الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

38/01/16

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

كان الكلام في وجه تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم كمسألة كلّية بقطع النظر عن محل الكلام . هناك آراء في وجه تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، نقلنا عن المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ الوجه في التقديم هو عدم المعارضة، وأنّ الدليل الحاكم والدليل المحكوم لا توجد بينهما منافاة ومعارضة إطلاقاً؛ فحينئذٍ يُعمل بالدليل الحاكم؛ لأنّه ليس له معارض، فيُعمل به، وهذا هو نفس نتيجة تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم؛ لأننا بالتقديم نعمل بالحاكم، فهنا أيضاً باعتبار عدم المعارضة وعدم المنافاة سيكون العمل بالدليل الحاكم بلا مانع . قلنا في الدرس السابق أنّ هذا الذي ذكره محل تأمّل، وعليه ملاحظات:

الملاحظة الأولى: باعتبار ما ذكرناه في الدرس السابق من أنّ المعارضة موجودة بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم كما هي موجودة بين الخاص والعام؛ لأنّ الميزان في المعارضة والمنافاة هو المراد النهائي الجدّي للمتكلّم بهذا الكلام وهذا الكلام، بلحاظ المراد النهائي والجدّي هناك مغالطة؛ لما قلناه من أنّ الدليل الحاكم وإن كان هو ينفي الموضوع في الدليل المحكوم، لكن قلنا أنّ هذا لسان من ألسنة نفي الحكم . فإذن: ما ينفيه الدليل الحاكم هو الحكم، (لا ربا بين الوالد والولد) هو يريد أن يقول أنّ الربا بين الوالد والولد ليس حراماً، لكن هو ينفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ومن هنا يظهر أن بينهما معارضة، باعتبار أنّ الدليل الحاكم ينفي الحكم عن هذا الفرد، في حين أنّ الدليل المحكوم يثبت الحكم في هذا الفرد، يقول( الربا حرم) بإطلاقه، بعمومه يثبت الحكم حتى في هذا الفرد، بينما الحاكم ينفي الحكم في هذا الفرد؛ ولذا يقع بينهما التنافي والتعارض .

فإذن: لا يمكن أن نقول لا توجد معارضة بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم وهذا هو السر في العمل بالدليل الحاكم مع وجود الدليل المحكوم، الأمر في باب الحكومة كما هو في باب التخصيص، كما أنّه في باب التخصيص هناك منافاة بين الدليل العام والدليل الخاص، وإن كان يُقدّم الدليل الخاص على الدليل العام، لكن المنافاة ابتداءً موجودة بينهما، باعتبار أنّ العام يثبت الحكم في هذا الفرد، والخاص ينفي الحكم . نفس هذه المنافاة التي اعترفنا بها في باب التخصيص هي موجودة أيضاً في باب الحكومة، ومن هنا يظهر أنه لا يمكن أن نقول أنّ الوجه في تقديم الدليل الحاكم هو عدم المعارضة .

الملاحظة الثانية: أنّ هذا الكلام الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) في وجه تقديم الدليل الحاكم لا يتم في بعض أنحاء الحكومة؛ لأننا ذكرنا سابقاً نقلاً عنه أنه ذكره أنّ أقسام الحكومة ثلاثة:

القسم الأول: هو الدليل الحاكم الذي يتعرّض إلى موضوع الدليل المحكوم .

القسم الثاني: الدليل الحاكم الذي يتعرّض للحكم في الدليل المحكوم .

هذا القسم الثاني هو من أقسام الحكومة؛ بل من الأقسام المهمّة في باب الحكومة، في هذا القسم لا يمكن أن نقول لا توجد معارضة بين الحاكم والمحكوم، هو بمدلوله اللّفظي يتعرّض إلى الحكم، القسم الأول يتعرّض إلى نفي الموضوع، لكن هذا هو ينفي الحكم، أي ينفي ما يثبته الدليل الآخر، ومثّل له سابقاً ـــــ كما نقلنا عنه ــــــ بما إذا قال: (أكرم العلماء)، ثمّ قال: (وجوب الإكرام لا يثبت في هذا المورد) فيكون متعرّضاً للحكم في الدليل الآخر، فهذا يتعرّض للحكم وينفي الحكم مباشرة، وذاك يثبت الحكم في هذا الفرد، فيتعارضان . هنا لا نستطيع أن نقول ليس هناك معارضة، هذا في باب الدليل الذي يتكفّل نفي الموضوع قد تتأتى شبهة عدم المعارضة بلحاظ لسان الدليل، وإن قلنا ليس هناك معارضة بلحاظ الواقع والمحتوى والمراد الجدّي النهائي . لكن هنا في القسم الثاني من أقسام الحكومة لا مجال لتوهّم عدم المعارضة . إذن: كيف نقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم مع وجود المعارضة بينهما، إذا كان الوجه في التقديم هو عدم المعارضة، فهذا غير موجود في هذا القسم جزماً؛ لأنّ الدليل الحاكم في هذا القسم هو ينفي الحكم عن هذا الفرد، يقول وجوب الإكرام ليس ثابتاً في هذا المورد، هو ينفي الحكم، بينما الدليل العام يثبت هذا الحكم في ذلك المورد، فلابدّ من افتراض التنافي بينهما .

