الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
38/01/21
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
لازلنا ننقل الرأي المتقدّم في مسألة الحكومة، وأنّ الملاك في الحكومة ما هو ؟ هل هو النظر إلى الدليل بحيث يكون الدليل الحاكم لغواً إذا لم يُفرض وجود دليلٍ محكومٍ من عمومٍ أو إطلاقٍ ؟ أو أنّ ملاك الحكومة هو النظر لا إلى وجود دليل؛ بل إلى ارتكاز ذهني راسخ عند المخاطبين، ويكون المصحح للعدول عن التعبير الصريح في نفي الحكم هو مراعاة هذا الارتكاز الراسخ في ذهن المخاطب وعدم جرح مشاعره أحاسيسه ؟
ذكر من جملة ما ذكره أنّ مناشئ الارتكاز الذهني عديدة:
منها: شدّة مناسبة الحكم للموضوع . ذكرها كمنشأ للارتكاز الذهني، كما في مسألة وجوب إكرام العلماء، لو فرضنا أنّ الشارع أراد تحديد هذا الوجوب، وإخراج العالم الفاسق منه، لكن كان هناك جوعان في الناس، تحكيماً لمناسبات الحكم والموضوع كان هذا الجو العام يرى أنه لا يوجد عالم لا يجب إكرامه، أصلاً هناك ملازمة بين كون الإنسان عالماً وبين وجوب إكرامه تحكيماً لمناسبات الحكم والموضوع . هذا منشأ لحصول ارتكاز وجوب إكرام العالِم مهما كان، هذا الارتكاز يكون راسخاً في ذهن الناس، والشارع عندما يريد أن يُخرِج (العالم الفاسق) من هذا الحكم، ويُبيّن أنه لا يجب إكرامه لا يريد أن يجابه هذا الارتكاز، فلا يقول: (العالم الفاسق لا يجب إكرامه) وإنّما يتوسّل رعاية لهذا الارتكاز إلى طريقة أخرى، وهي لسان التنزيل، ويستخدم لسان التنزيل، فيقول: (الفاسق ليس عالماً) .
ومن جملة مناشئ الارتكاز: اشتهار ثبوت الحكم للموضوع بحيث تكون القضية مشهورة في وسائل الأعلام والدعايات، بحيث يصبح ثبوت الحكم للموضوع بنحوٍ عام أمراً مرتكزاً في أذهان الناس بحيث يكون هناك تلقين نفسي للناس في هذه القضية وهذه الفكرة، فترتكز هذه الفكرة وترسخ في أذهان الناس، ويقول: لعلّ (لا طلاق إلاّ بإشهاد) هي من هذا القبيل، باعتبار ما ذكره من أنّ الآية الدالة على الطلاق هي مقيّدة بـــ ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾.[1] ولا يوجد إطلاق يدل على وقوع الطلاق وصحّته حتى يكون قوله: (لا طلاق إلاّ بإشهاد) ناظراً إلى هذا الدليل، وإنّما كان هناك جو عام وشهرة، واشتهار هذا المطلب نتيجة أنّ العامّة لا يشترطون الإشهاد في الطلاق، فيأتي (لا طلاق إلاّ بإشهاد) ويكون ناظراً إلى هذا الارتكاز الناشئ من الاشتهار، والجو العام الناشئ من الدعاية والأعلام.....الخ.
منشأ آخر للارتكاز: أنّ العموم الملحوظ في المقام يكون له لسان يأبى عن التخصيص في حدّ نفسه، كما يقال في مثل قوله تعالى :﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾.[2] يأبى عن أن يقال إنّ هذا الظن حجّة؛ فعندما يريد الشارع أن يثبت الحجّية لظنٍ من الظنون لا يثبته بلسان أنّ هذا الظنّ حجّة، وإنّما يثبته بلسان آخر، كأن يقول: (الظنّ علم)، أو (أنّ الظن الحاصل من خبر الواحد ليس ظناً)، ولا يقول أنّه ظن، لكنّه معتبر، خلافاً للآية التي تقول :﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾. وإنّما يقول: هذا الظن ليس ظناً، هذا علمٌ . هذا لسان من ألسنة التنزيل، ويكون المُراعى فيه هو هذا الارتكاز على أنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً؛ لأنّ هذا اللّسان يأبى عن التخصيص، ويكون هذا هو المنشأ لحصول هذا الارتكاز.
