الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
38/04/19
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
الكلام في حرمة الإضرار بالنفس، المعروف أنّ لا دليل على حرمة الإضرار بالنفس إذا لم يكن الضرر بليغاً، وكأنّه إذا كان الضرر بليغاً واصلاً إلى حدّ إلقاء النفس في التهلكة وأمثاله، لا إشكال في حرمته، وإنّما يقع الكلام فيما إذا لم يبلغ هذا الحد، فهل هناك دليل على حرمته، أو لا ؟ الكلام تارةً يكون بلحاظ قاعدة لا ضرر، بمعنى أنّه هل يمكن أن نستفيد من قاعدة لا ضرر حرمة الإضرار بالنفس بالمعنى الذي نتكلّم عنه، وتارة أخرى يكون بلحاظ الأدلة الخاصة؛ إذ قد يُستدل على حرمة الإضرار بالنفس ببعض الأدلة والروايات بقطع النظر عن قاعدة لا ضرر.
بالنسبة إلى الأدلة الخاصة: قد تُذكر بعض الأدلة وبعض الروايات الخاصة التي يُدّعى أنّها ظاهرة، أو دالة على حرمة الإضرار بالنفس وليس في هذه الروايات ما يوجب تقييدها بخصوص الضرر البليغ؛ بل مقتضى إطلاقها هو شمولها لكل ضررٍ.
الدليل الأوّل: ما نُقل عن المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنه استدل برواية طلحة بن زيد المروية في الكافي والتي نقلها صاحب الوسائل(قدّس سرّه) في كتاب (أحياء الموات) الباب 12 ح 2 الرواية ينقلها صاحب الوسائل(قدّس سرّه) عن الكافي، يرويها الشيخ الكليني، عن محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد، عن محمد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، والظاهر أنّ السند تام؛ إذ ليس فيه من يُخدش فيه إلاّ طلحة بن زيد الراوي المباشر عن الإمام(عليه السلام)، فأنّه لم يوثّق صريحاً، لكن الشيخ الطوسي(قدّس سرّه) عندما ذكره قال أنّ له كتاب معتمد، يُستكشف من هذه العبارة إمكان الاعتماد عليه كما ذُكر هذا في نظائر المقام عندما يقال أنّ فلان بن فلان له كتاب معتمد، هذا يعني أنه يمكن الاعتماد على نفس الشخص، وإلاّ كيف يكون كتابه معتمداً وهو ليس محل الاعتماد ؟! فالظاهر أنّ السند معتبر ولا بأس بهذه الرواية سنداً.
نقل الشيخ الكليني هذه الرواية في الكافي بهذا الشكل: طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنّ الجار كالنفس غير مُضارٍ ولا آثم).[1] لكنّها رواية مقتطعة، هناك حديث طويل وقعت هذه الرواية في ضمنه وقد نقل الشيخ الكليني الرواية في موضع آخر [2] ، كلمة (الجار) الواردة في الرواية فيها احتمالان: بعضهم فسّر الجار بأنه من الجوار، بمعنى المجاور. الاحتمال الآخر أصر عليه بعض المحققين كالشيخ المجلسي(قدّس سرّه) في (مرآة العقول) يقول أنّ الجار هنا من أجاره، أي أعطاه الأمان. بناءً على هذا الاحتمال يكون المراد بالجار المُجير أي من أعطى الأمان، أو يُراد به المُجار أي من أعطى الأمان، يظهر من الرواية في سياقها الكامل الذي ينقله الشيخ الكليني في موضعٍ آخر في باب إعطاء الأمان، يظهر من سياقها أنّ الاحتمال الثاني أقرب من الاحتمال الأول، يعني أنّ المقصود هو الجار من أجاره وليس من جاوره. بناءً على ترجيح هذا الاحتمال ـــــــ لأنّه سيأتي في الاستدلال بالرواية لا فرق بين كون المقصود في الرواية هو الجار من الجوار، أو الجار من أجاره ــــــــ حينئذٍ يكون هناك احتمالان أنّه ما هو المقصود بالجار ؟ هل يُراد به المُجير، أو يُراد به المُجار ؟ من أعطى الأمان، أو من اُعطي له الأمان ؟ المناسب لقوله (عليه السلام) (الجار كالنفس) أن يكون المقصود به المُجار، كأنه يقول لهذا أنّ من أعطيته الأمان بمنزلة نفسك، تشبيه المُجار بالنفس قرينة على أنّ المراد بالجار هو المُجار، لكن قوله بعد ذلك: (غير مضار ولا آثم) قد يكون بالعكس، باعتبار أنّ المقصود بالجار هو المُجار؛ حينئذٍ المناسب أن يقول أنّ المُجار غير مضار ولا مأثوم، يعني لا يلحقه ضرر ولا أثم من قِبل المُجير، فهذا قد يرجّح أن يكون المقصود بالجار هو المُجير لا المُجار . على كل حال، الظاهر أنّ الاستدلال بالرواية لا يُفرّق فيه بين كل هذه الاحتمالات، بالنتيجة ظاهر الرواية هو المفروغية عن حرمة الإضرار بالنفس، كأنه اُخذت أصلاً مفروغاً عنه، ويخاطب الإنسان الجار، أو المُجير بأنّ من أجرته، أو من جاورته هو بمنزلة نفسك، كما أن النفس لا يجوز الإضرار بها ولا إلحاق الثم بها، كذلك من أجرته، أو جاورته، فلا يجوز الإضرار به . ومن هنا لا يؤثر اختلاف النسخ في الاستدلال بالرواية . ويُنقل أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) كان يتمسك بهذه الرواية لإثبات حرمة الإضرار بالنفس.
تتميم الاستدلال حتى ينطبق على محل الكلام، أنّ الرواية مطلقة من حيث الضرر ولا داعي لتقييده بخصوص الضرر الذي يصل إلى مستوى، أو ما دون إلقاء النفس في التهلكة، فيثبت بذلك حرمة الإضرار بالنفس.
الظاهر أنّ الرواية معتبرة سنداً، لكن يمكن التأمّل في دلالتها، باعتبار أنّ هناك احتمالاً قد يُطرح وهو أنّ الإمام(عليه السلام) ليس في مقام إثبات حرمة الإضرار بالجار على أساس الفراغ عن حرمة الإضرار بالنفس، يعني ما فُرغ منه في الحديث ليس هو حرمة الإضرار بالنفس حتى يقال هذا أصل مفروغ عنه فيثبت، وإنّما ما فُرغ عنه في الحديث هو عدم إضرار الإنسان بنفسه تكويناً، بطبيعة الحال الإنسان لا يضر بنفسه؛ بل هو دائماً يحاول إبعاد الضرر عن نفسه، كأنّ الرواية تقول للمكلف أنت كما لا تضر بنفسك ينبغي أن تكون هكذا بالنسبة إلى الجار، الرواية كأنها تريد أن تقول: يحرم الإضرار بالجار لأنّ الجار كالنفس، كما أنّك لا تُلحق الضرر بنفسك، وليس المراد بــــ(لا تُلحق الضرر بنفسك) بمعنى أنه حرام عليك إلحاقه، الرواية لا تثبت هذا المعنى، وإنّما باعتبار أنّ الإنسان لا يُلحق الضرر بنفسه عادة وبطبيعة الأمور، بما أنك تحرص على نفسك وتتجنّب إلحاق الضرر بها، الجار ينبغي أيضاً تنزيله بهذه المنزلة.
إذن: ما فُرغ عنه في الرواية ليس هو حرمة الإضرار بالنفس، وإنما ما فُرغ عنه في الرواية هو عدم إضرار الإنسان بنفسه تكويناً، لا إشكال في أنّ هذا أمر مفروغ عنه ومسلّم ولا أحد ينكره، لكنّ لا يثبت به حرمة الإضرار بالنفس. هذا المعنى إن لم يُستظهر من الرواية كما هو غير بعيد، أنّ الرواية ظاهرة في هذا المعنى، فلا أقل من كونه احتمالاً معتداً به في الرواية يوجب إجمال الرواية وعدم صحة الاستدلال بها في محل الكلام.