ومن هنا يظهر أنّه لا يمكن الالتزام بأنّ تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم إنّما هو بسبب المعارضة .

قد يقال: أنّ التعارض بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم سلّمنا أنّه تعارض ثابت ولا يمكن إنكاره، لكن يمكن تخريج تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم على أساس آخر، وهو أن يقال: أنّ الدليل الحاكم في هذا القسم الذي صار مورداً للنقض، وهو الحكومة التي تتعرّض للحكم في الدليل المحكوم، هنا قلنا أنّ المعارضة واضحة ومستحكمة بينهما . قد يقال: وإن كانت المعارضة في هذا القسم الثاني من الحكومة مستحكمة بين الدليلين، لكن يمكن تخريج تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم على أساس آخر، وهو أن يقال أنّ الدليل الحاكم في هذا القسم يرفع موضوع أصالة الإطلاق في الدليل المحكوم، والشك هو موضوع أصالة الإطلاق في الدليل المحكوم ، كما هو موضوع بقية الأصول اللّفظية. الدليل الحاكم يرفع تعبّداً هذا الشك، باعتبار أنّ الدليل الحاكم حجّة في مفاده، وبناءً على بعض المسالك، خصوصاً مسلك المحقق النائيني(قدّس سرّه) نفسه يكون مفاد الحجّية اعتباره علماً تعبّداً، فيثبت العلم التعبّدي بمضمون الدليل الحاكم، وهذا معناه أنّ المكلّف يصبح حاكماً بعدم الإطلاق في الدليل المحكوم تعبّداً، فيرتفع الشك الذي هو موضوع أصالة الإطلاق في الدليل المحكوم .

بعبارة أكثر وضوحاً : شمول الدليل المحكوم للفرد الذي هو مورد الدليل الحاكم إنّما هو بأصالة الإطلاق، أو أصالة العموم، أصالة الإطلاق في الدليل المحكوم التي على أساسها يكون الدليل المحكوم شاملاً للفرد وتتحقق المعارضة، إنّما هو بأصالة العموم وأصالة الإطلاق وموضوعها الشك في أنّه هل الإطلاق مراد، أو ليس مراداً ؟ فتأتي أصالة الإطلاق وتقول أنّ الإطلاق مراد للمتكلّم . الدليل الحاكم باعتباره علماً تعبّدياً هو ينفي الحكم عن هذا الفرد، فكأنّ المكلّف يصبح عالماً تعبداً بعدم ثبوت الحكم في هذا الفرد، وهذا يساوق عدم الشك في الإطلاق تعبّداً، فيرتفع الشك الذي هو موضوع أصالة الإطلاق في الدليل المحكوم تعبّداً . وهذا هو معنى الحكومة . فتتحقق الحكومة في المقام، ويتقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم، لكن لا على أساس عدم المعارضة كما قيل في القسم الأول من أقسام الحكومة، وإنّما يكون على أساس أنّ الدليل الحاكم يرفع موضوع أصالة الإطلاق في الدليل المحكوم الذي هو عبارة عن الشك، باعتبار أنّ الدليل الحاكم حجّة، والحجّية تعني اعتباره علماً تعبّداً، فيصبح المكلّف عالماً تعبّداً بعدم ثبوت الحكم في هذا الفرد، وهذا يعني أنه عالم تعبّداً بعدم إرادة الإطلاق في الدليل المحكوم، فإذا كان عالماً تعبّداً بعدم إرادة الإطلاق في الدليل المحكوم؛ حينئذٍ لا يكون هناك شك في إرادة الإطلاق حتى نتمسّك بأصالة الإطلاق، فيرتفع الشك الذي هو موضوع أصالة الإطلاق في الدليل المحكوم، وبهذا يمكن تخريج تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم في القسم الثاني من أقسام الحكومة. قد يقال هذا.

