الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
37/12/24
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
كان الكلام في الوجه الرابع لتقديم دليل لا ضرر على الأدلة العامّة المثبتة للتكليف، وذكرنا جواب السيد الخوئي(قدّس سرّه) عليه، وكذلك ذكرنا اعتراض السيد الشهيد(قدّس سرّه) على جواب السيد الخوئي(قدّس سرّه) .
تنبيه :
هنا يوجد تنبيه، وهو أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) عندما افترض أنّ عموم الدليل المعارض وشموله هو بالإطلاق؛ لأنّ هناك تعارض بين إطلاقين، إطلاق الدليل المثبت للتكليف، وإطلاق دليل لا ضرر، يعني إطلاقين ثابتين بمقدمات الحكمة. السيد الخوئي(قدّس سرّه) مباشرة افترض التساقط؛ وحينئذٍ قد يُسأل: لماذا لا نُعمِل قواعد باب الترجيح ؟ فهنا دليلان تعارضا، فلماذا لا نرجع إلى مرجّحات باب التعارض ؟
السيد الخوئي(قدّس سرّه) لديه إشكال في الرجوع إلى مرجحات باب التعارض في ما إذا كان المتعارضان ثابتين بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، يعني هو يرى أنّ مرجحات باب التعارض مختصّة بما إذا كان التعارض بالدلالة اللّفظية والوضع، عندما يكون هناك تعارض بين دليلين عامّين، وكل منهما عمومه ثابت بالوضع، تأتي مرجّحات باب التعارض، فترجّح هذا الموافق للكتاب، أو ترجّح هذا المخالف للعامة ......الخ . أمّا إذا كان إطلاق كلٍ منهما ثابت بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، هو يرى عدم شمول باب الترجيح لهما؛ ولذا انتقل إلى التساقط؛ لأنّه فرض إطلاقين، قاعدة لا ضرر فيها إطلاق، والمعارض كالدليل المثبت للتكليف كذلك فُرض أنّ عمومه بنحو الإطلاق ومقدّمات الحكمة، هو لا يرى أنّ دليل الترجيح بالمرجّحات المعروفة يشمل هذه الحالة؛ ولذا قال: (إذا كانا مطلقين، تساقطا) بالنتيجة هو يريد أن يقول أنّ تقديم بعض الأدلة على القاعدة دون البعض الآخر ليس ترجيحاً بلا مرجّح . هذا جوابه عن الوجه الرابع .
السيد الشهيد(قدّس سرّه) اعترض على هذا الجواب، بأنّه ليس جواباً عن أصل هذا الوجه، وإنّما هو دفع للمحذور الوارد على الاحتمال الثالث، لكنّه التزام بالمحذور الوارد على الاحتمال الثاني، بمعنى أنّ القاعدة حتى بناءً على ما قاله من أنّه إذا كان مقابله عموم، يتقدّم العموم على القاعدة، وإذا كان مقابل القاعدة إطلاق يتساقطان، بالنتيجة هذا يؤدي إلى سقوط القاعدة بالمرّة، إمّا بتقديم العام عليها، وإمّا بالتساقط، القاعدة تبقى بلا مورد، وهو معنى الإلغاء وهو المحذور الذي يترتّب على تقديم جميع الأدلة المثبتة للتكليف على القاعدة . السيد الشهيد(قدّس سرّه) يقول أنّ ما ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) أيضاً يؤدي إلى هذا المحذور؛ لأنّ القاعدة تبقى بلا مورد؛ لأنّه إن كان عموم المقابل لها ثابتاً بالوضع، يتقدّم على القاعدة، فلا يُعمل بها، وإن كان عمومه ثابتاً بالإطلاق، يتساقطان، وأيضاً لا يعمل بالقاعدة، فإذن: يلزم سقوط القاعدة رأساً، وعدم بقاء موردٍ لها، وهذا