الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
38/03/19
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
كان الكلام في شمول الحديث الشريف لعدم الحكم. هل يشمل الحديث عدم الحكم لنفيه وإثبات الحكم كما يشمل وجود الحكم عندما يكون ضررياً لنفيه، أو لا ؟
قلنا أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) ذهب إلى عدم الشمول واختصاص الحديث بالأحكام الوجودية إذا كان يلزم منها الضرر، والحديث يكون رافعاً ونافياً لذلك الحكم فقط. ويُفهم من كلماته الاستدلال على ذلك بأمور ذكرنا الأمر الأول، وانتهى الكلام إلى الأمر الثاني، وخلاصته: أنّ الضمان في مثال من حبس شخصاً كسوباً ومنعه من العمل، هنا يقول: أنّ الضمان الذي يثبت بناءً على شمول القاعدة لعدم الحكم، سوف يثبت الضمان؛ لأنّ عدم الضمان ضرري، فينتفي عدم الضمان، فيثبت الضمان. يقول: الضمان ليس نفياً للضر، وإنّما هو تدارك له، والقاعدة لا تتكفّل وجوب التدارك، وإنما مفادها نفي الضرر، والحكم بالضمان في هذا المثال ليس نفياً للضرر، وإنّما هو تدارك له . نعم، لو فسّرنا القاعدة بما ذهب إليه الفاضل التوني أمكن الاستدلال بها على الضمان؛ لأنّه بناءً على هذا المسلك يكون مفاد القاعدة هو نفي الضرر غير المتدارك الذي لازمه إثبات وجوب التدارك بحيث تتكفّل القاعدة وجوب التدارك؛ وحينئذٍ يمكن إثبات الضمان استناداً إلى القاعدة . أمّا إذا لم نؤمن بهذا المسلك ــــــــ كما تقدم ـــــــ حيث جعله من أردأ الوجوه؛ حينئذٍ لا يمكن إثبات الضمان استناداً إلى هذا الحديث؛ لأنّ الضمان ليس نفياً للضرر، وإنّما هو تدارك للضرر. هذا هو الوجه الثاني
أجيب عن هذا الوجه: بأنّ الضرر ــــــــ على ما تقدّم سابقاً ــــــــ لا موجب لتخصيصه بخصوص النقص في المال، أو في البدن؛ بل هو كما يشملهما هو يشمل أيضاً سلب الحقوق المتبانى عليها عقلائياً من الشخص، الحقوق العقلائية التي يبني العقلاء على ثبوت هذا الحق للشخص، وسلب هذا الحق من الشخص يكون ضرراً، وإن كان ليس نقصاً في المال ولا في البدن، وقد تقدّم سابقاً أنه قد يقال: أنّ حق الشفعة هو من هذا القبيل، هو حقٌ ثابتٌ عقلائياً للشريك، فعدم إعطاء هذا الحق للشريك يكون إضراراً به؛ لأنّه سلب حقٍ من حقوقه، فيكون إضراراً به .
بناءً على هذا التعميم وعدم اختصاص الضرر بخصوص النقص المالي، أو البدني؛ حينئذٍ يقال كما أنه يعتبر نقص المال، أو النقص في البدن ضرراً، ويكون منفياً في عالم التشريع بحديث لا ضرر، كذلك عدم إعطاء هذا الحق أيضاً يعتبر ضرراً ويكون منفياً في مقام التشريع بحديث لا ضرر، يكون عدم الحق ضرراً منفياً بالحديث، ويُدّعى في المقام أنّ الضمان من هذا القبيل في هذه الأمثلة، أنّ الضمان حق ثابت عقلائياً للشخص في هذه المسألة، بمعنى أنّ العقلاء يرون أنّ الحابس في هذا المثال يكون ضامناً للعمل الذي فوّته على المحبوس؛ لأنّه حق من حقوق المحبوس؛ وحينئذٍ عدم الحكم بالضمان للمحبوس يكون إضراراً به، فإذا كان عدم الحكم بالضمان إضراراً بالمحبوس؛ حينئذٍ يكون هذا منفياً بحديث لا ضرر، كما ننفي النقص الحاصل في المال والبدن كذلك يمكن نفي هذا الضرر اللاحق بالمحبوس بإعطائه الضمان؛ لأنّ القاعدة تجري لنفي الضرر، والضرر في محل الكلام هو عدم الحكم بالضمان للمحبوس، تجري القاعدة لنفيه باعتباره أمر ضرري، فإذا نفته؛ فحينئذٍ يثبت الضمان.
