الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

38/02/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

 

كان الكلام في دعوى أنّ هناك تنافياً بين فتويين للمشهور، فتواهم في مسألة ما إذا أجنب نفسه عمداً مع فرض كون الغسل ضرراً عليه، هنا أفتى المشهور بأنّ حكمه ينتقل إلى التيمم حتى في صورة العلم بالضرر، وهذا معناه أنهم يؤمنون بجريان قاعدة لا ضرر لنفي وجوب الغسل باعتباره ضررياً، وهذا معناه أنّهم أجروا قاعدة لا ضرر في صورة العلم والعمد في هذه المسألة . بينما في مسألة البيع الغبني لم يجروا القاعدة في صورة العلم والعمد، وقالوا بأنّ المغبون إذا كان عالماً وأقدم على المعاملة الغبنية لا يثبت له الخيار؛ لأنّ القاعدة لا تجري هنا لنفي لزوم المعاملة. والسؤال هو ما هو الفرق بين الصورتين؛ لأنّ في مسألة البيع الغبني أيضاً يوجد علم وعمد، فإذا كانت القاعدة تجري في صورة العلم والعمد كما هو الحال في مسألة الجنابة، فلابد أن تجري في المقام أيضاً، وبالتالي يثبت الخيار للعالم العامد، وإذا كانت لا تجري كما ذكروا في مسألة الغبن، فينبغي أن لا تجري أيضاً في مسألة الجنابة .

وقلنا أنّه قد يُفرّق بينهما على أساس أنّ عدم جريان القاعدة في مسألة الغبن باعتبار أنه أقدم على الضرر؛ لأنّ البيع الغبني هو بنفسه ضرر، وأمّا في مسألة الجنابة فلا إقدام على الضرر؛ لأنّ ما أقدم عليه هو الجنابة، والجنابة ليست ضررية، وإنّما الضرر في إيجاب الغسل عليه، وهو لم يُقدِم على إيجاب الغُسل، وإنّما أقدم على الجنابة. فهذا هو الفرق بينهما .

ولتتميم هذه الفكرة طرحنا إشكالاً حاصله إنّ الإقدام موجود في مسألة الجنابة؛ لأنّ من يُقدم على الجنابة مع علمه بأنّ حكمها هو وجوب الغسل يكون قد أقدم على وجوب الغسل الضرري؛ لأنّ الضرر هو في إيجاب الغسل، وهو قد أقدم عليه، فبالتالي يوجد إقدام على الضرر .

وقد ذكرنا الجواب عنه في الدرس السابق، بأنّ الإقدام في المقام محال؛ لأنّه يلزم منه الدور؛ لأننا إنّما نستطيع أن نتصوّر الإقدام عندما نفترض أنّ حكم هذه الجنابة هو وجوب الغسل؛ حينئذٍ يتم هذا المطلب، أنّ الإقدام على موضوع يكون إقداماً على حكمه، عندما يكون حكم الجنابة هو الغسل، وليس المقصود هو الجنابة الكلّية، وإنّما هذه الجنابة التي صدرت منه في هذه الظروف، إذا كان حكمها هو وجوب الغسل؛ حينئذٍ يكون الإقدام على الجنابة إقداماً على إيجاب الغسل الذي هو الضرر، فيكون إقداماً على الضرر، أمّا إذا كان حكم هذه الجنابة هو التيمم لا الغسل؛ حينئذٍ لا يكون الإقدام على الجنابة أقداماً على الضرر؛ لأنّ الإقدام على الجنابة إقدام على حكمها، وحكمها هو وجوب التيمم، ووجوب التيمم ليس ضررياً. إذن: إنما يكون إقداماً على الضرر عندما يُفترض أنّ حكم هذه الجنابة الخاصة هو الغسل المفروض كونه ضررياً . هذا معناه أنّ صِدق الإقدام على الضرر في محل الكلام يتوقف على أن يكون حكم هذه الجنابة هو الغُسل، هذا التوقف واضح لما قيل قبل قليل من أنّ الإقدام على الموضوع مع العلم والعمد إقدام على الحكم، فإذا كان حكمه الغسل، فيكون الإقدام على الجنابة إقداماً على الغسل وهو ضرري، فيكون إقداماً على الضرر.

