الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
37/12/26
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
بعد تعديل الوجه الرابع، قلنا اعتُرض عليه باعتراضين، ذكرنا الاعتراض الأول، ومحاولة دفعه بما تقدّم .
الاعتراض الثاني على الوجه الرابع المعدل: (الوجه الرابع كان يعتمد على كون لا ضرر نصّاً في نفي الحكم الضرري في الجملة بنحو القضية المهملة) . الاعتراض الثاني يقول: أنّ نصوصية لا ضرر في نفي الحكم الضرري في الجملة، وإن كانت توجب العلم الإجمالي بتخصيص العمومات وتقييد المطلقات بنحو القضية المهملة، لكنّ هذا إنّما يوجب العلم بالتخصيص أو التقييد في البعض من المطلقات والعمومات، بمعنى أنّ ما نعلمه بسبب هذه النصوصية هو أنّ بعض المطلقات مقيدة ولا تشمل موارد الضرر، وبعض العمومات مخصصة ولا تشمل موارد الضرر، فالذي يسقط عن الحجية إنّما هو بعض العمومات وبعض المطلقات، فلا تكون حجّة في العموم ولا في الإطلاق؛ للعلم الإجمالي بتقييد بعض العمومات وبعض المطلقات . إذن: بعض العمومات على الإجمال تسقط حجيته في الإطلاق وفي العموم، وهذا معناه أنّ البعض الباقي غير المعيّن من العمومات والمطلقات يبقى إطلاقها وعمومها على حجّيته بالرغم من عدم تعيينه . إذن: إذا لاحظنا العمومات والمطلقات المثبتة للتكليف، نعلم أنّ بعضها سقطت حجيته في الإطلاق والعموم، لكن البعض الباقي هو باقٍ على حجيته في الإطلاق والعموم؛ وحينئذٍ يقع التعارض بين هذا البعض الباقي على حجيته من العمومات والمطلقات، وبين إطلاق دليل لا ضرر، والمفروض أنّ التعارض بينهما بنحو العموم والخصوص من وجه، فيتعارضان ويتساقطان؛ وحينئذٍ لا يمكن الرجوع إلى قاعدة لا ضرر، فلا يتم هذا الوجه .
من الواضح أنّ هذا الاعتراض مبني على أن نلتزم بأنّ الإطلاقات عندما تتعارض بسبب العلم الإجمالي بتقييد بعضها على الإجمال، بحيث المعارضة بين المطلقات تكون بسبب العلم الإجمالي بتقييد بعضها، لكن لا نعلم ايّ بعضٍ منها هو الذي شمله التقييد، وأيّ مطلقٍ لم يقيّد، لكن نعلم إجمالاً بأنّ بعض المطلقات مقيّدة، فيحصل علم إجمالي، أطرافه هي جميع المطلقات . فلو كان لدينا مائة مطلق، وعلمنا أنّ عشرة منها مقيّدة، هذا معناه أننا نعلم إجمالاً أنّ بعض هذه المائة مطلق لم تبقَ حجّة في إطلاقها، وكل مطلق من هذه المطلقات هو طرف في هذا العلم الإجمالي . الكلام في أنّ هذا العلم الإجمالي هل يوجب سقوط جميع هذه المطلقات عن الحجّية، أو لا موجب لسقوطها جميعاً عن الحجّية، وإنّما يسقط عن الحجّية بعض غير معيّن منها، ويبقى البعض الغير المعين أيضاً على حجيّته .
إذا قلنا بالثاني يكون هذا الاعتراض تامّاً؛ لأنّ هذا البعض الباقي على حجّيته، وإن لم يكن معيناً، لكن هناك مطلقات حجّة، وهي باقية على حجّيتها في الإطلاق، فتكون معارضة لإطلاق دليل لا ضرر وتمنع من الرجوع إليه، فيتم هذا الاعتراض .