وبعبارة أخرى: أنّ الحكم بالضمان نفي للضرر وليس تداركاً للضرر؛ لأنّ الضرر في المقام لا نتخيّل أنه ضرر مالي حتى نقول أنّ هذا الضرر المالي بعد حصوله يكون الضمان مجرّد تدارك وليس نفياً له، الضرر في المقام هو عدم إعطاء هذا الحق، وهو ضرر وإضرار بالمحبوس، فإعطاء هذا الحق يكون نافياً للضرر . التوهم نشأ من افتراض أنّ النقص الحاصل في المثال هو نقص مالي؛ فحينئذٍ قد يقال أنّ هذا النقص المالي بعد حصوله، أي ضمانٍ وتعويضٍ يعتبر تداركاً وليس نفياً للضرر، ولكن بعد تعميم الضرر للنقص في المال والنقص في البدن ولعدم إعطاء الحق الثابت عقلائياً؛ حينئذٍ يكون المطلب واضحاً، باعتبار أنّ عدم إعطاء الحق لمن ثبت له هذا الحق عقلائياً يعتبر إضراراً به، وهذا الضرر يرفع ويُنفى بإعطاء الحق له، فالحكم بالضمان يكون نافياً للضرر وليس تداركاً للضرر، وهذا هو الجواب عن هذا الدليل الثاني: أنّ الحكم بالضمان بناءً على التعميم ليس تداركاً للضرر، وإنّما يُتخيّل كونه تداركاً للضرر في النقص المالي وأمثاله، وأمّا في مثل الحقوق، فأنّه يكون نافياً للضرر وليس تداركاً له .
يُضاف إلى ذلك ملاحظة أخرى، وهي : أنّ ما ثبت بطلانه من مسلك المحقق الفاضل التوني، أو ما عبّر عنه بأردأ الوجوه هو عبارة عن تفسير الحديث بنفي الضرر غير المتدارك، وأمّا أن نلتزم بتفسير الحديث بالتفسير المعروف، فنقول أنّ مفاد الحديث هو نفي الحكم الضرري، لكن مع تعميم الحديث لعدم الحكم كما يشمل وجود الحكم إذا كان ضررياً يشمل عدم الحكم إذا كان ضررياً ، فأنه ينتج في بعض الأحيان ثبوت التدارك، وثبوت الضمان وفي هذه الحالة هو يلتقي مع تفسير الفاضل التوني للحديث؛ لأنه يثبت التدارك في بعض الحالات، وهي حالة ما إذا كان الضرر مترتب على عدم الحكم بالضمان، فيثبت التدارك . ثبوت التدارك في بعض الحالات بناءً على التعميم لم يتقدّم أنه أردأ الوجوه، نحن هنا لا نريد أنّ نفسّر الحديث بأنّ مفاده هو نفي الضرر غير المتدارك حتى نقول بأنّ هذا أردأ الوجوه وتقدّم بطلانه، وإنّما نقول أنّ مفاد الحديث هو نفي الحكم الضرري، لكن نقول بأنّ الحديث كما يشمل الحكم الوجودي يشمل الحكم العدمي ـــــــ إذا صحّ التعبير عنه بالحكم العدمي ـــــــ والتعبير الأصح هو كما يشمل الحكم يشمل عدم الحكم إذا كان ضررياً، في بعض الحالات هذا الشمول ينتج التدارك، ينتج الضمان، هذا الشيء لم يتقدّم سابقاً أنه أردأ الوجوه .
الدليل الثالث: هو ما أشار إليه من أنه يلزم من القول بشمول الحديث للحكم وعدم الحكم إذا كانا ضرريين، تأسيس فقهٍ جديدٍ، وذكر أمثلة، وعمدة الأمثلة التي ذكرها هو مسألة طلاق الزوجة التي كان زوجها معسراً غير قادرٍ على الإنفاق عليها، عدم ولاية الطلاق للمرأة أو لوليها كالحاكم الشرعي هو ضرر عليها، بناءً على شمول الحديث لعدم الحكم، وهذا الضرر منفي؛ فحينئذٍ لابد من الالتزام بإعطاء الولاية للمرأة على الطلاق أو للحاكم الشرعي، وفي موارد أخرى أيضاً يلزم أموراً من هذا القبيل، وهذا ممّا لا يُلتزم به . [1]
السيد الخوئي(قدّس سرّه) أجاب عن هذا الوجه: [2] بأنّه في المقام حتى لو قلنا بالشمول، حديث لا ضرر لا يثبت به إعطاء ولاية الطلاق للمرأة أو للحاكم الشرعي، باعتبار أنّ الموجود في هذه المسألة أمور ثلاثة: الزوجية، وعدم كون الطلاق بيد الزوجة، وعدم الإنفاق، والأمر الأول الذي هو أصل الزوجية ليس ضررياً . والأمر الثاني الذي هو عدم إعطاء ولاية الطلاق بيد الزوجة أيضاً ليس ضررياً والأمر الثالث الذي هو عدم الإنفاق على المرأة من قِبل زوجها هو الأمر الضرري، بناءً على الشمول حديث لا ضرر ينفي عدم الإنفاق، فيثبت بذلك وجوب الإنفاق، وهذا لا ربط له بمسألة الطلاق، فإذن: غاية ما يثبت بالتمسك بالحديث بناءً على الشمول هو وجوب الإنفاق على الزوجة، وعدم جواز ترك الإنفاق، وأين هذا من إعطاء ولاية الطلاق بيد المرأة وبيد الحاكم الشرعي ؟!