قد يُستدل أيضاً على حرمة الإضرار بالنفس بقوله (عليه السلام) في حديث طويل مذكور في كتاب الأطعمة المحرّمة في باب الأطعمة المحرمة، الباب 1 الحديث 1 ، في مقطع من هذا الحديث وهو حديث طويل فيه هذه العبارة: (وعلِم ما يضرهم، فنهاهم عنه وحرّمه عليهم). الحديث: المفضّل بن عمر، قال: (قلت لأبي عبد الله "عليه السلام" أخبرني جعلني الله فداك لمَ حرم الله الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير ؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبة منه في ما حرم عليهم ولا زهد في ما أحل لهم، ولكنه خلق الخلق، فعلم ما تقوم به أبدانهم، وما يصلحهم وأباحه تفضلاً منه عليهم به لمصلحتهم، وعلِم ما يضرهم، فنهاهم عنه وحرّمه عليهم). الاستدلال بهذه الفقرة(وعلِم ما يضرهم، فنهاهم عنه وحرّمه عليهم)؛ إذ يُفهم من هذه العبارة أنّ كل ما يضر الإنسان هو منهي عنه؛ لأنّ الله(سبحانه وتعالى) علم ما يضر الإنسان، فنهاهم عنه وحرّمه عليهم. إذن: طل شيء يضر بالإنسان هو منهي عنه ومحرّم عليه، فإذا كانت أكلة معينة تضر بالإنسان تكون محرّمة، أو عمل معين يقوم يؤديه الإنسان يكون ضاراً به، هذا ينبغي أن يكون محرّماً؛ لأنّ الذي يُفهم من الرواية هو أنّ الله(سبحانه وتعالى) علم الأمور التي تضر بالإنسان؛ ولأنها تضر به حرّمها عليهم ونهاهم عنها. إذن: كل ما يُلحق ضرراً بالإنسان هو منهي عنه ومحرّم، فلا يجوز للإنسان أن يأكل أكلاً يضر به، أو يفعل شيئاً يضر به؛ لأنه مع فرض الضرر، الرواية تقول أنّ هذا شيء مضر؛ وحينئذٍ يكون منهياً عنه ومحرّماً .
لإتمام الاستدلال لابدّ أن نقول: أنّ الرواية مطلقة، والضرر فيها مطلق ولا موجب لتخصيصه بخصوص المرتبة الشديدة من الضرر؛ بل مطلق ما يضر الإنسان يكون منهياً عنه، وبالتالي لا يجوز للإنسان أن يلحق الضرر بنفسه، كل شيء يضر بالإنسان لا يجوز فعله، وهذا هو المطلوب .
هذه الرواية لها طرق كثيرة، لكن يبدو أنّ كل طرقها غير تامّة سنداً حسب الظاهر، ومن حيث الدلالة أيضاً يمكن أيضاً التأمل في دلالتها على حرمة مطلق الضرر والنهي عن كل ما يضر بالإنسان على إطلاقه، وذلك باعتبار أنّه بقراءة الرواية والتأمل فيها يظهر أنّ المراد ليس مطلق الضرر، وإنّما ضرر من نوعٍ خاص؛ لأنّ السؤال وقع عن سبب تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير، وبعد ذلك يذكر المضار التي تترتب على هذه الأشياء وهي مضار كبيرة جداً ومهمّة جداً قد تصل إلى إلقاء النفس في التهلكة وأمثاله، فالظاهر أنّ الرواية ناظرة إلى هذا التوع من الضرر لا إلى مطلق الضرر، صحيح أنّ الرواية قالت: (وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم) لكن من تتمة الرواية عندما يذكر لماذا حرّم الخمر يذكر أضراراً مهمة جداً وكبيرة وبليغة، مثلاً: لماذا حرّم القمار ؟ لأنّ فيه أضرار كبيرة جداً قد يؤدي بالإنسان إلى أن يقتل غيره وأمثال ذلك، هذه هي الأضرار التي تُذكر في الرواية، ومن هنا يمكن أن يقال أنّ هذا قد يمنع من إطلاق الرواية لمطلق الضرر ويختص حينئذٍ بالضرر البليغ، فلو تمّت دلالة الرواية، لا دليل على إطلاق الضرر فيها؛ بل لابدّ من تقييدها بخصوص الأضرار البليغة من قبيل الأضرار التي ذُكرت في نفس الرواية.