وأمّا إذا قلنا أنّ هذا يوجب سقوط جميع المطلقات عن الحجّية، كل مطلق هو طرف في العلم الإجمالي لا تجري فيه أصالة الإطلاق؛ لأنّ أصالة الإطلاق فيه معارضة بأصالة الإطلاق في الباقي، وإجراء أصالة الإطلاق في الجميع غير ممكن؛ لأنّه مخالفة عملية قطعية للمعلوم إجمالاً، حيث أننا نعلم إجمالاً بأنّ بعضها مقيّد، وإجراء أصالة الإطلاق في البعض دون البعض ترجيح بلا مرجح، فتسقط جميع المطلقات عن الحجية، إذا سقطت جميع المطلقات عن الحجّية؛ حينئذٍ لا يكون هذا الاعتراض تاماً؛ لأنّ المطلقات سقطت عن الحجية، فيسلم إطلاق لا ضرر عن المعارض، فيجوز الرجوع إليه .
إذن: القضية مبنية على تحقيق هذه الجهة التي تُذكر في مكانٍ آخر، وهي : المطلقات عندما تتعارض فيما بينها بسبب العلم الإجمالي بتقييد بعضها غير المعيّن . في هذه الحالة هل تسقط هذه المطلقات عن الحجية جميعاً، أو لا ؟ إذا قلنا بسقوطها جميعاً عن الحجية، فيتم الوجه الرابع ولا يرد عليه هذا الاعتراض، فيجوز الرجوع إلى إطلاق دليل لا ضرر بعد سقوط المطلقات بالتعارض. وأمّا إذا قلنا بعدم سقوط هذه المطلقات عن الحجية جميعاً، وإنّما يبقى البعض غير المعيّن على حجيته، وهذا البعض يعارض إطلاق لا ضرر، ويمنع من الرجوع إليه، فيكون الاعتراض تامّاً .
بالنسبة إلى أصل توجيه الوجه الرابع، الوجه الرابع كان يعاني من مشكلة، وهي أنّه لا يثبت لنا ما نريد وهو العمل بإطلاق لا ضرر في جميع الموارد سواء كان في مقابله دليل مطلق إطلاقه ثابت بالوضع، أو في مقابله دليل إطلاقه ثابت بمقدّمات الحكمة . نحن نريد نقدّم دليل لا ضرر على الجميع، فلا نلاحظ أنّ دليل التكليف هل يدل على التكليف في مورد الضرر بالعموم أو بالإطلاق، وإنّما مباشرةً نقدّم دليل لا ضرر على دليل التكليف، الوجه الرابع لا يستطيع أن يثبت هذا؛ لأنّه يعتمد على مسألة اللّغوية وبقاء لا ضرر بلا مورد.
قد يقال: يكفي لدفع هذا المحذور أن نلتزم بتقديم لا ضرر على خصوص ما إذا كان الدليل المثبت للتكليف في مقابل لا ضرر عمومه ثابت بمقدّمات الحكمة فقط، وأمّا إذا كان عموم الدليل المثبت للتكليف لمورد الضرر ثابت بالوضع؛ فحينئذٍ نقدّمه على قاعدة لا ضرر . وبناءً على هذا لا يلزم إلغاء قاعدة لا ضرر وبقائها بلا مورد؛ بل يبقى لها مورد وهو جميع المطلقات .
فإذن: هذا الدليل لا يستطيع أن يثبت تقديم قاعدة لا ضرر على جميع الأدلة المثبتة للتكليف، وترميمه كان بالاستعانة بالنصوصية بأن يقال: (قاعدة لا ضرر نص في نفي الحكم الضرري في الجملة، وبنحو القضية المهملة، هذه النصوصية صارت منشئاً للعلم الإجمالي بكذب بعض الإطلاقات والعمومات، أي أنّ عمومها لمورد الضرر مخالف للواقع؛ لأنّ قاعدة لا ضرر نص في أنّ بعض الأحكام الضررية منتفية، نفي الحكم الضرري، لكن في الجملة، فصارت سبباً لتشكيل العلم الإجمالي، وأطراف هذا العلم الإجمالي هي كل المطلقات وكل العمومات، تتعارض فيما بينها، تتساقط، فيُرجَع إلى إطلاق دليل لا ضرر، ويُتمسك بإطلاق دليل لا ضرر في جميع الموارد، وهي النتيجة المطلوبة لنا .
