الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
38/05/02
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / الأصول العملية/ الاستصحاب
ذكرنا في الدرس السابق أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) ذكر أنّ هناك استصحاباً يُسمّى بــــ(الاستصحاب القهقرائي)[1] الذي يجري في الأوضاع اللّغوية وفي الظهورات اللّغوية، وذكر بأنّ هذا الاستصحاب هو عكس الاستصحاب المتعارف من ناحية تقدّم المتيقن زماناً على المشكوك زماناً حيث أنّ هذا هو المعتبر في الاستصحاب المتعارف، ينما في الاستصحاب القهقرائي يكون الأمر معكوساً، بمعنى أنّ المشكوك هو الذي يتقدّم زماناً على المتيقن، فنحن الآن نتيقن بالوضع اللغوي والظهور اللّغوي، هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى الآن، وظاهر في هذا المعنى الآن، ونشك في كونه كذلك في الزمان السابق، فنستصحب هذا الشيء المتيقن إلى الزمان السابق، لكنّه ذكر بأنّه لا دليل على هذا الاستصحاب، لا من الأخبار ولا من السيرة إلاّ في باب الأوضاع اللّغوية فأنه في باب الأوضاع اللّغوية ثبت هذا وكأنه ـــــــ والله العالم ـــــــ يستدل على ذلك بأنه يلزم من ذلك عدم إمكان التمسّك بالظهورات في الأدلة؛ لأنّ أيّ ظهور في الدليل إنّما غاية ما نستطيع أن نثبته هو أنّ هذا اللفظ في هذا الدليل الآن هو ظاهر في هذا المعنى بحسب ما نفهمه، فما نفهمه وما يمكن إثباته هو ظهور اللفظ الوارد في الآية الكريمة أو في الروايات هو ظهوره في هذا المعنى، لكن من قال أنّه ظاهر في هذا المعنى في زمان صدور النص ؟ فنحتاج إلى الاستصحاب لإثبات أنّ هذا المعنى الذي نفهمه من اللفظ الآن والذي نرى أنّ اللفظ ظاهر فيه الآن هو كان كذلك في الزمان السابق، وعليه: يمكن الاستدلال بهذه الأخبار وهذه الأدلة. يقول: هذا هو الذي يجبرنا على أنّ نلتزم بحجّية هذا الاستصحاب في الأوضاع اللّغوية.
السيد الشهيد(قدّس سرّه) ذكر شيئاً آخر، ذكر بأنّ هذا الاستصحاب في الحقيقة ليس استصحاباً مستقلاً عن الاستصحاب المتعارف وليس هو شيئاً آخر غيره. غاية الأمر أنه يثبت باعتبار اللازم،[2] وذكر في توضيح هذا المعنى ما معناه أنّ هذا الاستصحاب القهقرائي داخل في باب الظهورات، والظهورات بشكل عام هي تستند إلى الارتكازات العقلائية، وبشكل عام الارتكازات والبناءات العقلائية ليست قائمة على أساس التعبّد الصرف، هذا بعيد جداً فيها، وإنّما دائماً الارتكازات والبناءات العقلائية في باب الظهور تستند على أساس الكاشفية والأمارية لا على أساس تعبّدي صِرف، العقلاء ليس عندهم تعبّد، وإنّما يعملون بشيءٍ باعتبار أنه يورث الظن، ولو كان هذا الظن ظنّاً نوعياً، فعلى اساس الكشف والأمارية لا على أساس التعبّد الصِرف. هذا الارتكاز العقلائي الذي هو مدرك الاستصحاب القهقرائي، أو ما يُسمّى بأصالة عدم النقل الذي هو المدرك لهذا الأصل، هذا الارتكاز في الحقيقة مبني على اساس أنّ التغيّر والتبدّل في اللّغات هو أمر عادةً؛ بل دائماً لا يحصل في زمانٍ واحد بحيث يلتفت إليه الإنسان ويدركه الذي يعيش في ذلك الزمان، التغيّر في اللّغة بطيء جداً ولا يحصل إلاّ في أزمنة متطاولة؛ ولذلك لا يكون محسوساً لدى الإنسان العادي، التغيّر في اللّغة ثابت بلا إشكال، لكنّه ليس أمراً محسوساً للإنسان؛ لأنّه يستمر في زمان طويل ويحصل ببطء شديد جداً بحيث لا يكون محسوساً للإنسان الذي يعيش في ذلك الزمان، وعلى أساس عدم الاحساس به كأن الإنسان يفترض الثبات في اللغة؛ لأنّه لا يحس بهذا التغيّر ولا يدركه، وبناءً على