إذن: يتوقف صدق الإقدام في المقام على أن يكون حكم هذه الجنابة هو الغُسل، والحال أنّ كون هذه الجنابة حكمها الغسل موقوف على عدم جريان لا ضرر في المقام، لوضوح أنّه إذا جرت لا ضرر في المقام لنفت وجوب الغسل، فلا يكون حكم هذه الجنابة هو الغسل، فكون حكم هذه الجنابة هو الغُسل موقوف على عدم جريان قاعدة لا ضرر ـــــــــ هذا التوقف الثاني ــــــــ ثمّ نقول بأنّ عدم جريان قاعدة لا ضرر موقوف على صدق الإقدام، وإلاّ لو لم يصدق الإقدام لجرت قاعدة لا ضرر ، والذي يمنع من جريان القاعدة هو إقدام المكلف على الضرر بحسب فرضهم أنّ جريان القاعدة مشروط بعدم الإقدام، فعدم جريان القاعدة في المقام موقوف على صدق الإقدام على الضرر حتى يكون هو المانع من جريان القاعدة، فبالتالي الإقدام موقوف على أن يكون حكم هذه الجنابة هو الغسل، وكون حكم هذه الجنابة هو الغسل موقوفاً على عدم جريان قاعدة لا ضرر، وعدم جريان القاعدة موقوف على الإقدام، فبالتالي يتوقف الإقدام على الإقدام، بهذه الوسائط، فيمتنع صدق الإقدام في محل الكلام، فلا إقدام في محل الكلام . بينما في مسألة الغبن تصورنا الإقدام، فيكون هذا هو الفرق بين المسألتين . هناك يوجد إقدام، فلا تجري قاعدة لا ضرر لنفي اللّزوم وإثبات الخيار؛ بل يكون حكم المعاملة هو اللّزوم، فيُفرّق بين الجهل وبين العلم في تلك المسألة، أمّا في محل الكلام فيستحيل صدق الإقدام؛ لأنّه يستلزم الدور المحال، فإذن: لا إقدام؛ وحينئذٍ لا مشكلة في جريان قاعدة لا ضرر في المقام لنفي وجوب الغسل، باعتباره ضررياً، وإثبات أنّ الوظيفة هي التيمم كما أفتى المشهور .

يُلاحظ على هذا الجواب: بالنسبة إلى ما جعله أمراً مسلّماً ومفروغاً عنه في مسألة البيع الغبني؛ لأنّه افترض أنّ هناك إقداماً، وأنّ الإقدام في مسألة الغبن واضح؛ لأنّ البيع الغبني هو ضرر، وهو أقدم على الضرر . وقد تقدّم الكلام في مسألة الإقدام على الضرر في البيع الغبني، وتبيّن أنّ هناك رأيين في هذه المسألة:

الرأي الأول: في هذه المسألة لا يوجد إقدام على الضرر، وهذا الرأي تبنّاه المحقق العراقي(قدّس سرّه) . هذا الرأي ــــــــ كما اتضح ممّا تقدّم ـــــــــ يبتني على دعوى أنّ المعاملة(البيع) ليس فيها دلالة إلاّ على حدوث النقل والانتقال، والتمليك والتملك، والمبادلة؛ ولذا يكون مدلول البيع ناظراً إلى مرحلة الحدوث، أي إحداث التمليك والتملّك فقط، وإحداث المبادلة، وأمّا بقاء ذلك حتى إلى ما بعد زمان صدور الفسخ من المغبون، هذا ـــــــ أي مرحلة البقاء ـــــــ ليس هو مفاد البيع، وإنّما مفادها مرحلة الحدوث، البيع لا يدل على بقاء ما أحدثه بالإنشاء، وإنّما مدلوله هو إحداث التمليك والتملّك . هذا الثاني هو الذي يُعبّر عنه باللّزوم، بقاء التمليك والتملّك إلى ما بعد زمان صدور الخيار من المغبون، هو عبارة عن لزوم المعاملة، حتى لو فسخ المغبون لا أثر لفسخه، يبقى التمليك والتملّك والمبادلة كما هي سابقاً، وهذا معناه أنّ المعاملة لازمه، وهذا الذي يعبّر عنه باللّزوم، الأول ـــــــ مرحلة الحدوث ــــــ يُعبر عنه بالصحة، أي صحة المعاملة، فيترتب عليها التمليك والتملّك حدوثاً، أمّا بقاءً، فلا تكفي فيها الصحة؛ بل لابدّ فيها من اللّزوم، (بقاءً) ليس هو ما ينشئه المتعاملان في معاملتهما، وإنّما ما ينشئانه هو عبارة عن إحداث التمليك والتملّك، وهذا هو مفاد البيع وما يُفهم من البيع . هذا يستلزم أن يكون البقاء الذي نعبّر عنه باللزوم، حكماً شرعياً تأسيسياً تعبّدياً، وليس حكماً إمضائياً؛ لأنّ المتعاملان لم يُنشئا البقاء، أصلاً ليس مدلول البيع هو البقاء، وإنّما ناظر إلى مرحلة الحدوث؛ ولذا يُفرّق بين الصحة واللّزوم، الحكم بالصحة حكم إمضائي، أي إمضاءً لما صدر من المتعاملين، بينما الحكم باللزوم يكون حكماً تأسيسياً تعبّدياً، وليس إمضائياً.