في كل هذه الحالات ليس من المناسب استخدام التعبير الصريح والأسلوب الصريح الذي هو التخصيص، وإنّما يُستخدم أسلوباً وتعبيراً مسالماً ليس فيه مجابهة، والتعبير المسالم هو لسان التنزيل. في الدرس السابق قلنا أنّ هذا الكلام كلّه لا ينافي أن نقول أنّ الملاك في الحكومة هو النظر، هو يعترف أنّ الملاك في الحكومة هو النظر، ويمكن أن نقول أيضاً تقدّم الحاكم على الدليل المحكوم يكون بملاك الحكومة وملاك النظر، وهذا معناه في الحقيقة أنّ هذا الرأي لا يختلف عن سابقه في الاعتراف بالحكومة والقرينية، والاعتراف بأنّ تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم إنّما ملاكه النظر، غايته أنّ الرأي السابق الذي يتبناه المشهور يرى أنّ الدليل الحاكم ناظر إلى دليلٍ آخر من عموم أو إطلاقٍ، بينما هذا الرأي الأخير يرى أنّه ليس ناظراً إلى دليل محكوم، وإنّما هو ناظر إلى ثبوت هذا المفاد ارتكازاً في أذهان المخاطبين، إلى الارتكاز الذهني المخالف للدليل الحاكم حتى يتحقق المصحح البلاغي للعدول عن التعبير الصحيح كما ذكره . إذا سلّمنا أنّ العدول عن التعبير الصحيح لابدّ أن يكون لنكتة، لماذا لم يقل: (العالم الفاسق لا يجب إكرامه) ؟ هذا التعبير الصريح، أمّا أن يُعبّر عن هذا، ويريد أن يصل إلى نفس هذه النتيجة بتعبير(العالم الفاسق ليس عالماً) فهذا تطويل للمسافة وعدول، ومن الواضح أنّ هذا العدول يحتاج إلى نكتة، وإلاّ لماذا عدل ؟ لابدّ أن يكون هناك مطلب هو اقتضى هذا العدول، ولنسلّم أنّ هذه النكتة هي النكتة البلاغية التي ذكرها، وهي مراعاة الارتكاز الذهني الموجود لدى المخاطبين وعدم جرح إحساساتهم، لكن من الواضح أنّ هذا الارتكاز الذهني وكل الارتكازات الذهنية لابدّ أن يكون لها منشئاً كما هو ذكر أنّ هناك مناشئ متعددة للارتكاز الذهني .
إذن: الارتكاز الذهني لابدّ أن يكون له منشأ يستند إليه، هذا المنشأ مرّة يكون عبارة عن دليل مطلقٍ على خلاف الدليل الحاكم، ومرّة يكون دليلاً عامّاً على خلاف الدليل الحاكم، ومرّة مناسبات الحكم والموضوع، ومرّة اشتهار القضية نتيجة الإعلام والدعاية، ومرّة كون العام يأبى عن التخصيص ــــــ مثلاً ـــــ هذه كلّها مناشئ لتحقق هذا الارتكاز الذهني في أذهان المخاطبين؛ حينئذٍ نقول: أنّ هذا الدليل الحاكم يكون ناظراً إلى منشأ الارتكاز، وموجباً لتصحيحه وتحديده، ولو بطريقٍ غير مباشرٍ، كما اعترف به هو في ما إذا كان الارتكاز ناشئاً من إطلاقٍ، أو عموم ، وذكر بأنّ ردّ الارتكاز هو في الحقيقة تحديد وتصحيح لذاك العموم وذاك الإطلاق، وتحديدٌ له، وبالتالي يكون الدليل الحاكم متعرّضاً لحال الإطلاق، أو العموم، لكن بطريقٍ غير مباشر.
