الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

38/05/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / الأصول العملية/ الاستصحاب

تبيّن من الدرس السابق أنّه لا مجال لدعوى أنّ مجرّد الحدوث يوجب الظن بالبقاء، وذلك باعتبار أنّ هذه الدعوى تبتني على افتراض الغلبة، وأنّ منشأ حدوث الظن هو دعوى أنّ الغالب في ما يحدث أنه يبقى، فإذا شككنا في موردٍ أنه هل يبقى بعد الحدوث، أو لا ؟ كان مقتضى إلحاقه بالأعم الأغلب هو حصول الظن ببقائه. وقد تبيّن أنّ هذه الدعوى غير تامّة؛ لأنه لا يمكن أن نقول أنّ الغالب في ما يحدث أنه يبقى، هذا يختلف باختلاف الموارد وباختلاف الأشخاص، وباختلاف الاستعداد للبقاء، ولا يمكن أن نستنتج قاعدة كلّية؛ لأنّ كل الأمور التي تحدث هناك ظنٌ بالبقاء، ظنٌ بالبقاء إلى أيّ زمانٍ ؟ الشيء الذي يمكن أن يقال هو: أنّ الأمور التي لها استعداد للبقاء إلى فترة معلومة كعشر سنين ـــــــ مثلاً ــــــــ هذه الأمور يمكن أن يُدعى أنّ الغالب فيها هو البقاء إلى عشر سنين، فرضاً الفيل له استعداد للبقاء إلى عشر سنين، فإذا شككنا في بقاء واحد منها؛ حينئذٍ يمكن أن يقال أنّ مقتضى إلحاقه بالأعم الأغلب أن يحصل ظنٌ ببقائه؛ لأنّ الغالب في الفيل أنه يبقى إلى عشر سنين، لكن هذا لا يمكن تعميمه على كل الأمور التي تحدث، كل ما يحدث، سواء كان فيل، أو حشرة، أو حكم شرعي، أو موضوع لحكم شرعي، أو أيّ شيءٍ آخر، لابدّ أن يقال أنّ الغالب فيه أنه يبقى. هذا التعميم غير صحيح لأنه لا توجد غلبة تبرر لنا مثل هذا التعميم، وبالتالي لا يمكن دعوى حصول الظن من مجرّد الحدوث. هذا كلّه إذا كان الشك في البقاء من جهة الشك في استعداد الشيء للبقاء بعد وجود مقتضيه، من جهة الشك في مقدار اقتضاء المقتضي لبقاء هذا الشيء الذي يؤثر فيه.

وأمّا إذا فرضنا أنّ الشك كان من جهة الرافع، يعني نحرز المقتضي ونحرز استعداد البقاء، وإنّما نشك في البقاء من جهة الشك في وجود الرافع. هنا دعوى الظن بالبقاء لابدّ أن تستند إلى دعوى الظن بعدم الرافع، أنّ الموجودات يحصل ظنٌ بعدم وجود ما يرفعها، باعتبار أنّ الغالب في الموجودات عدم وجود ما يرفعها، فإذا شككنا في موردٍ يحصل ظنٌ بعدم الرافع، وحيث أنّ الشك في البقاء منحصرٌ في الشك من جهة الرافع، فيحصل ظنٌ بعدم الرافع. هذه الدعوى أيضاً عهدتها على مدّعيها ولا يوجد لدينا شيء من هذا القبيل، أي أنّ الموجودات هناك ظنٌ بعدم وجود ما يرفعها، أو أنّ الغالب عدم وجود ما يرفع هذه الأمور الموجودة. هذه كلها دعاوى ليس لها ما يثبتها.

وبهذا يتم الكلام عن المناقشة في صغرى الدليل وتبيّن أننا لا يمكن أن نقول بأنّ مجرّد الحدوث يوجب الظن بالبقاء؛ لأنّه لا منشأ لهذا الظن إلاّ دعوى الغلبة، وقد عرفت أنّ دعوى الغلبة في المقام غير ثابتة.

