الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

38/03/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

 

كان الكلام في من يتحمّل الخسارة ؟ ذكرنا في الدرس السابق أنه نُسب إلى المشهور بأنّ الذي يتحمل الخسارة هو من يرجع إليه ماله سالماً، وبيّنّا ما هو الوجه في ذلك، وبيّنّا أيضاً بأنه ليس قابلاً للقبول .

هناك رأي آخر في هذه المسألة موجود في تقريرات السيد الخوئي(قدّس سرّه) [1] يرى بأنّ الخسارة التي تحصل بإيقاع الضرر بأحد المالين يتحملها كل منهما بالتساوي لا فرق بين مالك القِدر وبين مالك الدابة في أنّ كلاً منهما يتحمّل الخسارة بالتنصيف من دون فرقٍ بين أن يكون هناك تساوٍ في المالين وفي الضررين، وبين أن يكون هناك اختلاف في المالين في مقدار الضرر الذي يلحق كلاً من المالين بسبب العامل الطبيعي الذي هو محل كلامنا . ظاهر كلامه هو الإطلاق حيث لا يُفرقّ بين الحالتين . في (الدراسات) يقول بالحكم بالتساوي وأنّ الخسارة يتحمّلها كلٌ منهما بالتساوي ولا يُفرّق بين الحالات، ومقتضى إطلاق كلامه هو أنّ هذا يحكم به مطلقاً وفي جميع الحالات، ويقول بأنّ هذا الحكم بالتساوي يستند إلى قاعدة العدل والإنصاف، وقال بأنّ هذه القاعدة ثابتة عقلائياً ويؤيدها رواية النوفلي الواردة في الودعي . ذكر أنه لا يستقيم ما ذُكر فيها من حكم إلا بناءً على قاعدة العدل والإنصاف، وأنّها تقتضي التنصيف؛ وذلك لأنّ الإمام(عليه السلام) في هذه الرواية حكم بتنصيف الخسارة بينهما مع أنّهما لا يتساويان، على الأقل لا يتساويان في درجة احتمال أن يكون المال التالف من هذا أو من ذاك، احتمال أن يكون الدرهم التالف من صاحب الدرهمين هو ضِعف احتمال أن يكون الدرهم التالف من صاحب الدرهم؛ فحينئذٍ لا يوجد تساوٍ، وبالرغم من هذا حكم الإمام(عليه السلام) بالتنصيف، وأنّ الخسارة يتحمّلها كلٌ منهما بالتنصيف، فأرجع درهم ونصف لصاحب الدرهمين، وأرجع نصف درهم لصاحب الدرهم، فلا يستقيم الحكم في القاعدة إلا بناءً على قاعدة العدل والإنصاف التي تقتضي كما يقول التنصيف في الخسارة.

الحكم بالتنصيف في محل كلامنا تارةً يستند إلى قاعدة العدل والإنصاف، بقطع النظر عن الرواية هو يستند إلى هذه القاعدة، وأنّ هناك قاعدة مقررة عقلائياً تُسمّى بــــ (قاعدة العدل والإنصاف) وأنّها تقتضي التنصيف وتحّمل كلٌ من الطرفين الخسارة بالتساوي .