أقول: هذه الفكرة نفسها يمكن تطبيقها على سائر المناشئ، بمعنى أننا لنفترض دائماً أنّ الدليل الحاكم هو متعرّض لحال دليلٍ آخر، هذا الدليل الآخر يكون هو منشأ الارتكاز، فلنسلّم المصحح البلاغي ونحافظ عليه، وهو أنّ العدول عن التعبير الصحيح هو مراعاة حال وإحساسات المخاطبين الذين ارتكزت في أذهانهم الفكرة المخالفة للدليل الحاكم، هذا مصحح بلاغي للعدول، لكن هذا لا ينافي أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى ما يستند إليه الارتكاز ومصححاً له، وموجباً لتحديده من دون فرقٍ بين أن يكون مستند الارتكاز هو عبارة عن عام، أو مطلق، أو يكون مستند الارتكاز هو الشهرة، أو يكون مستند الارتكاز هو مناسبات الحكم والموضوع، بالتالي الدليل الحاكم الذي هو يريد ردّ الارتكاز وتصحيحه، لكن بأسلوب مسالم لا بأسلوب مجابهة مع هذا الارتكاز، هو يريد تصحيح الارتكاز وردّ الارتكاز، هذا أيضاً بطريق غير مباشر هو تصحيح لمستند الارتكاز وتحديد لمستند الارتكاز، سواء كان هذا المستند هو عموم، أو إطلاق، أو كان هذا المستند هو مناسبات الحكم والموضوع، هو يريد تصحيحه، يقول أنّ هذه مناسبات الحكم والموضوع ليست صحيحة، لا تثبت في هذا المورد. وهكذا تحديدها، وهكذا الشهرة، يقول أنّ الشهرة ليست صحيحة على إطلاقها، صحيح أنّ هناك علاقة ـــــ مثلاً ـــــ بين وجوب الإكرام وبين العلم، لكن ليست على إطلاقها، هي لا تكون ثابتة في هذا الفرد، فهو كما ينظر إلى الارتكاز كذلك ينظر إلى مستند الارتكاز . غاية الأمر أنه لا نخصص هذه الفكرة، وهو نظر الدليل الحاكم إلى مستند الارتكاز بشكلٍ غير مباشر لا نخصصّها بخصوص ما إذا كان مستند الارتكاز هو الإطلاق أو العموم كما ذكره(حفظه الله وأدام ظلّه) لا نخصص هذه بهذه؛ بل نعممها لكل دليل . بالنتيجة : الدليل الحاكم هو ينظر إلى الارتكاز وينظر إلى مستند الارتكاز من دون فرقٍ بين أن يكون المستند هو الإطلاق أو العموم، أو الشهرة، أو مناسبات الحكم والموضوع، أو سائر المناشئ الأخرى. بالنتيجة هو يكون ناظراً لها ويريد تصحيحها وتحديدها، ونحن في محل الكلام لا نريد أكثر من هذا، نحن نريد أن نثبت أنّ الدليل الحاكم يكون ناظراً إلى دليلٍ آخر .
فإذن: يصح لنا بناءً على هذا أن نقول أنّ ملاك الحكومة هو النظر، يعني نظر أحد الدليلين إلى دليلٍ آخر، هذا الدليل الآخر أعمّ من أن يكون هو عبارة عن عمومٍ أو إطلاقٍ، أو شيءٍ آخر يكون منشئاً لهذا الارتكاز ، فأنّ الدليل الحاكم يكون ناظراً إليه، وموجباً لتصحيحه وتحديده؛ ولذا يتقدّم عليه على هذا الأساس . وبناءً على هذا معناه أنّ الدليل الحاكم يستبطن فرض وجود دليلٍ آخر، ويكون هذا الدليل الحاكم لغواً من دون فرض ذلك الدليل الآخر . غاية الأمر أنّ الدليل الآخر لا نقصره على خصوص الإطلاق والعموم، وإنّما يمكن تعميمه إلى كل مناشئ الارتكاز؛ لأنّ مناشئ الارتكاز تعتبر أدلة على هذه الفكرة المنافية للدليل الحاكم والتي تقول: أنّ الحكم يثبت للموضوع بنحوٍ عام ومطلق، هذه الفكرة لابدّ أن يكون لها دليل، ولابدّ أن يكون لها مستند، كما قلنا عندما يكون الدليل والمستند هو الإطلاق أو العموم، أنّ الدليل الحاكم يكون ناظراً إليه، كذلك نقول أنّ الدليل الحاكم يكون ناظراً إلى أيّ دليلٍ يكون هو مستند إلى هذه الفكرة التي ارتكزت في أذهان الناس، ولماذا نقول أنه لابدّ أن يكون ناظراً ؟ هو نفس الملاك الذي يكون به ناظراً للإطلاق والعموم عندما يكون هو المستند يكون أيضاً ناظراً إلى سائر المناشئ الأخرى باعتبارها مستنداً لهذا الارتكاز، مع وضوح أنّ الغرض الأصلي والمقصود الأساسي للدليل الحاكم هو نفي الحكم عن هذا الفرد، وبهذا يكون ناظراً إلى الدليل الآخر؛ لأنّ الدليل الآخر يثبت الحكم في هذا الفرد، سواء كان هذا الدليل هو إطلاق، أو عموم، أو اشتغال، أو اجتهاد ناشئ من رأي العامّة، أو مناسبات الحكم والموضوع، بالتالي هو دليل على إثبات الحكم في هذا المورد، هذا هو المقصود الأصلي للدليل الحاكم، الدليل الحاكم يريد أن ينفي الحكم عن هذا المورد، فيكون ناظراً إليه ومحدداً له ومصححاً له، وهذه هي