وأمّا الكبرى، فقد نوقش فيها بأنّه لا دليل على حجّية الظن لو سلّمنا حصول مثل هذا الظن في محل الكلام، ليس هناك دليل خاص يدل على حجية هذا الظن ولا دليل عام يدل على حجيته كدليل الانسداد ـــــــ مثلاً ــــــ لأننا نقول بعدم الانسداد، فمقتضى القواعد العامة عدم حجية مثل هذا الظن، فلو سلّمنا الكبرى، فلا دليل على حجية مثل هذا الظن حتى يثبت به حجية الاستصحاب. وهذه المناقشة واضحة وتامة؛ لأننا لا نملك دليلاً واضحاً على حجية الظن الحاصل ـــــــ على تقدير حصوله ـــــــ من حدوث الشيء، باعتبار أنه يورث الظن بالبقاء، ويقال أنّ هذا الظن حجة. لا نملك دليلاً على حجية مثل هذا الظن.

الدليل الثاني: السيرة العقلائية، بتقريب أنّ العقلاء لهم بناء على الأخذ بالحالة السابقة اعتماداً على اليقين السابق، فعندما يشكون في بقاء الحالة السابقة ويكون لهم يقين بها سابقاً، هناك بناء عملي من قبل العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة استناداً واعتماداً على اليقين بها؛ بل قالوا أنّ هذا ليس ثابتاً عند العقلاء فقط؛ بل هو ثابت حتى عند بعض الحيوانات، فإذا ضممنا إلى ذلك انعقاد السيرة ووجود هذا البناء العقلائي على الأخذ بالحالة السابقة ومرجعية الحالة السابقة، إذا ضممنا إلى ذلك عدم الردع من قِبل الشارع؛ حينئذٍ يثبت الإمضاء، وبالتالي تثبت حجية الاستصحاب، وهذا هو المطلوب في المقام.

نوقش في هذا الدليل كما في الكفاية [1] وغيرها بمناقشتين:

المناقشة الأولى: وترجع هذه المناقشة إلى المناقشة في الصغرى، يقول: أنّ هذا الذي نراه من الأخذ بالحالة السابقة من قِبل العقلاء، في الحقيقة ليس قائماً على أساس مرجعية الحالة السابقة، وإنّما هو قائم على اسس أخرى تختلف باختلاف الموارد، قد يكون الأخذ بالحالة السابقة من قِبل العقلاء ليس من باب مرجعية الحالة السابقة واستناداً إلى اليقين السابق، وإنّما من باب الاحتياط والتحرّز. السيد الخوئي(قدّس سرّه) يمثّل لذلك بالولد،[2] يقول: يرسل الأموال إلى ولده المسافر الغائب احتياطاً، هذا الاحتياط ليس على أنه يبني على البقاء ومرجعية الحالة السابقة؛ لأنه كان يتيقن بحياته، والآن يشك بها، وإنّما يرسل إليه باعتبار أنه يحتاج إلى المال، فيرسل إليه الأموال من باب الاحتياط. كما يمكن أن يكون بناء العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة من باب الاطمئنان بالبقاء، في بعض الأحيان يحصل اطمئنان بالبقاء، فالأخذ بالحالة السابقة من باب الاطمئنان وليس من باب مرجعية الحالة السابقة الذي هو الاستصحاب، يطمئنون بالبقاء، فيعملون بالبقاء طبقاً لاطمئنانهم، فيكون عملاً بالاطمئنان في الحقيقة لا بالاستصحاب. ويقول صاحب الكفاية(قدّس سرّه): يمكن أن يكون من باب الغفلة عن زوال الحالة السابقة، ويمثّلون لذلك بالحيوانات التي ترجع إلى أوكارها والإنسان في بعض الأحيان أيضاً يرجع إلى داره غفلة عن زوال الحالة السابقة أو عدم زوالها، الغافل عن احتمال الزوال وعدم الزوال لا يمكن أن نقول أنه يعمل بالحالة السابقة ويبني على عدم زوالها، فإذن: بناء العقلاء يمكن أن يكون قائماً على هذه الأسس، احتياطاً، أو من باب الأخذ بالاطمئنان بالبقاء، أو من باب الغفلة، ومن الواضح أنّ بناء العقلاء إذا كان قائماً على هذه الأسس، فهذا لا ينفعنا في محل الكلام؛ لأنّ ما نريد إثباته في المقام هو حجية الاستصحاب تعبّداً، سواء حصل الاطمئنان ببقاء الحالة السابقة أو لم يحصل، وسواء كان موافقاً للاحتياط، أو كان على خلاف الاحتياط، وحتى في حالة عدم الغفلة نريد أن نثبت أن الاستصحاب حجة، وهذا لا يثبت ببناءات العقلاء المذكورة القائمة على هذه الأسس، يقول: في ما عدا ذلك لا وضوح في وجود سيرة من قِبل العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة، كل الموارد التي يبني العقلاء فيها على الأخذ بالحالة السابقة لابدّ أنها تدخل في إحدى هذه الحالات، إمّا من باب الاحتياط، أو من باب الاطمئنان ببقاء الحالة السابقة، أو لأجل الغفلة، في ما عدا هذه الموارد كما إذا فرضنا أنّ الأخذ بالحالة السابقة لا اطمئنان به، وكان مخالفاً للاحتياط، ومع الالتفات لا مع الغفلة، لا وضوح في انعقاد سيرة من قبل العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة.