إذا كان المستند للحكم في محل الكلام هو هذه القاعدة؛ فحينئذٍ يقال أنّ هذه القاعدة إنما تقتضي تحمّل الخسارة من قِبل الطرفين بالتساوي فيما إذا فرضنا عدم وجود اختلاف، لا في مقدار مالية المالين، ولا في مقدار الخسارة التي يتحمّلها كلٌ منهما عندما يطرأ ذلك العامل الطبيعي ويُحدث هذا الضرر والنقص في المالين، بمعنى أنّ كلا المالين متساويان في المالية، نفترض أنّ قيمة البقرة عشرة، ونفترض أنّ قيمة القِدر أيضاً عشرة. النقص الذي يِرد على البقرة مقداره بنفس مقدار النقص الذي يرِد على القِدر، في هذه الحالة يمكن أن يقال أنّ قاعدة العدل والإنصاف تقتضي أن يتحمّل الخسارة كلا الطرفين بالتساوي؛ لعدم وجود التفاوت بينهما إطلاقاً، لا في مقدار مالية المالين، ولا في مقدار الضرر الذي يتحمّله كلٌ منهما باعتبار فعل العامل الطبيعي . وأمّا إذا فرضنا الاختلاف وعدم التساوي بينهما كما هو في مورد الرواية وكما هو في محل كلامنا؛ فحينئذٍ القاعدة لا تقتضي التنصيف، وإنّما تقتصي ــــــــ في مثال الرواية ــــــــ توزيع هذه الخسارة الحاصلة بهذه النسبة الموجودة بلحاظ درجة الاحتمال، بمعنى أنّ نسبة احتمال أن يكون الدرهم التالف من صاحب الدرهمين هي ضِعف احتمال أن يكون التالف من صاحب الدرهم، فيكون تحمّل الخسارة أيضاً بهذا الشكل، بمعنى أنّ ثلثي الخسارة تكون على صاحب الدرهمين، ويكون الثلث الثالث على صاحب الدرهم الواحد، باعتبار أنّ احتمال أن تكون الخسارة من صاحب الدرهمين نسبته ضِعف احتمال أن تكون الخسارة من صاحب الدرهم الواحد، العدل والانصاف يقتضي أن يتحمّل ثلث هذه الخسارة صاحب الدرهم الواحد، والباقي يتحمّله صاحب الدرهمين بهذه النسبة، أي بنسبة واحد إلى أثنين، لا أن تنصّف الخسارة بينهما بحيث نعطي لصاحب الدرهم نصف درهم، ونعطي لصاحب الدرهمين درهم ونصف كما تقول الرواية؛ بل أنّ مقتضى العدل والإنصاف أن نعطي لصاحب الدرهمين درهماً وثلث، ونعطي لصاحب الدرهم الواحد ثلثي درهم، لا أن نوزّع الخسارة بينهما بالتساوي . هذا في مورد الرواية.

أمّا في محل الكلام، إذا افترضنا التساوي في المالين ـــــــ الدابة والقِدر ـــــــ من جميع الجهات، هنا يمكن أن يقال أنّ قاعدة العدل والإنصاف تقتضي أن يتحمّل كلٌ منهما الخسارة بالتنصيف، لكن إذا فُرض الاختلاف في مقدار المالين وقيمتهما كما هو كذلك في هذا المثال عادة، مالية الدابة تختلف عن قيمة القِدر وماليته، كما أنّ هناك اختلاف في مقدار الضرر الذي يلحق كلاً منهما نتيجة هذا العامل الطبيعي، في هذه الحالة مع الاختلاف لا يُحكم بالتساوي استناداً إلى قاعدة العدل والانصاف؛ بل لابدّ أن تُلاحظ النسبة بين الضررين كما هو في محل الكلام، مثلاً: في محل كلامنا الضرر الذي يلحق بصاحب الدابة إذا فرضنا أنّ التفاوت بين الدابة وهي حيّة وبين الدابة المذبوحة كان مائة، ولاحظنا أنّ التفاوت بين القدر السالم وبين القدر المكسور هو ــــــ مثلاً ــــــ خمسين، هذا معناه أنّ نسبة الخسارة الواردة على الدابة فيما لو اتلفناها هي ضِعف الخسارة الواردة على القدر فيما لو اتلفناه في هذا المثال، فهما يختلفان في مقدار الخسارة؛ حينئذٍ هذا الشيء الذي حصل بفعل العامل الطبيعي والذي يجبرنا على أن نتلف أحد المالين ونوقع الضرر بأحدهما لأنهاء حالة التخاصم، قلنا في حالة الاختلاف نختار ما هو أقلهما ضرراً، يعني هنا لابدّ من إتلاف القِدر؛ لأنّ الخسارة التي تحصل بإتلافه هي أقل من الخسارة التي تحصل بإتلاف الدابة في المثال الذي ذكرناه، وقلنا أنّ الوجه في هذا هو أنّ الخسارة يتحمّلها كلٌ منهما، فمهما أمكن تقليل هذه الخسارة التي يتحمّلها كلٌ منهما، فلابدّ منه، ولا معنى لإلحاق الضرر الأكثر والأكبر بكلٍ منهما، هذا إضرار بالغير بلا وجهٍ مع إمكان تقليل الخسارة، فإذن: لابدّ من اختيار إتلاف القدر الذي هو أقل ضرراً، فإذا أتلفنا القدر الذي هو أقل ضرراً، في هذه الحالة الخسارة التي تحصل بإتلاف القِدر والتي افترضنا في المثال أنّ مقدارها خمسين، في هذه الحالة يتحمّلها كلٌ منهما بنسبة الضررين، بمعنى أنّ ثلثي الخسارة يتحمّلها مالك الدابة، والثالث الباقي يتحمّله مالك القِدر، لا أنّه ينصف بينهما، التنصيف بينهما لا تقتضيه قاعدة العدل والانصاف في صورة الاختلاف، مالك الدابة يتضرر لو ذبحنا دابته بمقدار مائة، ومالك القِدر يتضرر لو كسرنا قِدره بمقدار خمسين ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ الآن لم نذبح الدابة، وإنّما كسرنا القِدر؛ حينئذٍ لابدّ أن يتحمّل مالك الدابة الضرر بنسبة ضرره إلى ضرر مالك القدر الذي يتضرر عندما نكسر قدره، والنسبة هي واحد إلى اثنين ، وهذا معناه أنّ ثلثي الخسارة لابدّ أن يتحمّلها مالك الدابة، والثلث الباقي يتحمّله مالك القدر لا أن يُحكم بالتنصيف بينهما. ومن هنا نقول أنّ إطلاق الحكم بالتنصيف من دون تفريقٍ بين حالة التساوي وبين حالة الاختلاف ليس على وجهه، يعني هكذا موجود كما قلنا في(الدراسات) إطلاق الحكم بالتنصيف . هذا كلّه إذا كان التنصيف الذي ذكره(قدّس سرّه) مستنداً إلى قاعدة العدل والإنصاف .