الحكومة . نعم، لا وجه لتخصيص الدليل الآخر الذي فُرض كون الدليل الحاكم ناظراً إليه بالعموم والإطلاق، نستطيع أن نقول أنّ الحكومة هي عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى دليلٍ آخر، لا نخصص هذا الدليل الآخر الذي يكون الدليل الحاكم ناظراً إليه، ومتعرّضاً لحاله، لا نخصصه بخصوص الدليل اللّفظي الذي هو من قبيل العموم، أو من قبيل الإطلاق، ويمكن مجرّد صرف إمكان أن يكون مراد القائلين بالحكومة هو هذا، يعني نفترض أنّ كلامهم حينما يقولون بأنّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل الآخر، ليس مقصودهم بالدليل الآخر خصوص لإطلاق والعموم، وإنّما الدليل على الفكرة المنافية للدليل الحاكم، المستند مستند هذا الارتكاز كما هو يقول ارتكاز، ناظر إلى مستند الارتكاز، ويصح أيضاً كلامهم بأنّه من دون فرض وجود مستندٍ لذلك الارتكاز يكون الدليل الحاكم لغواً . غاية الأمر أنّه لا نخص ذلك كما قلنا بالعموم والإطلاق . قد توجد في كلامهم تخصيص، الدليل المحكوم أو الدليل الآخر بخصوص العموم أو الإطلاق . أقول: يمكن أن يُحمل كلامهم على هذا . على كل حال، هذه ملاحظة .
الملاحظة الأخرى: أنّه في بعض الحالات التي لا ينبغي الشك في تحقق الحكومة فيها، مرادنا بهذه الحالة هي ما إذا لم يكن في مقابل الدليل الحاكم ارتكاز، يمكن فرض ذلك، أن لا يكون في مقابل الدليل الحاكم ارتكاز ذهني أصلاً ، أو يكون هناك ارتكاز، لكن ليس راسخاً بذاك المقدار الذي يستدعي أنّ الشارع يعدل عن التعبير الصريح إلى هذا التعبير مراعاةً لإحساسات ومشاعر من ارتكز هذا في أذهانهم، كلا لا يصل إلى درجة من الرسوخ بحيث تبلغ هذه الدرجة، إمّا أن لا يكون في قِبال الدليل الحاكم ارتكاز أصلاً، أو يكون هناك ارتكاز، لكن لا يصل إلى تلك الدرجة من الرسوخ، وإنّما يكون في مقابل الدليل الحاكم دليل آخر من عمومٍ، أو إطلاق . هذا يمكن فرضه، كما إذا فرضنا أنّ التفاوت الزمني بين الدليلين كان قصيراً جداً بحيث لا يسمح بحصول ارتكاز في أذهان المخاطبين، أو كان يسمح بحصول ارتكاز، لكنّه لا يكون ارتكازاً راسخاً يصل إلى هذه الدرجة التي ذُكرت، أو نفترض أنّ التفاوت الزمني كبير جداً، لكنّه يُفرض وجود جو عام على خلاف الدليل المطلق، في بعض الأحيان يمكن فرضه، يعني دليل مطلق موجود، ويوجد جو عام على خلافه، أي يوجد جو عام على التخصيص، أي يوجد جو عام ناشئ من رأي العامة وغير العامة ــــــ فرضاً ــــــ على أنّ هذا ليس على إطلاقه، فيأتي الشارع في هذه الحالة بلسان التنزيل يسلب الحكم عن بعض الأفراد، فيقول ــــــ مثلاً ــــــ لا ربا بين الوالد والولد . هنا لا يوجد ارتكاز ذهني مخالف للدليل الحاكم؛ لأننا فرضنا أنّ الموجود في قِبال الدليل الحاكم دليل عام ومطلق، لكن ليس في قِباله ارتكاز؛ بل قد نفترض أنّ الارتكاز يوافق ويطابق الدليل الحاكم، قد نفترض ذلك، وهذا ينشأ من وجود جو عام على خلاف الدليل العام، أو الدليل المطلق، كما إذا فرضنا أنّ المسلمين سنّة وشيعة ذهبوا إلى أنّ الربا بين الوالد والولد ليس حراماً، في حالة من هذا القبيل عندما يأتي(لا ربا بين الوالد والولد) هنا ماذا نقول في هذا الدليل ؟ هل هو حاكم على ذاك الدليل ؟ لأننا افترضنا وجود دليل، وقلنا ليس في قِبال هذا الحاكم إلا دليلاً عامّاً، أو مطلقاً، هل يكون حاكماً، أو ننكر الحكومة ؟ لا مجال لإنكار الحكومة، الحكومة هنا تكون موجودة ومتحققة، هذا يكون ناظراً إلى ذاك الدليل ومحددّاً له وشارحاً له ومُفسراً له، فيكون حاكماً عليه مع عدم وجود ارتكاز في البين . في هذه الموارد كما قلنا إذا ورد الدليل بلسان التنزيل، يصحّ هذا الكلام، يصح أن يقول (لا ربا بين الوالد والولد) وإذا سألناه يقول: أنا ناظر إلى ذلك الدليل . يبقى السؤال المطروح صحيح: لماذا عدل عن التعبير الصريح إلى هذا التعبير ؟ لماذا لم يقل الربا بين الوالد والولد ليس حراماً ؟ يمكن فرض أنه نوع من التفنن في التعبير . على كل حال لا يمكن في هذا الفرض أن ننكر أنّ هذا حاكم على الدليل الآخر مع عدم وجود ارتكاز على خلاف ذلك الدليل الحاكم .