لكن هذا الذي ذُكر يُلاحظ عليه: أنّنا إذا التزمنا بهذا، فهذا لا يختص بالدليل الحاكم مع الدليل المحكوم، وإنّما يجري حتى في الخاص والعام، ويجري حتى في المقيّد والمطلق، القضية سيّالة؛ وحينئذٍ لا يبقى فرق بين الحكومة والتخصيص والتقييد؛ لأنّه في الخاص والعام أيضاً نقول بذلك، نقول أنّ الخاص حجّة، ومعنى حجّيته أنّه يثبت به العلم التعبّدي بمضمونه، وهذا يرفع الشك الذي هو موضوع أصالة العموم في العام، فإذا كانت الحكومة يمكن تبريرها بذلك، إذن: ليكن الخاص أيضاً حاكماً على الدليل العام، وهكذا سائر أنحاء الجمع العرفي، لابدّ أن يكون الدليل حجة حتى يُعتمد عليه، والحجّية تعني العلم التعبّدي، والعلم التعبّدي يكون رافعاً للشك الذي هو موضوع أصالة الإطلاق أو أصالة العموم، أو أصالة الظهور في الدليل المحكوم، فيكون حاكماً عليه، وهذا معناه عدم وجود فرق بين الحكومة وبين التخصيص . هذا من جهة .

من جهة أخرى: ليس أصالة الإطلاق في الدليل المحكوم موضوعها الشك، أصالة الظهور في الدليل الحاكم أيضاً موضوعها الشك، أصالة الظهور في الدليل المحكوم التي نحتاجها أيضاً موضوعها الشك، فلماذا لا نعكس ؟ يعني لماذا لا نقول أنّ الحجّية التعبّدية للدليل الحاكم تكون رافعة للشك في الدليل المحكوم الذي هو موضوع أصالة الإطلاق فيه ؟ بل نعكس القضية، فنقول: أصالة الظهور في الدليل الحاكم موضوعها الشك في المراد بلا إشكال، هذا الشك في المراد يرتفع تعبّداً ببركة الدليل المحكوم؛ لأنّ الدليل المحكوم أيضاً حجّة ومعتبر، وحجّيته تعني ثبوت مضمونه تعبّداً، العلم به تعبّداً ، فإذا أصبح عالماً بالإطلاق، وعالماً بالعموم تعبّداً، فهذا يرفع الشك في موضوع أصالة الظهور في الدليل الحاكم، وهذا معناه أننا نقدّم الدليل المحكوم على الدليل الحاكم ولا نقدّم الحاكم على المحكوم، بقطع النظر عن الوجوه الأخرى التي توجب التقديم، يعني لا وجه لترجيح تقديم الحاكم على هذا الأساس على المحكوم، ترجيحه على العكس؛ بل العكس أيضاً يمكن؛ لأنّ كلاً منهما يحتاج إلى أصالة من الأصالات، الدليل المحكوم يحتاج إلى أصالة الإطلاق وإلى أصالة العموم، والدليل الحاكم هو أيضاً بحاجة إلى أصالة الظهور، وكلٌ منهما هو موضوعه الشك، فإذا كان أحد الدليلين علماً تعبّداً يكون رافعاً لموضوع الدليل الآخر . إذن: هذا أيضاً لا يمكن الالتزام به لإثبات أنّ التقديم قائم على أساس عدم المعارضة بهذا البيان، يُذكر بياناً آخراً لتتميم رأي المحقق النائيني(قدّس سرّه) من أنّ التقديم قائم على أساس عدم المعارضة حتّى في القسم الأول . المحقق النائيني(قدّس سرّه) قال أنّ التقديم على أساس عدم المعارضة، لكن فسّر عدم المعارضة بالتفسير السابق، وهو أنّ المحكوم يثبت الحكم على نهج القضية الحقيقية، أي يثبت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع، ولا يتعرّض الدليل المحكوم لثبوت ذلك التقدير أو عدم ثبوته . الدليل الحاكم يتعرّض إلى ذلك ، فلا منافاة بينهما؛ لأنّهما لا يرِدان على محورٍ واحد، أو أمرٍ واحدٍ حتى يتعارضان، ذاك ناظر للحكم ويثبته على تقدير ثبوت الموضوع، والدليل الآخر الذي يقول أنّ هذا التقدير موجود، أو غير موجود لا ينافي ذاك؛ فلذا لا منافاة ولا معارضة بينهما . هذا هو البيان الذي ذكره . وتبيّن أنّ هذا البيان غير تام. هناك بيان آخر قد يُذكر لإثبات عدم المعارضة، وبالتالي أن يكون الوجه في تقديم الدليل الحاكم هو عدم المعارضة، بأن يقال : الدليل الحاكم أصلاً هو شارح ومبيّن للمراد من الدليل المحكوم، وهذا لا يمكن إنكاره، سواء كانت هذه المفسّرية صريحة بعبارة(أعني، وأريد، وأقصد) وأمثالها، أو باعتبار الظهور السياقي للجملة، لكن هو على كل حال شارح للمراد من المحكوم، والشارح يقدّم على المشروح ولا يعارضه؛ فحينئذٍ يمكن أن يكون عدم المعارضة التي يذكرها المحقق النائيني(قدّس سرّه) المراد بها أنّ هذا مفسّر، والمُفسِّر لا يُعارض المُفسَّر، فلا معارضة بينهما، لا معارضة بين دليل يقول(يحرم الربا)، ودليل يقول(لا ربا بين الوالد والولد) فلا توجد معارضة، فيتم كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) .

