أن نثبت انعقاد سيرة على العمل بالاستصحاب بهذا الشكل ؟ قال(قدّس سرّه) لا يمكننا إثبات ذلك؛ وذلك لا يصح الاستدلال بهذه السيرة على حجية الاستصحاب. هذه المناقشة الصغروية المتقدمة.
ويُلاحظ على هذا الكلام:
الملاحظة الأولى: لماذا لم تجرِ يا صاحب الكفاية هذا الكلام في باب حجية خبر الثقة ؟ وبالإمكان أن يقال هناك؛ بل قيل بأنّ سيرة العقلاء المنعقدة على العمل بخبر الثقة، ليست لكونه خبر ثقة، ليس من باب التعبّد، وإنّما هم يعملون بخبر الثقة عندما يحصل لهم الاطمئنان بمضمونه، ويعملون بخبر الثقة عندما يوافق الاحتياط، أو عندما لا يكون الأمر الذي يتضمنه خبر الثقة ذا بال بالنسبة إليهم، في هذه الحالات يعملون بخبر الثقة، وأمّا حيث لا اطمئنان ولا وثوق ولا موافقة للاحتياط، من قال أنهم يعملون بخبر الثقة ؟ نفس الكلام الذي ذكره في باب الاستصحاب يمكن أن يقال في حجية خبر الثقة، أو لماذا هناك هو بنا على حجية خبر الثقة ولم يعتنِ بهذه الاحتمالات وافترض هناك أنّ عمل العقلاء بخبر الثقة عمل تعبّدي حتى يستنتج من هذا أنّ هذا حجة استناداً إلى هذه السيرة ويثبت الحجية التعبّدية لخبر الثقة، وأنّ خبر الثقة يكون حجة حتى لو لم يحصل اطمئنان بمضمونه، وحتى إذا كان مخالفاً للاحتياط؛ بل حتى لو لم يحصل ظن بالموافقة؛ بل صرّحوا بأنه حتى إذا حصل ظن بالخلاف هو يكون حجة، فأثبتوا له الحجية التعبّدية مع أنّ هذه الاحتمالات موجودة في العمل بخبر الثقة كما هي موجودة في العمل بالاستصحاب.
الملاحظة الثانية: مسألة أنّ العمل بالاستصحاب وحتى في خبر الثقة في بعض الأحيان العقلاء يعملون بهما من باب حصول الاطمئنان، هذا لا يمكن إنكاره، أو بعض الأحيان يعملون بهما من باب الاحتياط، لكن الكلام في أنه هل ينحصر عمل العقلاء بخبر الثقة، أو بالاستصحاب بهذه الموارد ؟ يظهر منهم أنهم يرون انحصار عمل العقلاء بالاستصحاب بهذه الموارد، بينما الظاهر أنه لا ينحصر بهذه الموارد، يعني في غير هذه الموارد لا يوجد اطمئنان ولا يوجد موافقة للاحتياط، وهناك شك في بقاء الحالة السابقة مع ذلك هم يعملون بالحالة السابقة بالرغم من وجود الشك فيها وعدم الاطمئنان ومخالفتها للاحتياط، نحن ندّعي أنّ هناك بناءً من قبل العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة، ولو من باب الأنس الذهني، ولو من باب الحالة النفسية الموجودة عند العقلاء، وباعتبار آخر ذكرناه سابقاً وهو مسألة اختلال النظام؛ لأنه لولاه لأختل النظام في الجملة، بشكلٍ ما يختل نظام معاشهم ونظام تصريف أمورهم، وعلاقاتهم مع الآخرين، عندما لا يعملون ولا يرتبون الأثر إلاّ إذا ثبت بالطرق العلمية، أو بالطرق المعتبرة، يختل نظامهم؛ فلذا يعملون بالحالة السابقة حتى في غير موارد الاطمئنان، وفي غير موارد موافقته للاحتياط، فإذن: لا مشكلة في عملهم به بعض الأحيان من باب الاطمئنان، وعملهم به أحياناً من باب الاحتياط أيضاً لا مشكلة فيه، لكن هم أيضاً يعملون به في غير هذه الموارد، وهذا معناه في الحقيقة أنّ هذا المقدار يكفي لإثبات الإمضاء؛ لأنّ الطريقة التي ذكرناها لإثبات الإمضاء يكفي فيها أنّ العقلاء يعملون بخبر الثقة، يكفي فيها أنّ العقلاء يعملون بالحالة السابقة، مناشئ هذا الاحتمال لا أثر لها في استكشاف الإمضاء، مناشئها في بعض الأحيان يكون الاطمئنان، وفي بعض الأحيان يكون الاحتياط، وفي بعض الأحيان يكون الغفلة، وفي بعض الأحيان يكون ليس هذه الأمور، هناك شيء آخر أيضاً يمكن أن يُذكر في عرض هذه الأمور، المهم هو أنهم يعملون بالحالة السابقة مهما كانت مناشئها، هذا الذي نقول يمكن أن نستكشف الإمضاء منه؛ لأنّ الأساس الذي استكشفنا الإمضاء منه هو مسألة أنّ عمل العقلاء بالحالة السابقة يعرّض أغراض الشارع للخطر وفي معرض الامتداد، ولو من باب الغفلة، ولو من باب التسامح، أو من باب انطلاق العقلاء على طِبق سجيتهم وطبعهم وميلهم النفسي، هذا في معرض الامتداد إلى المجال الشرعي، وهذا يعرّض أغراض الشارع إلى الخطر، هذا المقدار في استكشاف الإمضاء على أساس هذه النكتة لا يؤثر فيه أنّهم في بعض الأحيان يعملون بالاستصحاب من باب الاطمئنان وبعض الأحيان يعملون به من باب الاحتياط وبعض الأحيان يعملون به لا من هذا الباب ولا من هذا الباب، بالنتيجة هناك عمل على الأخذ بالحالة السابقة، وهذا في معرض الامتداد للمجال الشرعي، وإذا كان في معرض الامتداد للمجال الشرعي، هذا يعرّض أغراض الشارع للخطر، فلو لم يرضَ الشارع بذلك لكان عليه الردع، فإذا لم يردع يمكن أن نستكشف الإمضاء، فهذا لا يتوقف على أن يقال أنّه لابدّ من إثبات أنّ عمل العقلاء بخبر الثقة هو عمل تعبّدي صِرف بحيث هم لا يعملون بخبر الثقة إلاّ من باب التعبّد حتى إذا قلنا أنّ الشارع أمضى ذلك، فيثبت حجية خبر الثقة تعبّداً عند الشارع وهذا هو المطلوب، لا يتوقف على إثبات ذلك؛ لأنّ الطريق الذي سلكناه يقول كل شيء يعرّض أغراض الشارع للخطر لابدّ أن ينهى عنه ويبيّن رأيه بشكل واضح وصريح يتناسب مع حجم العمل ورسوخه في أذهان العقلاء.