وبعبارة أخرى: هو يمنع من انعقاد سيرة عقلائية على الأخذ بالحالة السابقة لأجل مرجعية الحالة السابقة استناداً إلى اليقين بالحالة السابقة، هذا ليس ثابتاً، وإنّما ما نراه من الرجوع إلى الحالة السابقة عندما يبني عليه العقلاء لابدّ أن يكون على أساس إحدى الحالات الثلاثة المتقدّمة. بناءً على هذا حينئذٍ مثل هذه السيرة، أو البناء من قِبل العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة إذا كانت مسلّمة بهذا الشكل، فهذه لا تنفع في إثبات حجّية الاستصحاب، نحن نريد أن نثبت حجّية الاستصحاب، يعني الحجّية التعبدية للاستصحاب، هذا لا يثبت إلاّ إذا أثبتنا انعقاد السيرة على الأخذ بالحالة السابقة استناداً إلى اليقين السابق وليس استناداً إلى الاطمئنان، ولا من باب الاحتياط، أو الغفلة عن زوال الحالة السابقة؛ بل نفترض أنّ المكلف التفت إلى زوال الحالة السابقة، والأخذ بالحالة السابقة لا يوافق الاحتياط وليس هناك اطمئنانٌ ولا وثوقٌ ببقاء بالحالة السابقة، كلامنا في هذا، هل أنّ الاستصحاب حجّة، أو ليس بحجّة ؟ انعقاد سيرة من قِبل العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة مبنيّة على إحدى هذه الأسس لا ينفع في مقام إثبات حجّية الاستصحاب تعبّداً . هذه هي المناقشة الأولى التي تُستفاد من عبارة الكفاية.

المناقشة الثانية: لو سلّمنا انعقاد السيرة على الأخذ بالحالة السابقة استناداً إلى اليقين السابق، وأنّ هذا هو الذي يثبت حجّية الاستصحاب تعبّداً، لكنّه مع ذلك من الواضح أنّ إثبات حجّية الاستصحاب يحتاج إلى إمضاء هذه السيرة من قِبل الشارع، وإلاّ مجرّد انعقاد سيرة على الأخذ بالحالة السابقة حتى من باب التعبّد، لكن من قِبل العقلاء هذا وحده لا يكفي لإثبات الحجّية الشرعية المطلوبة في المقام، وإنّما هذا يتوقف على إمضاء الشارع لهذه السيرة، وإمضاء الشارع لهذه السيرة يتوقف على عدم الردع، والحال أنّ الشارع ردع عنها، ويكفي في إثبات الردع عن هذه السيرة الأدلة العامّة من الآيات القرآنية والروايات الناهية عن العمل بالظن، هذه الأدلة تكفي لإثبات الردع عن هذه السيرة؛ لأنّ هذه السيرة لا تخرج عن كونها عملاً بالظن، في أفضل تقاديرها هي عمل بالظن، والشارع نهى عن العمل بغير العلم، هذه الأدلة بإطلاقها، بعمومها تشمل محل الكلام فتصلح للردع، فكيف يمكن استكشاف الإمضاء الشرعي لمثل هذه السيرة لو سلّمنا انعقادها ؟!