يمكن أن يقال في هذا التوجيه: هذا مبني على افتراض أنّ حديث لا ضرر له دلالتان، دلالة صارت سبباً في العلم الإجمالي، وبالتالي إيقاع التعارض بين المطلقات والعمومات المثبتة للتكليف، وله دلالة ثانية وهي دلالة إطلاقية يُرجع إليها بعد تساقط المطلقات والعمومات بالتعارض فيما بينها، فكأنّ حديث لا ضرر له دلالتان:
الدلالة الأولى: دلالة وضعية، مدلولها قضية مهملة، مفادها هو نفي الحكم الضرري في الشريعة المقدّسة في الجملة، وحديث لا ضرر نص في هذا المدلول .
الدلالة الثانية: دلالة إطلاقية ثابتة بمقدّمات الحكمة، مفادها هو نفي الحكم الضرري في جميع الموارد .
توجيه وتعديل الوجه الرابع يفترض أنّ الدلالة الأولى لحديث لا ضرر التي هي القضية المهملة توجب العلم الإجمالي بأنّ بعض الأدلة المثبتة للتكليف لم تبقَ على إطلاقها . وهذا العلم الإجمالي يصير سبباً للتعارض في نفس المطلقات والعمومات في الأدلة المثبتة للتكليف، وهذا التعارض بينها يوجب تساقطها، فإذا سقطت؛ فحينئذٍ يُرجع إلى الدلالة الثانية التي هي دلالة إطلاقية في حديث لا ضرر، فنرجع إلى إطلاق حديث لا ضرر ونتمسّك به لإثبات نفي الحكم الضرري في هذا المورد وذاك المورد و..........وهكذا. الكلام يقع في أنّ هذه الدلالة على القضية المهملة ـــــ ويُعبّر عنها بالنصوصية ــــــ ما هو جنسها ؟ أمّا الدلالة الثانية، فواضحة، وهي دلالة إطلاقية ثابتة بمقدمات الحكمة . الدلالة الأولى هل هي دلالة مستقلّة في قبال الدلالة الأولى ؟ بحيث يكون لحديث لا ضرر دلالتان مستقلتان، أحداهما الدلالة على القضية المهملة، والأخرى الدلالة على القضية المطلقة ؟ هل هذا هو المدعى ؟ أو أنّ المدعى هو أنّ هذه الدلالة ليست دلالة مستقلة في قِبال الدلالة الإطلاقية، وإنّما هي دلالة تضمنية، يعني ثابتة في ضمن الدلالة الإطلاقية . إذا كان المدعى أنّها دلالة مستقلة في قِبال الدلالة الإطلاقية، فيكون لحديث لا ضرر دلالتان . هل يمكن التصديق بهذا والالتزام به ؟ طبعاً مع الالتفات إلى أننا نتكلّم عن الدلالة في مرحلة الدلالة التصديقية ولا نتكلّم عن الدلالة التصورية، يعني أننا نتكلّم عن أنّ مفاد حديث لا ضرر هو نفي الحكم الضرري في الجملة على مستوى الدلالة التصديقية الجدّية، أنّ مراد المتكلّم هو نفي الحكم الضرري في الجملة؛ حينئذٍ يُطرح هذا السؤال: هل يمكن أن يكون للكلام الواحد على مستوى الدلالة التصديقية الجدّية النهائية ؟ أن يكون له دلالتان تصديقيتان جدّيتان بهذا الشكل ؟ بحيث يقال أنّ حديث لا ضرر له دلالتان تصديقيتان جدّيتان، إحداهما للدلالة على القضية المهملة، والأخرى على القضية المطلقة، فيقال حينئذٍ أنّ القضية الأولى توجب حصول العلم الإجمالي، وبالتالي تساقط المطلقات والعمومات فيما بينها، ثمّ يُرجَع إلى الدلالة الباقية التي هي الدلالة الإطلاقية، فيُتمسّك بها لإثبات نفي الضرر في جميع الموارد . هل يمكن أن يكون للدليل الواحد دلالتان تصديقيتان جدّيتان، أو أنّ كل دليل له دلالة تصديقية جدّية نهائية ؟ بناءً على هذا الفرض، هذا الكلام كأنه يفترض أنّ الكلام الواحد تكون له دلالتان تصديقيتان جدّيتان، بينما هذا الكلام لا يمكن قبوله، الكلام الواحد له دلالة تصديقية جدّية واحدة، ولا يكون له دلالتان تصديقيتان جدّيتان . هذا إذا قيل أنها دلالة مستقلة في قِبال الدلالة الإطلاقية .