على كل حال، من الناحية العملية عندما يكون هناك دليل حاكم في قِباله إطلاق، أو عموم، هذا الدليل يتقدّم عليه بالحكومة والنظر، يعني محل كلامنا هو عندما يكون في قِبال الدليل الحاكم عموم، أو إطلاق، يتقدّم عليه بالنظر والحكومة . في حالات أخرى لا يكون هناك دليل، ولو تخيّلاً، وهذا ليس هو محل الكلام، نحن نتكلّم عن الأدلّة، نريد أن نجمع بينها، فنقول كيف نجمع بين العام والخاص، يعني نفترض وجود دليل حاكم ووجود دليل محكوم، نقول هذا يتقدّم على ذاك بالحكومة التي ملاكها النظر، وقلنا بأنه يكون ناظراً إلى ذلك الدليل المطلق وإلى ذلك الدليل العام. غاية الأمر أنّ هذا النظر نظر بشكل غير مباشر إليه، أو أنّه ناظر إليه بشكلٍ مباشر كما إذا فرضنا عدم توسّط هذا الارتكاز الذهني عند المخاطبين في بعض الحالات .
هذا الكلام كلّه كبروي أُقحم في المقام إقحاماً، الكلام عن كبرى أنّه ما هو الوجه في تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ؟ الآن نرجع إلى كلامنا السابق، وهو أنه ما هو الوجه في تقديم قاعدة لا ضرر على أدلّة الأحكام الأولية ؟ نقلنا سابقاً عن الشيخ الأنصاري، وعن المحقق النائيني، وعن السيد الخوئي(قُدّست أسرارهم) وغيرهم أيضاً ذهبوا إلى أنّ الوجه في التقديم هو الحكومة؛ لأنّ لا ضرر ينفي الحكم الضرري، فيكون ناظراً إلى الدليل المثبت لذلك الحكم مطلقاً، فيتقدّم عليه على أساس الحكومة .
يظهر من المحقق الخراساني(قدّس سرّه) في الكفاية الاعتراض على ذلك،[3] ويمكن تفسير كلامه بهذا الشكل: أنّ الملاك في حكومة دليل على دليل آخر هو أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم، وهذا غير ثابت في محل الكلام، يعني يُسلّم أنّ الملاك في الحكومة هو النظر، لكن يقول أنّ النظر في محل الكلام غير متحقق؛ لأنّ دليل لا ضرر ليس فيه ما يشير إلى كونه شارحاً ومبيّناً لأدلة الأحكام الأولية؛ ولذا دعوى الحكومة في محل الكلام ليست واضحة .
فُهم من هذا الكلام أنّه يدّعي اختصاص الحكومة بما إذا كان الدليل الحاكم متعرّضاً لحال الدليل المحكوم بالمدلول اللّفظي المطابقي، يعني أن يكون شارحاً للدليل المحكوم بمثل(أعني)، أو (أقصد) وأمثال هذه العبارات التي يظهر منها أنّ الدليل الحاكم يتعرّض لحال الدليل المحكوم بالمدلول اللّفظي المطابقي . إذن: يصح كلامه بأنّ هذا غير متحقق في قاعدة لا ضرر؛ لأنّ لا ضرر ليس فيها ما يدل على أنّها شارحة للدليل المحكوم بالمدلول اللّفظي المطابقي، فإذا اختصت الحكومة بالأول؛ فحينئذٍ يمكن أن يعترض على دعوى الحكومة في محل الكلام في قاعدة لا ضرر .