بناءً على هذا، أصحاب هذا الرأي يقولون لا يوجد إقدام من قِبل المغبون العالم بالغبن على الضرر؛ لأنّه لم يُقدِم على الضرر الناشئ من اللزوم؛ لأنه لم يُنشأ اللزوم حتى يكون مُقدِماً على الضرر الناشئ منه، وإنّما إذا حصل الضرر، يحصل بسبب الحكم الشرعي التأسيسي التعبّدي، ذاك هو الضرر، إذن: هو لم يُقدِم على الضرر، وما أقدم عليه هو إحداث التمليك والتملّك، أمّا مرحلة البقاء، فهو ليس ناظراً لها، ولم يُقدِم عليها، والحكم بالبقاء هو حكم شرعي تعبّدي تأسيسي، والمكلف لم يُقدِم على ذلك. إذن: لا يوجد في المقام إقدام على الضرر .

الرأي الثاني: يرى تحقق الإقدام في مسألة الغبن . وهذا الرأي يبتني على أنّ المعاملة والبيع له مدلولان: مدلول مطابقي، الذي هو عبارة عن إحداث التمليك والتملّك والمبادلة، لكن له مدلول التزامي، فأنه يدل بالدلالة الالتزامية على الالتزام ببقاء ما صدر منه ـــــــ الذي هو إحداث التمليك والتملّك ـــــــ في جميع الأزمنة حتى بعد زمان صدور الفسخ منه. إمّا بهذا التقريب، أو بالتقريب الذي نقلناه عن سماحة السيد في الدروس السابقة، الذي يقول بأنّ مقتضى إطلاق الإنشاء هو تحقق معناه في جميع الأزمنة حتى زمان ما بعد صدور الفسخ من المغبون؛ حينئذٍ على كلا التقديرين يكون حكم الشارع باللّزوم والبقاء إمضائياً لا تأسيسياً؛ لأنّه إمضاء لما صدر من المتعاملين، وما صدر منهما ليس هو فقط المدلول المطابقي؛ بل صدر منهما المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي الذي هو الالتزام ببقاء ما صدر منهما حتى بعد زمان الفسخ، أو الإطلاق .

بناءً على هذا الرأي، يقال في المقام: يتحقق الإقدام، هو أقدم على الضرر الناشئ من اللّزوم؛ لأنّه التزم ببقاء ما صدر منه حتى بعد زمان فسخه. إذن: الضرر الذي يقع فيه ليس من جهة الحكم الشرعي؛ لأنّ الحكم الشرعي مجرّد إمضاءٍ لما صدر من المتعاملين، وإنّما هو أقدم على الضرر، والتزم بالضرر، فيتحقق الإقدام في هذه الحالة.

هذان رأيان في المسألة، الرأي الأوّل اختاره المحقق العراقي(قدّس سرّه)، والرأي الثاني اختاره المحقق النائيني(قدّس سرّه) . نحن سابقاً قلنا: الظاهر أنّ الرأي الأول هو الأقرب إلى الصحة.

هذا بالنسبة إلى ما افترضه أمراً مفروغاً عنه في كلامه من أنّ الإقدام متحقق في مسألة البيع الغبني. أمّا في مسألة الجنابة، فذكر لأجل التفريق بين المسألتين أنّ في مسألة الجنابة لا يوجد إقدام؛ لأنّ الإقدام دوري؛ لأنّ صدق الإقدام يستلزم الدور المحال، فيكون الإقدام محالاً بالبيان الذي ذكرناه.

هذا الكلام يُلاحظ فيه: أنّه إذا كان الإقدام دورياً بالشكل الذي ذُكر، عدم الإقدام أيضاً يكون دورياً، نظير ما ذُ كر في مسألة رادعية السيرة عن حجية خبر الواحد، هناك في بحث الحجج يُذكر هذا الإشكال (إشكال الدور) ، فإذا كان هناك جواب، يجاب بنفس هذا الجواب، إذا كانت الرادعية دورية، فعدم الرادعية أيضاً يكون دورياَ، وهذا يكشف عن وجود خللٍ، وفي المقام إذا تصوّرنا أنّ الإقدام يتوقف على عدم جريان قاعدة لا ضرر؛ لأنه إذا جرت قاعدة لا ضرر ونفت وجوب الغسل، فحينئذٍ لا إقدام على الضرر؛ بل لا يوجد وجوب غسلٍ حتى يكون قد أقدم عليه، وعدم جريان قاعدة لا ضرر يتوقف على الإقدام؛ لأنه لو لم يكن هناك إقدام لجرت قاعدة لا ضرر؛ لأنّ عدم جريانها موقوف على الإقدام، والإقدام موقوف على عدم جريانها، فيكون دور . نفس هذا الكلام نستطيع أن نذكره في جانب عدم الإقدام، بأن يقال عدم صدق الإقدام أيضاً دوري، وذلك باعتبار أنه يتوقف على جريان قاعدة لا ضرر، وإلاّ إذا لم تجرِ قاعدة لا ضرر لصدق الإقدام، إذا لم تجرِ قاعدة لا ضرر؛ فحينئذ يكون الحكم هو وجوب الغسل، فيصدق الإقدام .

