الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
38/04/02
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
بالنسبة إلى المقام الأول وهو الكلام عن هذه المسألة بقطع النظر عن قاعدة لا ضرر، وقلنا أنّ الكلام يتركّز عن قاعدة السلطنة الذي يمكن أن يقال في هذا المقام هو أنّه: تارةً نتكلّم عن ثبوت أصل سلطنة المالك على أمواله. وأخرى يقع الكلام في ما هي حدود هذه السلطنة ؟ هل تثبت مطلقاً حتى إذا لزم من إعمالها الإضرار بالآخرين، أو لا تثبت على هذا الإطلاق وبهذا الشكل .
بالنسبة إلى المقام الأول: الظاهر أنه لا ينبغي الإشكال في ثبوت أصل السلطنة، أنّ المالك مسلّط على أمواله، وذلك باعتبار وجود المقتضي لذلك، والمقتضي الذي يقتضي ثبوت هذه السلطنة هو الملكية، اعتبار أنّ مالك لشيءٍ ما، أو اعتبار أنّ شيئاً ما مملوكاً لشخصٍ، هذا هو بنفسه يقتضي أن يكون الإنسان مسلّطاً على ذلك المال، فله التصرّف فيه. نعم، لا ندّعي أنّ هذا المقتضي يقتضي ثبوت السلطنة على إطلاقها، وإن استلزمت الإضرار بالغير، لكن ندّعي ذلك في الجملة، بمعنى أنه يقتضي ثبوت السلطنة على هذا المال الذي اعتُبر ملكاً له، فيجوز له التصرّف فيه، هذا من لوازم الملكية، بحسب المرتكزات العقلائية أنّ من لوازم الملكية أن يكون الإنسان مسلّطاً على المال الذي يملكه . ومن هنا لسنا بحاجةٍ إلى إثبات ذلك إلى التمسّك بمسألة الأدلة أو الإجماع، أو الارتكاز، أو السيرة العقلائية، هناك مقتضي يقتضي تسلّط الإنسان على أمواله، والمقتضي هو الملكية، وهذه الملكية تقتضي ثبوت هذه السلطنة في الجملة . إذا فرضنا ذلك؛ حينئذٍ نتكلم في المقام الثاني.
المقام الثاني: في حدود هذه السلطنة، وأنّها هل تثبت مطلقاً ؟ والمقصود بالإطلاق هو أنّها تثبت حتى إذا لزِم من إعمال السلطنة الإضرار بالآخرين، أو أنّها لا تثبت بهذه الحدود الوسيعة ؟
الظاهر أنّها لا تثبت بهذه الحدود الوسيعة، حدود السلطنة تتحدد بما إذا لم يلزم من إعمالها الإضرار بالآخرين، الإنسان مسلط على أمواله ما لم يكن ذلك مضراً بالآخرين؛ لأنّ الدليل على هذه السلطنة بعد الفراغ عن عدم وجود دليلٍ لفظي معتبر له إطلاق، إن كان ما تقدّم من السيرة وأمثالها كالإجماع ــــــ مثلاً ـــــــ فالصحيح أنّ هذه أدلة لبّيّة ينبغي الاقتصار فيها على القدر المتيقّن منها؛ إذ لا إطلاق فيها حتى يُتمسّك بإطلاقها لإثبات السلطنة حتى في مورد الشك الذي هو ما إذا لزِم من إعمالها الإضرار بالآخرين، فيُقتصَر على القدر المتيقّن، والمتيقّن منها هو ما إذا لم يلزم من إعمالها الإضرار بالآخرين، هنا لا إشكال في ثبوت السلطنة على المال، وأمّا إذا لزِم من إعمالها الإضرار بالآخرين، هنا لا يوجد دليل على ثبوت هذه السلطنة وعلى كون المالك مسلّطاً على ماله ويجوز له التصرّف حتى إذا كان مضرّاً بالآخرين، فهي محدودة بهذه الحدود بناءً على أنّ الدليل هو هذه الأدلة التي هي من الأدلة اللّبّية.