بالنسبة للمناقشة الأولى: الكلام يقع في أنه هل يمكن لنا أن ننكر وجود سيرة وبناء من قبل العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة ؟ بقطع النظر عن أسباب هذا الأخذ. الظاهر أنه من الصعب جداً إنكار وجود سيرة من هذا القبيل، لا إشكال في وجود سيرة على الأخذ بالحالة السابقة بقطع النظر عن مناشئ جري العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة، في الجملة لا إشكال أنّ العقلاء يأخذون بالحالة السابقة، كثير من الأمور تتوقف على الأخذ بالحالة السابقة، كثير من الأمور الإنسان في معاملاته مع الآخرين، في الأمور المرتبطة بنفسه، أصلاً الإنسان بشكلٍ عام، معاشه ووضعه ونظامه يسير اعتماداً على هذا الاستصحاب، على البناء على الحالة السابقة، وإلاّ إذا صار البناء ندقق في كل ما نشك في بقائه لا نبني على بقائه إلاّ بعلمٍ أو اطمئنان، أو دليلٍ معتبر؛ فحينئذٍ تتوقف أمور الإنسان، إنسان لديه صديق غائب عنه منذ مدّة وهو يعلم أنه كذا، أو له الصفة الكذائية وبعد ذلك يشك في هذا، يبني على بقاء هذه الصفة، ويرتب الأثر على بقاء هذه الصفة، ولا نستطيع أن نقول له لا ترتب الأثر على البقاء، إلاّ إذا علمت ببقاء الحالة السابقة، أو حصل لك اطمئنان ببقاء الحالة السابقة؛ بل يرتب الأثر على الحالة السابقة. أو لديه ولد غائب ويشك في بقاء حياته، ليس دائماً يحصل اطمئنان ببقائه، وليس دائماً يكون موافقاً للاحتياط، لكن هناك ميل ذاتي، أو نفسي عند الإنسان إلى البناء على بقاء الحالة السابقة، وهذه القضايا لا تختص بالقضايا المرتبطة بالإنسان نفسه في تعامله مع الآخرين وفي ترتيب الآثار على بعض الأشياء، هو يحتاج إلى إحراز البقاء، ويبني العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة وعلى بقائها ويرتبون الأثر على بقاء الحالة السابقة، في التجّار والكسبة والقضايا المالية بشكلٍ عام لابدّ من افتراض البناء على بقاء الحالة السابقة، فالتاجر يرسل حوالة ــــــ مثلاً ـــــــ إلى تاجر غائب عنه عدّة سنوات، عملاً يرسل إليه الحوالة مع أنه لا يحرز بقاءه. وفي موارد خرى أيضاً من هذا القبيل، في معاش الإنسان بشكلٍ عام الظاهر أنه يتوقف على الأخذ بالحالة السابقة، وإلا يتوقف معاش الإنسان إذا صار البناء على التدقيق في هذه المسألة، بحيث أنّ الإنسان لا يرتب الأثر على بقاء الحالة السابقة إلاّ إذا ثبت البقاء بدليل معتبر بعلمٍ أو علميٍ؛ حينئذٍ يتوقف معاش الإنسان؛ لأنّ الإنسان بالنتيجة مرتبط بغيره ولديه تعامل مع الغير، وهذا يتوقف على الحياة والصحّة والقدرة والبقاء على الوضع المالي الذي كان يعهده به، كل هذه الأمور تثبت بالاستصحاب، حياته تثبت بالاستصحاب، وقدرته كذلك تثبت بالاستصحاب، وبقاءه على وضعه المالي أيضاً يثبت بالاستصحاب، عدم سيطرة الدولة على أمواله يثبت بالاستصحاب، فإذا صار البناء على أنه لا يرتب أثراً على هذا، فهذا يعني أنه سوف لن يرسل الحوالة؛ لأنّ إقامة العلم، أو العلمي على بقائه على حياته ليس أمراً سهلاً، فيختل هذا الجانب. وهكذا بقية الأمور. وقد ترتبط الأمور بحياة الإنسان، شخص يعتقد بأنّ هذا الطبيب كان ماهراً ضليع في علم الطب قبل فترة، بعد ذلك لا يحرز بقاءه على هذه الحالة، لعلّه نسي علمه، أو لعلّه جُنّ........الخ، لكن مع ذلك هو يبني على بقاء الحالة السابقة، حتى لا يكلّف نفسه عناء السؤال عنه هل أنه باقٍ على حالته السابقة، أو تغيّرت؟ وإنّما يبني على بقائه على الحالة السابقة ويرتب الأثر على ذلك.