وأمّا إذا كان التنصيف مستنداً إلى الرواية، بدعوى أنّ الرواية حكمت بالتنصيف في مورد الاختلاف، مورد الرواية لا يوجد تساوي من جميع الجهات كما ذكرناه من أنّهما يختلفان في درجة الاحتمال، ومع الاختلاف في درجة الاحتمال، احتمال أن يكون التالف من صاحب الدرهمين هو ضعف احتمال أن يكون التالف من صاحب الدرهم الواحد، مع هذا الاختلاف في درجة الاحتمال الرواية حكمت بالتنصيف، أنّ الخسارة يتحمّلها كلٌ منهما، بمعنى أنّ التنصيف لا يختص بصورة التساوي من جميع الجهات، وإنّما يشمل حتى صورة الاختلاف، ومورد الرواية هو صورة الاختلاف، ومع ذلك الرواية حكمت بالتنصيف، فيُستدل بالرواية على التنصيف في محل الكلام مطلقاً، يعني سواء كان هناك تساوي من جميع الجهات، أو كان هناك اختلاف في جهة من الجهات. إن كان المستند هو الرواية، فقد نوقش في هذا المستند بأنّ هذه الرواية غير تامّة سنداً، باعتبار وجود النوفلي في سندها، وهو لم تثبت وثاقته. لكن الظاهر ثبوت وثاقة النوفلي، ونحن نبني على وثاقته، وليس هناك خدشة أخرى في السند من غير جهة النوفلي، ومن هنا لا إشكال في السند، وإنّما الكلام يقع في أنّه هل يمكن أن نستند إلى هذه الرواية لإثبات الحكم بالتنصيف في جميع موارد الاختلاف، في غير مورد الرواية ؟ هذا هو محل الكلام؛ لأنّه قد يقال: بأنّ الرواية لمّا كان الحكم فيها مخالفاً لمقتضى القاعدة، فلابدّ من الاقتصار فيها على موردها، وعدم التعدّي عن موردها، الحكم فيها هو تحمّل كلٌ من الطرفين الخسارة بالتنصيف مع الاختلاف، هذا الحكم على خلاف مقتضى قاعدة العدل والانصاف، بناءً على أنّ قاعدة العدل والانصاف في مثل هذه الحالة لا تقتضي التنصيف، وإنّما تقتضي توزيع الخسارة بنسبة الضررين كما ذكرنا، ولا تقتضي التنصيف.