أمّا إذا قلنا أنّ الدليل هو الملكية، نستدل لإثبات السلطنة بمسألة الملكية، باعتبار أنّ الملكية كما قلنا تقتضي ثبوت السلطنة؛ حينئذٍ إذا قلنا بأنّ الملكية لا تقتضي إلا ثبوت السلطنة في الجملة لا على نحو الإطلاق، فالنتيجة هي النتيجة، أنه حتى لو كان الدليل هو الملكية، فلابدّ من الاقتصار على القدر المتيقن الذي هو غير صورة ما إذا لزِم من إعمال السلطنة الإضرار بالآخرين؛ لأنّ الملكية ــــــــ بحسب الفرض ــــــــ لا تدل إلاّ على السلطنة في الجملة لا السلطنة على الإطلاق . إذا ادُعي بأنّ الملكية تدل على السلطنة مطلقاً، وأنّ السلطنة وجواز التصرّف هي من لوازم الملكية حتى إذا لزِم من ذلك الإضرار بالآخرين .... لو ادُعي ذلك، وهذه الدعوى غير واضحة، فالجواب هو أننا نبقى على الرأي السابق وهو أنّ السلطنة لا تثبت مطلقاً، وإنما تتحدد بحدود عدم الإضرار بالآخرين، وذلك في هذا الفرض باعتبار أنّ هناك نصوصاً وأدلّة تدل على تحديد هذه السلطنة بما إذا لم يكن إعمال السلطنة مضرّاً بالآخرين، يعني حتى لو فرضنا أنّ المقتضي لإثبات السلطنة على الإطلاق موجود، وهو الملكية حتى إذا لزم من إعمال السلطنة الإضرار بالآخرين، فالمقتضي لجواز التصرّف وللسلطنة موجود، لكنّنا ندّعي وجود المانع، أنّ هناك ما يمنع من إعمال هذه السلطنة، والمانع هو النصوص الواردة في مسألة تحديد المسافة بين الآبار والعيون وأمثال هذه الأمور، حيث هناك نصوص واردة في تحديد مسافةٍ معيّنة، وأنّه في الأرض الصلبة ينبغي أن تكون المسافة بين بئرٍ وبئر خمسمائة ذراع، وفي الأرض الرخوة تتضاعف المسافة، فلابدّ أن تكون ألف ذراع، وأنّ الإنسان إذا أراد أن يحفر بئراً، فلابدّ أن يكون الفاصل بين ما يريد حفره من بئر وبين بئر آخر موجود في أرض الغير لابدّ أن يكون خمسمائة ذراع في الأرض الصلبة وألف ذراع في الأرض الرخوة، وأنّ أقل من هذه المسافة لا يجوز له حفر البئر، ويُمنع من ذلك، ويُفهم من هذا أنّ سلطنة المالك على أمواله وعلى ملكه ليست على إطلاقها بحيث يجوز له أن يحفر البئر حتى إذا أضرّ بالآخرين، وإنّما هذه السلطنة محدودة، ولا يجوز له أن يتجاوز حدودها، فيجب عليه أن يُراعي هذه الحدود وإلاّ، فيُمنع من هذا التصرّف . الذي يُفهم من ذلك أنّ منع المالك من أن يحفر بئراً إذا لم يكن الفاصل بالمقدار الذي اعتُبر شرعاً، إنّما هو لأجل عدم الإضرار بالجار، هذا ما يُفهم عرفاً من هذه النصوص، فيُفهم ذلك أنّ السلطنة حتى لو كانت مطلقة، وحتى لو كان المقتضي للسلطنة المطلقة موجود وهو الملكية، مع ذلك هناك ما يمنع من الالتزام بإطلاق هذه السلطنة وهي النصوص التي أشرنا إليها.
ومن هنا يظهر أنه بالنسبة إلى المقام الأول حكمه هو على كل حال ليس هناك دليل على السلطنة على إطلاقها بحيث أنّ الإنسان مسلّط على ماله وإن استلزم ذلك الإضرار بالغير . هذا كلّه في الصورة الأوّل التي نتكلّم فيها مع غض النظر عن قاعدة لا ضرر؛ لأنّه إذا أدخلنا قاعدة لا ضرر؛ حينئذٍ سوف يتغيّر الحساب، باعتبار أنّه قد يقال: أنّ منع المالك من أن يحفر بئراً في داره هو ضرر عليه، حرمة التصرّف بالنسبة إلى المالك في ما إذا استلزم الإضرار بالغير هي حرمة ضررية، فترتفع عنه ، فيجوز له أن يحفر بئراً وإن استلزم الإضرار بالآخرين، فسوف تتغير النتيجة ــــــــ كما سيأتي ــــــــ نحن نتكلّم بقطع النظر عن قاعدة لا ضرر .