هذا، وبحسب النظر المسامحي للإنسان يكون هناك نوع من الثبات للّغة وأنها لا تتغير ومن هنا إذا فُرض أنّ لفظاً ما كان ظاهراً في معنى ما، أو كان موضوعاً لمعنى معيّن يُلتزم ببقاء هذا الظهور وهذا الوضع وعدم تغيّره، وكأنّ حدوث هذا الوضع وحدوث الظهور مستلزماً لبقائه؛ فحينئذٍ بعد البناء على ذلك، وارتكز في أذهان العقلاء أنّ اللّغة ثابتة لا تتغير وأنه إذا ثبت الحدوث، فإنه يكون ملازماً للبقاء؛ حينئذٍ إذا ثبت عند العقلاء وضع لفظٍ لمعنى معيّن، أو ظهور لفظٍ في معيّن، ثمّ شكّوا بعد ذلك في بقاء هذا الوضع، وفي بقاء هذا الظهور يجري استصحاب بقاء ذلك الظهور استناداً إلى الارتكاز العقلائي، ويبنون على بقاء هذا الظهور وبقاء هذا الوضع وينفون الشك في البقاء، ويفترضون البقاء استناداً إلى هذا الارتكاز العقلائي باعتبار أنّ هناك ملازمة بين حدوث هذا الوضع والظهور اللّغوي وبين بقائه، ولو ملازمة غالبية، فيبنون على ذلك، وهذا هو الاستصحاب المتعارف، يعني عندما نعلم بوضع لفظٍ لمعنى معيّن، أو ظهور لفظٍ في معنى معيّن، ثمّ شككنا في تغيّره؛ فحينئذٍ يقول: مادام الحدوث كان حاصلاً، فهو مستلزم للبقاء، فيبنون على بقاء ذلك الظهور وذلك الوضع ولا يعتنون باحتمال التغيّر والتبديل، وهذا هو الاستصحاب المتعارف.
يقول: إذا فرضنا العكس، كما هو في محل الكلام، يعني إذا فرضنا أنّ الوضع المتيقن، أو الظهور المتيقن كان الآن في زماننا، وشككنا في كونه كذلك في زمانٍ سابق، يمكننا أن نثبت أنه كذلك في الزمان السابق، أي أنه موجود في الزمان السابق استناداً إلى نفس هذا الاستصحاب المتعارف، وذلك باعتبار أنّ هذا الاستصحاب المتعارف المُسمّى بأصالة الثبات في اللّغة، أو أصالة عدم النقل، أو الاستصحاب القهقرائي هو من الأمارات؛ لأنّه مبني على غلبة الثبات في اللغة وصعوبة تغير اللغة، فإذن: هو أمارة، فإذا كان أمارة تكون مثبتات الأمارة حجّة، وتكون مثبتات الاستصحاب القهقرائي حجّة، فإذا كانت مثبتاته حجّة يثبت في محل كلامنا أنّ اللفظ الظاهر في المعنى الكذائي الآن هو لابدّ أيضاً أن يكون ظاهراً فيه في زمان سابق، وإلاّ لزم التغيّر وعدم الثبات في اللّغة، والمفروض أنّ الأصل هو الثبات وعدم التغيّر في اللّغة، فأصالة الثبات في اللّغة، الاستصحاب القهقرائي، أصالة عدم النقل، عبّر ما شأت بهذه التعابير، هذا له لازم هو أنك إذا تيقنت بوضع اللفظ لمعنى معيّن أو ظهور اللفظ في معنى معيّن الآن وشككت في كونه كذلك في زمانٍ سابق لازم ذلك الأصل أن يكون ذلك المعنى موجوداً أيضاً في الزمان السابق، وإلاّ يلزم التبدّل والتغيير وعدم الثبات؛ لأنه لو كان هناك ثبات لكان هذا المعنى بنفسه موجوداً في الزمان السابق. افتراض أنّ هذا المعنى غير موجودٍ في الزمان السابق يعني التبدّل والتغيير، والمفروض أنّ لدينا أصل يقول أنّ الأصل هو الثبات وعدم النقل وعدم التغيير، وهذا الأصل ليس أصلاً عملياً حتى يقال أنّ هذا الأصل ليس حجّة في مثبتاته، وإنّما هو أمارة مبني على الكاشفية وعلى حصول الظن ولو نوعاً، فإذن هو أمارة، وإذا كان أمارة يكون حجّة في مثبتاته، يعني يكون حجة في لوازمه، ولازم الاستصحاب القهقرائي الذي يجري في الحالات المتعارفة هو أنه في محل الكلام يستلزم أن يكون المعنى الظاهر فيه اللفظ الآن أيضاً يكون اللفظ ظاهراً فيه في الزمان السابق، وإلاّ يلزم عدم الثبات وحصول التغيّر والنقل، فمن هنا يكون الثابت في المقام هو أصالة الثبات في اللغة، أو أصالة عدم النقل فقط، هذا الأصل هو عبارة عن الاستصحاب المتعارف وليس شيئاً غيره.