وأمّا إذا قيل أنها دلالة تضمّنية ثابتة في ضمن الدلالة الإطلاقية؛ حينئذٍ نقول هذه ينبغي أن تسقط بسقوط الدلالة التي هي وقعت في ضمنها، وهذا واضح؛ لأنّ الدلالة التضمّنية تسقط بسقوط الدلالة المطابقية . فإذا كانت دلالة لا ضرر على القضية المهملة دلالة تضمنية ثابتة في ضمن الدلالة الإطلاقية؛ حينئذٍ بإمكان هؤلاء أن يقولوا أنّ هذه الدلالة الإطلاقية وقعت معارضة للمطلقات والعمومات الأخرى، فإذا كانت معارضة لها؛ فحينئذٍ سقوطها يستلزم سقوط هذه الدلالة التضمنية، فإذا سقطت الدلالة التضمنية؛ فحينئذٍ لا يمكن الاستناد إليها لإثبات تشكيل علم إجمالي، وبالتالي إيقاع التعارض بين المطلقات والعمومات في حدّ نفسها.
بعبارةٍ أخرى: أنّ كون هذه الدلالة تضمنية يمنعنا من أن ننظر إليها بنفسها ونرتب عليها الآثار، إلاّ في ضمن الدلالة الإطلاقية الثابتة للدليل؛ حينئذٍ تثبت الدلالة التضمنية. أمّا أن نقطع النظر عن الدلالة الإطلاقية والدلالة المطابقية ونلحظ الدلالة التضمنية بقطع النظر عن الدلالة المطابقية؛ بل ولو سقطت الدلالة المطابقية، هذا لا يجوز في الدلالة التضمنية، ففي محل الكلام يقال أنّ الدلالة الإطلاقية لحديث لا ضرر وقعت طرفاً للمعارضة مع إطلاق الأدلة المثبتة للتكليف؛ فحينئذٍ لابدّ من تساقطهما، وإذا سقطت الدلالة المطابقية لحديث لا ضرر لابدّ أن تسقط الدلالة التضمنية .
على كل حال، هذا المطلب ليس واضحاً بذاك الشكل وهي مسألة ترميم الوجه الرابع لإثبات أنّه وجه تام ــــــ بقطع النظر عن الاعتراضين الأول والثاني ــــــ لإثبات جواز الرجوع إلى حديث لا ضرر في جميع الموارد؛ بل يظهر أنّ الوجه الرابع بناءً على هذا الكلام، أساساً لا يكون تامّاً؛ لأنّ هذا التوجيه غير تام وبالتالي يرد عليه الإشكال المتقدّم وهو أنّ هذا الوجه الرابع يعجز عن إثبات ما نريده وما نريده هو التمسّك بحديث لا ضرر في جميع الموارد، سواء كان في قِباله عموم، أو كان في قباله إطلاق . الوجه الرابع يعجز عن إثبات ذلك لأنه يستند إلى مسألة الإلغاء واللّغوية وبقاء القاعدة بلا مورد.