الجواب عن هذا الوجه لإثبات أنّ الوجه في التقديم هو ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو : نحن لا نسلّم بأنّ الدليل الشارح لا يُعارض الدليل المشروح، نحن نقول: أننا بلحاظ الواقع، بلحاظ المراد الجدّي النهائي يتعارضان، هذا يعارض هذا؛ لأنّ هذا يثبت الحكم في هذا المورد، والدليل الحاكم ينفي الحكم عن ذلك المورد . إذن: هما متنافيان ومتعارضان؛ فلا نستطيع أن نرفع هذا التعارض بأنّ لسان هذا هو لسان الشارح والمبيّن، بينهما تعارض كالتعارض الموجود بين العام والخاص بلا فرقٍ بينهما، كلٌ منهما فيه تعارض وتنافٍ . الشارحية والمفسّرية التي يذكرها صحيحة، أنّ الدليل الحاكم شارح، لكن هذا يظهر أثرها في الحجّية، نحن لا نتكلّم عن التعارض بمعنى التنافي في الحجّية، نعم لا تنافي بينهما في الحجّية؛ لأنّه لابدّ من العمل بالدليل الحاكم، الدليل الحاكم هو الذي يكون حجّة، الدليل المحكوم لا يكون حجّة حينئذٍ في الإطلاق؛ لأنّ حجّيته في الإطلاق متوقفة على عدم الدليل الحاكم، كما أنّ حجّية العامة في العموم متوقفة على عدم وجود المخصص، وإلاّ مع وجود المخصص لا يكون العام حجّة في الإطلاق ولا يكون حجّة في العموم، فبلحاظ الحجّية لا إشكال في عدم وجود التعارض بينهما، يتقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم؛ لأنّه لا يعارضه في الحجّية؛ لأنّ حجّية الدليل المحكوم متوقفة على عدم حجّية الدليل الحاكم، فإذا كان الدليل الحاكم حجّة؛ فحينئذٍ يتقدّم على الدليل المحكوم بلا إشكال بلا معارضة بينهما في الحجّية، لكن كلامنا ليس في التعارض والتنافي بلحاظ الحجّية، هذا التعارض والتنافي بلحاظ الحجّية لا ينافي أن نقول أنّ هناك وجهاً آخر يكون هو الوجه في تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم كما سيأتي، كالقرينية ـــــــ مثلاً ـــــــ إذا التزمنا بأنّ الوجه في التقديم هو القرينية، التنافي بينهما بلحاظ الحجّية لا ينافي أن يُلتزم بتقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم على أساس القرينية، ففي الوقت الذي نلتزم به بعدم التنافي بين الدليلين الحاكم والمحكوم في الحجّية نلتزم بتقديم الدليل الحاكم على أساس وجهٍ آخر .

إذن: التعارض بينهما ثابت، بلحاظ المراد الجدّي الحقيقي النهائي يقع بينهما تعارض كما هو الحال في العام والخاص؛ وحينئذٍ لا يمكن تبرير التقديم على أساس عدم المعارضة؛ بل أنّ الأمر في باب الحكومة كما هو الحال في باب التخصيص بلا فرقٍ بينهما من هذه الجهة، كما أنّه هناك نقول هناك تعارض بين العام والخاص، من أقسام التعارض هو التخصيص، فالتعارض موجود، لكن بالرغم من هذا يُجمع بينهما بتقديم الخاص على العام، في ما نحن فيه أيضاً كذلك، نقول أنّ التعارض موجود بينهما، لكن يُجمع بينهما بتقديم الحاكم على المحكوم . أمّا دعوى عدم وجود معارضة وأنّ الحكومة تختلف عن التخصيص في هذه النقطة، هذا غير تام .