بعبارة أخرى: عندما تكون هناك حالة سابقة للظهور اللّغوي يُبنى على بقائها، باعتبار أنّ حدوث الوضع اللغوي ملازم لبقائه لحسب الارتكازات العقلائية أنّ الوضع اللغوي إذا ثبت، فهناك ملازمة بين ثبوته وبين بقائه؛ لأنّ اللغة غالباً لا تتغير ولا تتبدل، فالمدعى في المقام هو: أنّ الثابت بحسب الارتكاز العقلائي أنّ هناك ملازمة بين حدوث الوضع اللغوي والظهور اللغوي وبين بقائه، وهذا لازمه أنه في محل الكلام يثبت أنّ المعنى الذي يكون اللفظ ظاهراً فيه الآن هو أيضاً ظاهر فيه في الزمان السابق، وإلاّ يلزم النقل والتغيير وعدم الثبات والمرتكز في أذهان العقلاء هو عدم النقل وعدم التغيير، فيثبت ظهور اللفظ في الزمان السابق في نفس المعنى الذي هو ظاهر فيه الآن بلا حاجة لأن نستدل عليه باستصحاب آخر في قبال الاستصحاب المتعارف نسمّيه الاستصحاب القهقرائي، وإنّما نثبته باعتباره لازم للاستصحاب المتعارف.
إلى هنا يتم الكلام عن المقدمة التي اشتملت على جملة من المطالب . وبعد الفراغ عن هذه المقدّمة يقع الكلام في مباحث:
المبحث الأول: أدلة الاستصحاب. ما هو الدليل على حجّية الاستصحاب وإمكان الاستناد إليه والاعتماد عليه لإثبات الأحكام الشرعية ؟ ذكروا أنّ الأدلة التي ادُعي دلالتها على حجّية الاستصحاب هي عبارة عن:
الدليل الأول: الظن بالبقاء بدعوى أنّ الثبوت في الزمان السابق يلازم الثبوت في الزمان بدعوى أنّ الثبوت في الزمان السابق يوجب الظن بالثبوت في الزمان اللاحق.
الدليل الثاني: السيرة العقلائية.
الدليل الثالث : الإجماع.
الدليل الرابع: الأخبار .
لابدّ من الكلام عن هذه الأدلّة كل دليلٍ على حِدة:
الدليل الأول: الظن بالبقاء يقال في تقريب دليلية هذا الدليل: بأنّ الحدوث، أو الثبوت في الزمان السابق يقتضي الظن بالبقاء، فيحصل من الثبوت في زمانٍ سابقٍ الظن بالبقاء، فإذا شككنا في بقاء الشيء الثابت سابقاً، هناك ظنٌ بالبقاء؛ وحينئذٍ يقال: لابدّ من العمل بهذا الظن؛ لأنّه حجّة، ولا إشكال في أنّه إذا تمّت هاتان المقدمتان الصغرى والكبرى تثبت حجّية الاستصحاب؛ لأنّ الحدوث يلازم الظنّ بالبقاء، هذه الصغرى، وهذا الظن بالبقاء الذي يحصل من الحدوث يجب العمل به؛ لأنه حجّة، من دون فرقٍ بين أن يكون المراد بهذا الظن الحاصل من الحدوث هو الظنّ الشخصي، أو هو الظن التوعي، يُدّعى في هذا الدليل بأنه حجّة، الظن الشخصي بحيث تدور الحجّية مدار وجوده، فإذا انتفى لا تثبت له الحجّية، فإذا حصل الظن عند شخص يكون الاستصحاب حجة بالنسبة إلى هذا الشخص ، وإذا حصل عند شخصٍ آخر لا يكون حجة، أو يكون المناط فيه هو الظن النوعي الذي يكون حجّة حتى في المورد الذي لا يحصل فيه ظنٌ شخصي لوجود مانعٍ ــــــ مثلاً ــــــ مع ذلك هو يكون حجّة كما هو الحال في الظنون النوعية، على كلا التقديرين يُدّعى في هذا الدليل أنه يكون حجّة، فلابدّ من العمل به.