يخطر في بالي أنّ بعض الروايات تعلل تحريم بعض الأشياء بفساد الأبدان، هذا أيضاً يؤيد ما نقوله من أنّ الضرر الذي يكون موجباً للتحريم واصل إلى درجة فساد الأبدان وليس كل ضرر، هذا الذي يُعبر عنه بالضرر البليغ يمكن الالتزام بحرمته لا كل ضررٍ ومطلق الضرر، لابدّ من الفحص حتى نعثر على رواية من هذا القبيل، تعليل حرمة الميتة بفساد الأبدان والآفة . وحرّم الله تعالى الدم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الأبدان؛ ولأنه يورث الماء الأصفر، ويبخّر الفم، وينتن الريح، ويسيء الخلق، ويورث القسوة للقلب وقلة الرأفة والرحمة، ولا يؤمَن أن يقتل ولده ووالده وصاحبه ......الخ. هذا النوع من الأضرار يمنع من إطلاق الرواية لمطلق الضرر. هذا ما يمكن أن يُستدل به من الروايات الخاصة على حرمة الإضرار بالنفس ، والظاهر أنّها غير تامّة.
هل يمكن الاستدلال بقاعدة لا ضرر على حرمة الإضرار بالنفس ؟ بعد الفراغ عن دلالة القاعدة على حرمة الإضرار بالغير، ولا إشكال في أنّ القاعدة تدل على حرمة الإضرار بالغير، وإنّما الكلام في أنه هل يمكن الاستفادة منها لإثبات حرمة الإضرار بالنفس أيضاً أو لا ؟
قد تُقرّب دلالة الحديث الشريف على حرمة الإضرار بالنفس بأن يقال: أنّ جواز الإضرار بالنفس حكم ضرري كسائر الأحكام الضررية الأخرى، فينفى بالقاعدة. بالضبط كما نطبّق هذا على جواز الإضرار بالغير، فكما نقول أنّ جواز الإضرار بالغير ضرري، فيُنفى الجواز بلا ضرر، فيثبت عدم جواز الإضرار بالغير وحرمة الإضرار بالغير، كذلك جواز الإضرار بالنفس أيضاً ضرري، غاية الأمر أنّ جواز الإضرار بالغير يكون على الغير، بينما هذا يترتب الضرر فيه على النفس، بالنتيجة كلٌ منهما ضرري، فيُنفى بلا ضرر، فيرتفع جواز الإضرار بالنفس، ويثبت عدم جواز الإضرار بالنفس، يعني حرمة الإضرار بالنفس.