الصورة الثانية: الكلام عن حكم المسألة مع لحاظ قاعدة لا ضرر . الكلام في هذه الصورة يقع في أنه هل يمكن نفي سلطنة المالك على التصرّف في ملكه بقاعدة لا ضرر ، أو لا ؟ هذه السلطنة الثابتة للمالك في التصرّف في ملكه هي ضررية بالنسبة إلى الجار، فالكلام في أنّ قاعدة لا ضرر هل بإمكانها رفع هذه السلطنة، ورفع جواز التصرّف ويكون المالك ممنوعاً من هذا التصرّف؛ لأنّه ضرري بالنسبة إلى الجار، فيرتفع بقاعدة لا ضرر ؟ الكلام يقع في إمكان التمسّك بقاعدة لا ضرر لنفي السلطنة الثابتة للمالك على تصرّفه في ماله، أو أنّ قاعدة لا ضرر عاجزة عن نفي هذه السلطنة ؟ الكلام إذا كان يُطرح بهذا الشكل، فمن الواضح أنّ هذا يستلزم افتراض تمامية قاعدة السلطنة، وأنّها تقتضي ثبوت السلطنة مطلقاً وجواز التصرّف حتى إذا استلزم الإضرار بالغير، فإذا فرضنا ذلك؛ فحينئذٍ تثبت السلطنة للمالك على التصرّف في داره وإن استلزم الإضرار بالغير، فيقع الكلام حينئذٍ في أنّ قاعدة لا ضرر هل بإمكانها أن تنفي هذه السلطنة باعتبار أنها ضررية بالنسبة إلى الجار، أو ليس لها هذه القابلية ؟
إذن: لابدّ من افتراض في مرحلةٍ سابقةٍ تمامية قاعدة السلطنة، وأنّها تثبت السلطنة على الإطلاق، وتثبت جواز التصرّف حتى إذا استلزم الإضرار بالغير، فإذا ثبتت هذه السلطنة يقع الكلام في أنّ قاعدة لا ضرر هل بإمكانها أن تنفي هذه السلطنة أو ليس لها هذه القابلية ؟ وأمّا إذا فرضنا عدم تمامية القاعدة أساساً، أو فرضنا تمامية القاعدة كما هو الصحيح، ولكن ليس فيها ذاك الإطلاق الذي يثبت السلطنة على التصرّف حتى إذا استلزم الإضرار بالغير؛ حينئذٍ لا معنى لهذا البحث في أنّ قاعدة لا ضرر هل بإمكانها أن تنفي السلطنة، باعتبارها ضررية، أو ليس بإمكانها ذلك ؟ لا معنى حينئذٍ لهذا البحث؛ لأنّ أصل السلطنة في فرض ما إذا كان ذلك مستلزماً للإضرار بالغير هي غير ثابتة، فلا معنى للكلام عن أنّ قاعدة لا ضرر هل تنفي هذه السلطنة، أو لا . نعم، في حالة واحدة إذا فرضنا أنّ منع المالك من هذا التصرّف في ماله الذي فرضنا أنّ فيه ضرر على الجار، هو ضرر عليه، في هذه الحالة يدخل في باب تزاحم الضررين كما سيأتي الحديث عنه، لكن إذا فرضنا أنّ منع المالك من التصرّف في داره ليس فيه ضرر عليه، فيقع الكلام في أنه مسلّط على هذا التصرّف أو لا؟ إن لم يكن مسلّطاً، فلا يقع الحديث في أنّ قاعدة لا ضرر تنفي السلطنة أو لا، وإن كان مسلّطاً على هذا التصرّف؛ فحينئذٍ يقع الكلام أنّ قاعدة لا ضرر بالنسبة إلى الجار هل تنفي السلطنة، أو لا؟ لأنّ سلطنة المالك على هذا التصرّف هي ضررية بالنسبة إلى الجار، فهل تجري القاعدة لنفي السلطنة، أو لا ؟
على كل حال، نفترض في هذا البحث تمامية قاعدة السلطنة، وأنّها تقتضي ثبوت جواز جميع التصرّفات حتى التصرّفات الموجبة للإضرار بالغير، فيتركّز الكلام على هذه النقطة، أنّ قاعدة لا ضرر هل يمكن أن تنفي هذه السلطنة، أو لا ؟ هذا هو محل الكلام .