هذا هو الدليل الأول، وهو كما هو واضح مؤلف من صغرى وكبرى، فلابدّ لإتمام هذا الدليل من تسليم الصغرى والكبرى، وكلٌ منهما هو محل مناقشة حيث نوقش في هذا الدليل صغرى وكبرى. أمّا بالنسبة إلى المناقشة الصغروية، فقيل: أننا نمنع من أن يكون مجرّد الحدوث مستلزماً للظن بالبقاء من دون الأخذ بنظر الاعتبار الأشخاص الذين يريدون أن يجروا الاستصحاب، الموارد مختلفة، وفي الأشخاص أيضاً يوجد اختلاف، وهناك اختلاف في زمان البقاء، فلا نستطيع القول بشكلٍ عام بأنّ مجرّد الحدوث يكون موجباً لحصول الظن بالبقاء. والظاهر أنّ هذه المناقشة الصغروية تامّة، بمعنى أنّ مجرّد الحدوث لا يكون مستلزماً للظن بالبقاء، وذلك باعتبار ما أشرنا إليه من أنّ حصول الظن وعدم حصوله يختلف اختلافاً كبيراً باختلاف الأشخاص واختلاف الموارد واختلاف مدّة البقاء، واختلاف المقتضي للحدوث في الزمان السابق ومقدار استعداد ما يحدث بذاك المقتضي للبقاء يختلف، الحيوانات عمرها يختلف، وبقاء الأشياء أيضاً يختلف، فليس هناك شيئاً محدداً يقتضي أن نقول أنّ مجرد حدوث شيءٍ يكون مستلزماً للظن ببقائه، هذا أمر لا دليل عليه، ويمكن التعبير عن هذا بعبارة أخرى وهي أن يقال: عندما نتيقن بحدوث شيءٍ ثم نشك في بقائه، الشك في البقاء لابدّ أن يكون إمّا من جهة الشك في اقتضاء المقتضي للحدوث، وقابلية الحادث للبقاء على أساس وجود ذلك المقتضي، من هذه الجهة نحن نشك في البقاء؛ لأننا لا نعلم أنّ المقتضي لحدوث ذلك الشيء بأي مقدارٍ هو يقتضي حدوثه وبقائه، هو يقتضي حدوثه، لكن هذا الاقتضاء له أمد محدد ، المقتضي لبقاء حيوانٍ كالفيل غير المقتضي لبقاء حيوانٍ كالحشرة ــــــ مثلاً ــــــ فالمقتضي لبقاء الفيل يقتضي الاستعداد للبقاء لفترة طويلة، بينما هذا يقتضي استعداد البقاء لفترة قصيرة، فنحن نشك في البقاء من جهة شكّنا وعدم علمنا بمقدار اقتضاء المقتضي، هذا ليس واضحاً لدينا وقابلية الشيء للبقاء على اساس وجود المقتضي أيضاً ليس واضح لدينا، فنشك أنّ هذا الشي يقيناً حدث، نشك في بقائه؛ لأننا لا نعلم أنّ مقتضي بقائه ما هو مقدار اقتضائه لبقاء هذا، نشك في هذا، فيحصل عندنا شكٌ في البقاء. وإمّا أن يكون الشك في البقاء ينشأ ليس من جهة الشك في المقتضي، المقتضي محرز، واستعداد البقاء أيضاً محرز حتى في هذا الزمان، أي أنّ المقتضي يقتضي بقاء هذا الشيء إلى الآن، لكنّ الشك في البقاء ينشأ من جهة الشك في وجود الرافع، قد يحصل شيء يوجب رفع ذلك الشيء وأزالته ومحوه، فيكون الشك في البقاء مستنداً إلى الشك في وجود الرافع. إذا كان الشك في استعداد المقتضي أو في مقدار المقتضي، أو في قابلية ما يقتضيه للبقاء، وكيف يؤثّر عليه، ولأي زمان يؤثر عليه، ومدة البقاء، إذا كان من هذه الجهة، فهذا هو الذي قلنا أنه يختلف باختلاف الموارد، بمعنى أننا عندما نفترض أننا تيقّنا بحدوث شيء وشككنا في بقائه من جهة الشك في المقتضي ومقدار قابليته لإبقاء ما يقتضيه