على كل حال، إنكار وجود بناء من قِبل العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة بقطع النظر عن مناشئه، هو أمر غير ممكن وغير صحيح . ويؤكّد هذا ما ادُعي في كلماتهم من دعوى اختلال النظام إذا لم يُبنَ على الأخذ بالحالة السابقة، نظام الإنسان ومعاشه يختل إذا لم يُبنَ على بقاء الحالة السابقة.

فإذن: توجد سيرة من قِبل العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة، لكن لابدّ من البحث في أنّ هذه السيرة بهذا المقدار هل يكون عدم ردع الشارع عنها كافياً لإمضائها ؟ نفترض عدم الردع ـــــــالذي نبحثه في المقدمة الثانية ـــــــ عدم الردع عن سيرة من هذا القبيل هل يكفي لإثبات الإمضاء، أو لا ؟ قد يقال: أنّ مثل هذه السيرة حتى لو فرضنا أنّ الشارع لم يردع عنها، لكنّ عدم الردع لا يكفي لإثبات الإمضاء، هل ردع الشارع عن هذه السيرة، أو لم يردع، هذا أمر سنبحثه لاحقاً، لكن نفترض الآن أنّ الشارع لم يردع، نحن في هذه المقدمة نريد أن نثبت أنّ عدم ردع الشارع عن سيرة منعقدة يكفي في إمضائها، فيُطرح هذا السؤال: أنّ السيرة التي ادُعي أنّها موجودة وثابتة عند العقلاء، هل يكفي عدم ردع الشارع عنها لإمضائها ؟ وبالتالي تثبت حجّية الاستصحاب، أو لا يكفي؟

هنا لابدّ من أن يُبيّن أنه: تارة دعوى وجود السيرة وانعقادها على الأخذ بالحالة السابقة يُراد بها دعوى انعقاد سيرة على الأخذ بالحالة السابقة في المجال التشريعي، أي في مجال الأغراض التشريعية للعقلاء فيما بينهم، يعني الأحكام المولوية فيما بين العقلاء، باعتبار أنّ العقلاء عندهم مولى وعندهم عبد، آمر ومأمور، أعلى منزلة وأقل منزلة، فيُدّعى وجود سيرة على الأخذ بالحالة السابقة في المجال التشريعي. وبعبارة أوضح: يبنون على الاستصحاب باعتباره منجزاً ومعذراً ومؤمّناً من العقاب، لكن فيما بينهم، الأب مع أبنه، والسيد مع عبده.....وهكذا . هذا معناه قيام سيرة على الأخذ بالاستصحاب في المجال التشريعي. المُدّعى سابقاً ليس هو دعوى وجود سيرة على الأخذ بالاستصحاب، يعني ليس دعوى وجود سيرة وبناء فيما بينهم على أنّ الاستصحاب منجّز ومعذر في أغراضهم التشريعية؛ لأنّ هذه الدعوى غير واضحة، وإنّما الذي يُدعى هو أنّ العقلاء بانون على الأخذ بالحالة السابقة في مجال الأغراض التكوينية لهم كما في الأمثلة التي ذكرنا من قبيل مثال التاجر مع صديقه......وهكذا.