ما ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) أيضاً فيه ما تقدّم سابقاً، من أنه كأنه مبني على تخيّل أنّ الضرر في الحديث يختص بالنقص المالي، وهذا الضرر ـــــــ النقص المالي ـــــــ لا يثبت في الزوجية ولا يثبت في عدم إعطاء ولاية الطلاق للزوجة، وإنّما يثبت في عدم الإنفاق، فيلحقها النقص المالي، فهذا ضرر يُنفى بالحديث، فيثبت وجوب الإنفاق كما قال . لكن إذا عممّنا الضرر إلى الإضرار المعنوية كما تقدمّ سابقاً ولا يختص بخصوص النقص المالي والنقص في البدن، فالضيق وسوء الحال والبؤس .....عبّر عنه ما شئت، هذا أيضاً ضرر يلحق الزوجة، الزوجة عندما تكون في عصمة رجل لا يتمكن من الإنفاق عليها، أو يتمكن من الإنفاق عليها، لكنّه يمتنع من الإنفاق عليها، هي تعيش هذا الضيق والحرج وسوء الحال بلا إشكال، وهذا أيضاً ضرر يلحق بالزوجة، ويكون رفع هذا الضرر الناشئ من سوء الحال والضيق من أن تعيش في عصمة رجل غير قادر على الإنفاق عليها، أو ممتنع من الإنفاق عليها، بحيث لا سبيل إلى إجباره على الإنفاق، في فرض عدم وجود من يُنفق عليها غير الزوج، وهذا الضرر ينفى بالحديث، بتخليصها من هذا الزوج، وذلك يكون بإعطاء ولاية الطلاق لها أو للحاكم الشرعي، فالمسألة لا تُلحظ فقط في الجانب المادي للقضية، أنّه يجب عليه الإنفاق، وهو لا ينفق، فعدم الإنفاق ضرر عليها، وهذا يكون نفيه عن طريق إيجاب الإنفاق على الزوج ولا علاقة له بمسألة الطلاق كما ذكر ؛ بل أنّ الضرر الذي تعيشه هذه الزوجة وهي في عصمة رجلٍ معسرٍ غير قادرٍ على الإنفاق عليها أصلاً، أو ممتنع من الإنفاق عليها هذا ضرر، وهي تعيش هذه الحالة من سوء الحال، وهذه الحالة هي ضرر عليها، ونفي هذا الضرر بناءً على شمول القاعدة لذلك يكون بتخليصها من الزوج، وهو لا يكون إلا بإعطاء ولاية الطلاق بيد غير الزوج كالحاكم الشرعي .
هذا كله مضافاً إلى أنه قد يقال: أساساً الذي يوجب إيقاع الزوجة في الضرر ليس أمراً عدمياً حتى يقال أنّ القضية مبنيّة على شمول الحديث لعدم الحكم أو عدم شموله، الذي يوجب إيقاع الزوجة في الضرر هو أمر وجودي وهو عبارة عن حصر الطلاق بيد الزوج في حالة من هذا القبيل، حصر الطلاق بيد الزوج المستفاد من الأحاديث الشريفة( الطلاق بيد من أخذ بالساق) وأمثاله، هذا هو الذي يكون موجباً لإيقاعها في الضرر، وهذا أمر وجودي وليس أمراً عدمياً، يعني حتى لو قلنا بعدم الشمول؛ فحينئذٍ يمكن أن يُدّعى ثبوت الطلاق وولاية الطلاق بيد الحاكم الشرعي بناءً على أنّ حصر الطلاق بيد الزوج في حالة من هذا القبيل هو أمر ضرري، وهو أمر وجودي، فيكون منفياً بالحديث، فيرتفع الحصر ويثبت ولاية الطلاق بيد غير الزوج .