إذن: عدم صدق الإقدام يكون موقوفاً على جريان قاعدة لا ضرر؛ لأنه لو لم تجرِ قاعدة لا ضرر لصدق الإقدام، إنما لا يصدق الإقدام إذا جرت القاعدة ونفت وجوب الغسل، فلا يصدق الإقدام على الضرر ، أمّا إذا لم تجرِ القاعدة ولم ينتفِ وجوب الغسل، يصدق الإقدام. إذن: عدم صدق الإقدام موقوف على جريان قاعدة لا ضرر، كما أنّ جريان قاعدة لا ضرر موقوف على عدم صدق الإقدام؛ لأنه لو صدق الإقدام لما جرت قاعدة لا ضرر، فيلزم أن يكون عدم صدق الإقدام دورياً، كما أنّ الإقدام دوري، بالبيان الذي ذُكر، عدم صدق الإقدام أيضاً يكون دورياً؛ لأنّ عدم صدق الإقدام يتوقف على جريان القاعدة، وجريان القاعدة يكون موقوفاً على عدم صدق الإقدام على الضرر، وإلا لجرت قاعدة لا ضرر، وبالتالي يكون عدم صدق الإقدام أيضاً دورياً، وهذا معناه أنّ هناك خللاً في البين، وإلاّ لا يكون صدق الإقدام محال، و عدم صدقه أيضاً محال . هذا مؤشر .

الأمر الآخر في هذا الدور : أساساً المحالية في باب الدور تنشأ من توقف الشيء على نفسه، ولو بالواسطة، كما ذُكر في تقريب الدور في محل الكلام؛ لأنّ الإقدام يتوقف على عدم جريان قاعدة لا ضرر ، وعدم جريان قاعدة لا ضرر يتوقف على الإقدام، فيتوقف الإقدام على نفسه لكن بتوسّط عدم جريان القاعدة، وهذا في حد نفسه محال . (الف) يتوقف على (باء) وفي نفس الوقت (باء) يتوقف على (الف) هذا محال، ولو كان هذا التوقف بالواسطة . لكن هذا يكون برهاناً على ماذا؟ هذا برهان في الحقيقة على أنّ أحد التوقفين لابدّ أن يكون باطلاً وغير صحيحٍ، ولا يمكن جعله برهاناً على عدم صدق الإقدام، أو عدم صدق(الف) في مثال توقف(الف) على(جيم) وتوقف(جيم) على(باء) وتوقف (باء) على(الف). لا يمكن جعله برهاناً على عدم صدق وعدم تحقق(الف). ولا يمكن جعله برهاناً على عدم صدق الإقدام في محل الكلام لمجرّد أنّ الإقدام يتوقف على عدم جريان القاعدة، وعدم جريان القاعدة يتوقف على صدق الإقدام . هذا لا يمكن جعله برهاناً على عدم صدق الإقدام كما هو المقصود في المقام، لأنّ المقصود هو نفي تحقق الإقدام؛ لأنه دوري، وإنما يتعين في حالةٍ من هذا القبيل أن نقول أنّ أحد التوقفين باطل؛ لأنّ نفس أن يتوقف شيء على نفسه، ولو بالواسطة، هذا محال .

إذن: لا بدّ أن يكون أحد التوقفين باطلاً وغير صحيح، إما توقف الإقدام على عدم جريان القاعدة باطل، فالإقدام لا يتوقف على عدم جريان القاعدة. إمّا أن يكون هذا باطلاً، حتى إذا صحّ توقف عدم جريان القاعدة على الإقدام، وإمّا أن يكون توقف عدم جريان القاعدة على الإقدام باطلاً، حتى إذا كان الإقدام يتوقف على عدم جريان القاعدة . هذا لا يعني أن نستنتج من ذلك استحالة تحقق صدق الإقدام، وهذا لا يكون برهاناً على عدم صدق الإقدام، وإنّما هو برهان على أنّ أحد التوقفين يكون محالاً وباطلاً، فلابدّ أن يكون هناك خلل في أحد التوقفين، وإلاّ يستحيل توقف الشيء على نفسه، ولو بالواسطة .