هذه السيرة على الأخذ بالحالة السابقة في مجال الأغراض التكوينية للعقلاء فيما بينهم يمكن إثبات أنّ عدم الردع عنها يكفي لإمضائها ويكون دليلاً على إمضائها بأحد تقريبين:

التقريب الأول: أن يُدّعى أنّ هذه السيرة للعقلاء في مجال الأغراض التكوينية امتدّت إلى مجال الأغراض التشريعية، بمعنى أنّ العاقل كما يأخذ بالحالة السابقة في مجال الأغراض التكوينية بعد أن ابتلى بالأغراض التشريعية سرت هذه السيرة إلى مجال الأحكام الشرعية، فأصبح العاقل عندما يثبت عنده حكم ويشك في بقائه يستصحب بقاء ذلك الحكم، فامتدت السيرة إلى الأحكام الشرعية، فإذا كان الأمر كذلك، فلا إشكال في أنّ سكوت الشارع وعدم ردعه عن هذه السيرة يكشف عن إمضائها؛ لأنّها امتدت إلى المجال الشرعي، ولو لم يرضَ بها لردع عنها، فإذا لم يردع كما هو المفروض، نستكشف من عدم الردع الإمضاء.

لكن هذا التقريب يحتاج إلى إثبات امتداد هذه السيرة إلى مجال الأحكام الشرعية، يعني عمل العقلاء بالسيرة حتى في المجال الشرعي، إثبات هذا الامتداد إلى الأحكام الشرعية يحتاج إلى دليل، ومن الصعب جداً إقامة دليلٍ على هذا الامتداد؛ ولذا لابدّ من افتراض التقريب الثاني.

التقريب الثاني: يقول لا نفترض الامتداد الفعلي، وإنّما نفترض أنّ السيرة العقلائية في مجال الأغراض التكوينية هي في معرض الامتداد، ولا نحتاج إلى إثبات أنها امتدت فعلاً، إذا ثبت أنها امتدت فعلاً، فبها ونعمت، لكن حتى إذا لم يثبت عندنا أنها امتدت فعلاً إلى الأحكام الشرعية للشارع المقدّس، لكنها في معرض الامتداد، باعتبار أنّ الإنسان يميل إلى الأخذ بالحالة السابقة، أي يوجد عنده ميل نفسي إلى الأخذ بالحالة السابقة، وهذا الميل النفسي إلى الأخذ بالحالة السابقة هو في معرض أن يمتد إلى الأحكام الشرعية؛ لأنّ العاقل حينئذٍ لا يُفرّق بين أغراضه التكوينية وبين الأغراض التشريعية، فالشيء الذي كان على يقين منه سابقاً هو يبني على بقائه على حاله وعدم تغيّره، فتكون هذه السيرة في معرض الامتداد إلى الأحكام الشرعية، وإذا كانت في معرض الامتداد، فأنها تشكّل خطراً على أغراض الشارع، وفي هذه الحالة، لو لم يرضَ الشارع بها لردع عنها تحرزاً من تفويت اغراضه التشريعية، إذا لم يكن هو يرضى بإثبات أحكامه الشرعية بالاستصحاب، فهو يتحرّز عن تعريض أغراضه التشريعية إلى الخطر بالردع عنها، فإذا سكت ولم يردع عنها يُستكشف من ذلك الإمضاء. بأحد هذين التقريبين يمكن إثبات أنّ سكوت الشارع وعدم ردعه عنها يكفي لإثبات الإمضاء .

 


[1] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص387.
[2] مصباح الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد محمد الواعظ الحسيني، ج3، ص11.