بعد أن تبيّن أنّه لا يصح تبرير تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم على أساس ما ذكره(قدّس سرّه)، الآن بعد عدم صحّة هذا الوجه، نتكلّم عن الوجوه الأخرى للتقديم، لعلّ أهم هذه الوجوه هو الوجه الذي يقول أنّ وجه التقديم هو القرينية، الدليل الحاكم قرينة على المراد من الدليل المحكوم، باعتبار أنّ الدليل الحاكم الذي فرضنا سابقاً أنه متعرّض للدليل المحكوم . أو قل بعبارة أخرى: ناظر للدليل المحكوم، في هذه الحالة يُعد عرفاً قرينة على بيان المراد الجدّي من الدليل الحاكم، وأنّ المراد الجدّي من الدليل المحكوم ليس هو ثبوت الحكم على هذه السعة والإطلاق، وإنّما يثبت الحكم في ما عدا هذا الفرد الذي يدل الدليل الحاكم على عدم ثبوت الحكم فيه، فيكون قرينة، بالضبط من قبيل يرمي بالنسبة للأسد، قرينة على بيان أنّ المراد الجِدّي من الأسد ليس هو الحيوان المفترس، وإنّما هو الرجل الشجاع . الحاكم أيضاً يكون قرينة على بيان المراد الجدّي من المحكوم، وأنّ المراد الجدّي به ليس هو الإطلاق والعموم والشمول؛ فحينئذٍ يتقدّم عليه على أساس كونه قرينة، ومن الواضح أنّ تقدّم القرينة على ذي القرينة لا يحتاج ولا يتوقف على ملاحظة النسبة بين الدليلين، فحتى لو كانت النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه كما هو في محل الكلام ــــــ قاعدة لا ضرر مع أدلة الأحكام الأولية ــــــ مع ذلك يتقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم؛ لأنّ التقديم ليس هو الأظهرية أو الأخصّية حتى نبحث عن النسبة بينهما ما هي ؟ إذا كان عموم وخصوص من وجه لا نقدّم لعدم وجود الأخصية، وبالتالي لا توجد أظهرية، وإنّما التقديم على أساس أنّ هذا قرينة، فيتقدّم عليه سواء كانت النسبة عموم وخصوص من وجه، أو عموم وخصوص مطلقاً، يتقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم . هذا الذي يُدّعى في المقام . وهذا يكون واضحاً جدّاً في حالة ما إذا كان الدليل يقوم بالتفسير الصريح، بكلمة(أعني)، أو(أقصد)، (أريد) وأمثالها، هذا يكون مفسراً، ويكون قرينة عرفاً على بيان المراد . الحكومة القائمة على أساس التفسير وليست القائمة على أساس النصوصية، مثل(أعني) أو (أقصد) ، الحكومة الأخرى التي يثبت بها النظر والتعرّض لحال الدليل المحكوم على أساس الظهور السياقي للكلام، من قبيل(لا ربا بين الوالد والولد) قلنا ظاهر هذا الكلام، مقتضى السياق أنّ هذا ناظر إلى الدليل الآخر ومتعرّض لحاله، هذا أيضاً يكون التقديم على أساس القرينية، هذا الدليل أيضاً يعتبر قرينة على بيان المراد من الدليل الآخر، فلا فرق بين هذين القسمين من هذه الجهة في أنّ العرف يعتبر الدليل الحاكم قرينة على بيان المراد من الدليل المحكوم .

بناءً على هذا حينئذٍ، وبناءً على أنّ الوجه في تقديم الخاص على العام هو القرينية أيضاً؛ حينئذٍ لا يبقى فرق من هذه الجهة بين الحكومة والتخصيص، في كلٌ منهما الدليل يتقدّم على الدليل الآخر على أساس القرينية . الخاص أيضاً عرفاً يعتبر قرينة على بيان المراد من العام، كما أنّ الحاكم يعتبر عرفاً قرينة على ذلك، الخاص ـــــــ بناءً على هذا الرأي ــــــــ أيضاً يعتبر قرينة على تفسير المراد من العام، فيتقدّم بملاك القرينية . بناءً على هذا الرأي؛ حينئذٍ لا يبقى فرق بينهما من هذه الجهة، وإنّما الفرق من جهة أخرى وهي مسألة أنّ هذه القرينية في باب الحكومة تكون ثابتة بظهور دلالي أعم من أن يكون لفظي، أو سياقي، وفي باب التخصيص تكون ثابتة بظهور سياقي مؤلف من مجموع القرينة وذي القرينة، فالظهور السياقي لهذا الكلام يقول أنّ الخاص يعتبر قرينة على بيان المراد من العام .