فإذن: القاعدة لا تقتضي التنصيف، فالحكم بالتنصيف في الرواية يكون على خلاف مقتضى القاعدة، والقانون في مثل هذه الحالة، رواية تامّة وصحيحة سنداً، فيُقتصر في حكمها على موردها، نلتزم بهذا تعبّداً من باب التعبّد الصِرف، تعبّدنا الشارع في هذا المورد، في مسألة الودعي، حكم بالتنصيف ولا نخرج عن مورد الرواية ونثبت الحكم بالتنصيف في سائر موارد الاختلاف باعتباره حكماً مخالفاً لمقتضى القاعدة.

فإذن: الأمر يدور بين شيئين، إمّا أن نرفض سند الرواية كما صنعوا، ونقول لا يمكن الاستناد إلى الرواية لإثبات التنصيف؛ لأنّها غير تامّة سنداً، وإمّا أن نقول لا يمكن التعدّي عن موردها ويُقتصر فيها على موردها، ونعمل في بقية موارد الاختلاف بما تقتضيه قاعدة العدل والانصاف من توزيع الخسارة بحسب النسبة.

ويدل على ذلك: أنّه في بعض الحالات إذا حكمنا بالتنصيف قد يتحمّل صاحب المال الآخر أضعاف قيمة ماله، يعني صاحب القِدر في بعض الفروض عندما تكون قيمة القِدر زهيدة، ونقول أنّ هذه الخسارة يتحمّلها كلا الطرفين بالتنصيف، قد في بعض الحالات يكون التنصيف يلحق ضرراً بصاحب القِدر، بحيث يتضرر وتكون الخسارة الواردة عليه أكثر من قيمة قدره، نستطيع أن نتصوّرها في صورة ما إذا حكمنا بالتنصيف، تارة نفترض التساوي في المالين؛ حينئذٍ قلنا نتخيّر، فإذا ذبحنا البقرة، الخسارة التي ترِد من ذبح البقرة توزّع بينهما، لنفترض أنّ الخسارة الواردة عند ذبح البقرة كانت مائة كما في المثال، فتوزع بينهما؛ فحينئذٍ لا يرِد ما ذكرناه؛ لأنه سوف يخسر صاحب القدر خمسين، وخمسين لا يساوي قيمة قدره ــــــــ بحسب الفرض ــــــــ أمّا إذا فرضنا أنهما اختلفا ولم يتساويا في المالية، بأن كانت قيمة الدابة مائة، وقيمة القِدر خمسين، وكسرنا القدر كما هو المفروض؛ لأنّه أقل ضرراً وكان مقدار الخسارة خمسين؛ حينئذٍ إذا قسّمناها بالنصف، يعني خمسة وعشرين على كل واحدٍ منهما، هنا أيضاً لا يرِد ما ذكرنا؛ لأنّ صاحب القِدر سوف يغرم نصف قيمة ماله، بينما صاحب الدابة لا يخسر إلا ربع قيمة ماله، هنا أيضاً لا يرِد هذا الاعتراض، والظاهر أنّ هذا الاعتراض لا يرِد في صورةٍ من الصور، في كل الأحوال لا يكون ما يغرمه صاحب القِدر أكثر وأضعاف قيمة قدره. نعم، قد يرِد في صورة الاختلاف في قيمة المالين وذبحنا الدابة قد يرِد هذا الاعتراض . هذا تمام الكلام في المسألة الثانية .

المسألة الثالثة: وهي المسألة المهمة التي وقع فيها الكلام، وهي تعارض الضررين بلحاظ حكمٍ شرعي، والذي قلنا أنهم يعبّرون عنه بـــ(تعارض قاعدة لا ضرر وقاعدة السلطنة) ويُمثّل لذلك بالإنسان الذي يريد أن يحفر بئراً في داره، وكان ذلك موجباً للإضرار بجاره، فإنّ مقتضى قاعدة السلطنة أن نجوّز له أن يحفر هذا البئر في داره؛ لأنّه مسلط على أمواله، بناءً على تمامية هذه القاعدة وإطلاقها وسعتها، بينما مقتضى قاعدة لا ضرر أن نمنعه من أن يحفر بئراً في داره؛ لأنّه يكون مضرّاً بجاره، ماذا نصنع في هذه الحالة .

 


[1] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد الشاهرودي، ج3، ص531.