لفترةٍ معينة، نقول بأنّ حدوث ذلك الشيء يوجب الظن ببقاء هذا الشيء؛ لأنّه يُدّعى بأنّ هناك غلبة في أنّ الشيء الذي له مقتضٍ للبقاء الغالب فيه أنه يبقى، هذا لا يمكن الاستدلال به على البقاء في هذا المثال الذي نشك في أصل المقتضي فيه ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ يعني ما يمكن أن نقوله هو أنّ الشيء الذي يقتضي البقاء لفترة إذا شككنا في بقائه نقول أنّ الغالب في ما يقتضي البقاء إلى عشرين سنة خلال هذه العشرين سنة الغالب هو بقاءه، لكن هذا عندما نعلم المقتضي ونعلم مقدار الاقتضاء، هذا كيف يمكن تطبيقه في محل الكلام الذي لدينا شك فيه في أصل اقتضاء المقتضي ؟! لا نستطيع أن نقول أنّ الأشياء التي تقتضي البقاء لفترة الغالب فيها هو البقاء لتلك الفترة، وهذا لا يمكن الاستدلال به في محل الكلام؛ لأنّه في محل الكلام المفروض أننا نشك في أصل اقتضاء المقتضي، تطبيقه هذا على محل الكلام غير صحيح، نستطيع أن نقول ــــــ مثلاً ــــــ بأنّ المقتضي لبقاء الحيوان الكذائي يقتضي بقائه لفترة خمسين سنة، هذا الحيوان نفسه الذي أحرزنا فيه المقتضي ومقدار الاقتضاء، إذا شككنا في بقائه خلال هذه الفترة نستطيع أن نقول فيه هذا باقٍ، لكن إذا شككنا في حيوان من جهة الشك في استعداده للبقاء، نحن نعلم بأنّ للفيل استعداد للبقاء لفترة خمسين سنة، ونعلم بأنّ الحشرة لها استعداد للبقاء إلى شهر ــــــ مثلاً ـــــــ أمّا في حيوانٍ آخر لا نعلم مقدار استعداده للبقاء، لا نستطيع أن نقول هذا يحصل هناك ظنٌ ببقائه؛ لأنّ الغالب في مثل الفيل أنه يبقى لمثل تلك الفترة، أمّا في ذلك الشيء وما يُشك في أصل الاقتضاء وفي مقداره شيء آخر، وهنا لا يحصل الظن بالبقاء في مثل هذا عندما يكون الشك في أصل الاقتضاء.
أمّا إذا كان الشك في البقاء من جهة الشك في الرافع مع إحراز المقتضي وإحراز قابلية الشيء للبقاء ومقدار الاقتضاء، الشمعة لها قابلية البقاء وهي مشتعلة وفيها نار بمقدار ساعة، أنا لا أشك في استعدادها للبقاء، وإنّما أشك في وجود ريحٍ تطفئ هذه الشمعة؛ حينئذٍ الشك في البقاء يتعيّن وينحصر في الشك من جهة وجود الرافع، ومع الشك في وجود الرافع ما معنى أن نقول أنّ هذا الشيء يبقى ؟ لابدّ أن يكون من جهة البناء على عدم الرفع، يعني عندما تشك في وجود ما يرفع شيئاً موجوداً ثابتاً، فهل لدينا أصل من قبيل أصالة عدم الرافع يمكن البناء عليه، أنّ الأصل في الموجودات هو عدم وجود ما يرفعها ؟ لا يوجد عندنا هكذا أصل، هذا أصل لا أساس له أصلاً، لا يوجد أصل مرتكز في أذهان العقلاء يُسمّى بعدم الرافع، أنّ الأصل في الأشياء الموجودة أنّها لا يكون لها ما يرفعها، مثل هذا الأصل لا وجه له، ودعوى إثبات البقاء في هذا الفرض مبتنٍ على أصالة عدم الرافع بناءً على أنّ الشك في البقاء ينشأ من الشك في وجود الرافع.
ومن هنا يظهر أنّ دعوى أنّ مجرّد الحدوث يوجب الظن ويستلزم الظن بالبقاء هذا أمر غير صحيح صغروياً.