هناك مطلب يتعلّق بالدرس السابق، حيث ذكرنا في الدرس السابق مطلباً عن المحقق العراقي(قدّس سرّه) قلنا بأنه منع من جريان قاعدة السلطنة في محل الكلام باعتبار أنه افترض التعارض الداخلي في نفس قاعدة السلطنة، باعتبار أنّ سلطنة المالك على ملكه وعلى التصرّف فيه الموجب للإضرار بالجار معارض بسلطنة الجار على المحافظة على ملكه، فإذا كان له السلطنة على أن يحفر بئراً في داره، ولكنه يضر ببئر الجار وجداره، فللجار السلطنة على أن يحافظ على بئره وجداره وذلك بمنعه من أن يحفر بئراً، فهذه السلطنة معارضة بهذه السلطنة، وهما أمران متنافيان؛ لأنّ كل سلطنة ثابته لهذا هي تنفي سلطنة الآخر، سلطنة المالك على حفر البئر تنفي سلطنة الجار على المحافظة على بئره، أو جداره، كما أنّ سلطنة الجار على المحافظة على بئره أو جداره تنفي سلطنة المالك على حفر البئر، فيقع التعارض بين السلطنتين ولا مرجّح؛ فحينئذٍ لا تثبت سلطنة لأيٍ منهما، وبالتالي لا يمكن إثبات السلطنة للمالك في أن يحفر بئراً مؤدياً إلى الإضرار بالغير .
ذكرنا أنّه لوحظ على هذا المطلب: أننا نمنع هذا التعارض بين السلطنتين، أنه لا تعارض بين السلطنتين بهذا الشكل الذي ذُكر، وذلك باعتبار أنّ السلطنة في جانب الجار هي سلطنة على المحافظة على بئره، وليست سلطنة على التصرّف في بئره كما هو الحال في المثال الذي نتكلّم عنه والذي يريد حفر البئر، هنا سلطنته على التصرّف، حفر البئر، وهذا تصرّف تكويني في ملكه، بينما السلطنة في جانب الجار هي السلطنة على حفظ ما يملك وليس التصرّف في ما يملك، الكلام كان في هذا الإشكال، في أنّ السلطنة هل تشمل مسألة الحفظ والمحافظة على الشيء، أو هي تختص بالسلطنة على التصرّفات في المال، أن يتصرّف في ماله بأي نحوٍ من التصرّف بحيث يصدق عليه أنه تصرّف، الذي يناسب القوة والقهر والغلبة وأمثال هذه الأمور أن يتصرّف في ملكه، يحفر بئراً يتصرّف في ملكه، يبيع داره يتصرّف في ملكه، يؤجر داره تصرّف في الملك، أو يهدم داره تصرّف، في الملك .....وهكذا، قاعدة السلطنة تثبت سلطنة الإنسان على هذه التصرّفات وأمثالها، سواء كانت تصرفات تكوينية من قبيل الحفر وأمثالها، أو كانت تصرّفات اعتبارية من قبيل البيع والشراء وأمثاله، لكن هل تشمل الحفاظ على المال؛ لأنّ القاعدة تنظر إلى مسألة الحفاظ على المال، الناس مسلّطون على أموالهم سواء كان هذا تصرّفاً في المال ببيعه أو حفر بئرٍ فيه .....الخ، أو الحفاظ عليه، إذا قلنا أنها تشمل جانب الحفاظ والمحافظة على المال؛ فحينئذٍ كلام المحقق العراقي(قدّس سرّه)