الجواب عن هذا التقريب:
الجواب الأول: ننكر أن يكون جواز الإضرار بالنفس حكماً ضررياً، وأنه يختلف عن جواز الإضرار بالغير حكم ضرري بلا إشكال، لكن جواز الإضرار بالنفس ليس حكماً ضررياً، وذلك باعتبار أنّ جواز الإضرار بالغير ضرري؛ لأنّه تحميل للضرر على الغير بحيث أنّ الغير يقف عاجزاً أمام هذا الضرر وأمام هذا الحكم الشرعي، بمعنى أنه لا حول له ولا قوة أمام هذا الجواز، ذاك الطرف الآخر لو كان يجوز له الإضرار بالغير يستخدم هذا الجواز ويستند إليه في الإضرار بالغير، والغير يقف عاجزاً أمامه شرعاً، تكليفاً قد لا يكون عاجزاً، وبإمكانه أن يمنعه، لكنه شرعاً يقف عاجزاً؛ لأنّ الشارع جوّز لهذا الإضرار بالغير، ومن هنا يكون الغير، أي من لحق به الضرر يقف عاجزاً؛ ولذا يكون جواز الإضرار بالغير فيه تحميلٌ للضرر على الغير بنحوٍ يكون الغير مكتوف اليد أمام هذا الحكم الشرعي ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، ومن هنا هذا الضرر الذي يلحق الغير لو استند الشخص إلى هذا الجواز وأضر بالغير يكون هذا الضرر الذي يلحق الغير مستنداً إلى الحكم الشرعي؛ لأنّ الغير حُمّل هذا الضرر، وهو من ناحية شرعية عاجز أمامه ولا يستطيع أن يصنع شيئاً، لكن هذا خلاف جواز الإضرار بالنفس؛ لأنّ جواز الإضرار بالنفس ليس تحميلاً للضرر على المكلّف نفسه الذي ألحق الضرر، هذا المكلف بالرغم من وجود جواز الإضرار بالنفس ـــــــ فرضاً ــــــــ هو لا يقف عاجزاً أمام هذا الحكم الشرعي؛ لأنّ هذا الحكم الشرعي لا يلزمه بأن يضر بنفسه، وإنّما هو يجوّز له الفعل ويجوّز له الترك. إذن: هو لا يقف عاجزاً أمامه، بمعنى أنه بإمكانه أن لا يحمّل نفسه هذا الضرر؛ وذلك بأن لا يلحق بنفسه الضرر؛ لأنه له أن يضر بنفسه وله أن لا يضر بنفسه، والشارع لم يلزمه بأن يضر بنفسه، جوّز له ذلك، فله أن يفعل وله أن يترك، فجواز الإضرار بالنفس ليس حكماً ضررياً؛ لأنّه ليس فيه تحميل للضرر على المكلّف نفسه؛ لأنّه بالرغم من التزامه الشرعي، وبالرغم من تديّنه بإمكانه أن لا يضر بنفسه، فعندما يضر بنفسه، الضرر لا يستند إلى الحكم الشرعي، وإنّما يستند إلى نفس الإنسان؛ ولذا لا يكون جواز الإضرار بالنفس حكماً ضررياً حتى يُنفى بالقاعدة.
بعبارةٍ أخرى: أنّ من يلحق به الضرر يختلف في الموردين، في مسألة جواز الإضرار بالغير من يلحق به الضرر هو عاجز أمام هذا الضرر ليس بإمكانه دفع هذا الضرر من ناحية شرعية، فإذا أضرّ به شخص واستند في هذا إلى أنّ الشارع جوّز له الإضرار بالغير، الطرف الآخر يتحمل هذا الضرر رغماً عنه، هو مجبر من ناحية شرعية على تحمّل هذا الضرر، فيستند الضرر إلى الحكم الشرعي، بينما من يلحقه الضرر في جواز الإضرار بالنفس هو نفس المكلف، هو يضر بنفسه، والشارع حينما يجيز له الإضرار بنفسه هو لا يحمّله الضرر، وإنما ترك له حرية الاختيار. نعم، لو ألزمه الإضرار بنفسه؛ حينئذٍ يكون هذا حكماً ضررياً، لكن هو ترك له حرية الاختيار، بإمكانه أن ينزل الضرر بنفسه، وبإمكانه أن لا ينزل الضرر بنفسه، فعندما يضر بنفسه متعمداً، فهذا الضرر لا يستند إلى الحكم الشرعي؛ وإنّما يستند إلى اختياره هو؛ ولذا لا يكون هذا الحكم الشرعي ضررياً، وبالتالي هذه القاعدة تشمل جواز الإضرار بالغير وتنفي الجواز؛ لأنه ضرري، لكنها لا تشمل جواز الإضرار بالنفس ولا تنفيه حتى تثبت حرمة الإضرار بالنفس .