إلغاء للدليل، ويلزم لغويته، وبالتالي نقع في هذا المحذور . فإذن: هذا الجواب لا يصلح أن يكون جواباً عن هذا الوجه؛ لأنّ صاحب هذا الوجه يبقى مصراً على تعيّن تقديم القاعدة على جميع الأدلة؛ لأنّه لو لم نقدّم القاعدة على جميع الأدلة، يلزم محذور إلغاء القاعدة، فلابدّ من تقديم القاعدة على جميع الأدلة . وهذا هو أصل الوجه الرابع وهو تعيّن تقديم القاعدة على جميع الأدلة المثبتة للتكليف والأحكام الأولية . غاية الأمر هو بأصل الوجه قال إن لم نفعل ذلك، فإمّا أن نقدّم جميع الأدلة على القاعدة، فيلزم إلغاء القاعدة، أو نقدّم بعض الأدلة، فيلزم الترجيح بلا مرجّح . السيد الخوئي(قدّس سرّه) قال هذا الترجيح بلا مرجّح لا يلزم ، لكن مع ذلك يلزم إلغاء القاعدة، فيبقى الدليل على حاله، يقول: إمّا أنّ نقدّم القاعدة على جميع الأدلة، وإلاّ يلزم إلغاء القاعدة، سواء قدّمنا جميع الأدلة على القاعدة يلزم إلغاء القاعدة، أو قدّمنا بعض الأدلة على القاعدة، والتزمنا بالتساقط في البعض الآخر، أيضاً يلزم من هذا إلغاء القاعدة وبقاءها بلا مورد . ومن هنا يظهر أنّ جواب السيد الخوئي(قدّس سرّه) لا يدفع أصل الوجه؛ بل يبقى أصل الوجه على حاله، ويقول لابدّ من تقديم القاعدة على جميع الأدلة المثبتة للتكليف، فهذا لا يصلح أن يكون جواباً عن أصل الوجه الرابع .
لكن، هل هذا الجواب ودفع إيراد السيد الخوئي(قدّس سرّه) عن أصل الوجه الرابع يكفي لتتميم الوجه الرابع وجعله وجهاً تامّاً لإثبات تقديم القاعدة على الأدلة المثبتة للتكليف، أو لا؟
قد يقال: أنّ هذا لا يكفي لتتميم الوجه . حتى لو جاوبنا عن السيد الخوئي(قدّس سرّه)، وقلنا أنّ جوابه لم يصنع شيئاً؛ وإنّما نقل المحذور من مكان إلى مكان آخر، فبدلاً من محذور الترجيح بلا مرجح، وقعنا في محذور إلغاء القاعدة وبقائها بلا مورد ، لكن هذا هل يكفي لتتميم الدليل الرابع وإثبات أنّ القاعدة تتقدّم على جميع الأدلة المثبتة للتكليف ؟ ما نريد إثباته هو تقدّم القاعدة على جميع الأدلة المثبتة للتكليف، من دون فرقٍ بين أن يكون عموم هذه الأدلة وشمولها لمادة الاجتماع بالوضع، أو بالإطلاق . نحن عندما نقدّم دليل القاعدة لا نلاحظ أنّ الدليل المثبت للتكليف عمومه وضعي أو إطلاقي . دفع اعتراض السيد الخوئي(قدّس سرّه) بالبيان الذي ذكره السيد الشهيد(قدّس سرّه)، قد يقال أنّه لا يكفي لتتميم أصل الوجه لإثبات ما هو المقصود، وقلنا أنّ المقصود هو تقديم القاعدة على جميع الأدلة المثبتة للتكليف؛ لأنّه حينئذٍ بالإمكان أن يقال: إذا كان المحذور هو إلغاء القاعدة، أو إبقاءها بلا مورد؛ حينئذٍ بالإمكان أن نفر من هذا المحذور ولا نقع فيه، بأن نلتزم بأنّ عموم المعارض للقاعدة إذا كان عموماً وضعياً، فأنّه يتقدّم على القاعدة بأرجحيته، أو بأقوائيته، وأمّا إذا لم يكن وضعياً، هنا نلتزم بتقدّم القاعدة عليه فراراً عن الوقوع في محذور إلغاء القاعدة وبقائها بلا مورد .
إذن: الوجه الرابع حتى بعد دفع اعراض السيد الخوئي(قدّس سرّه) عليه ، فيه هذا النقص، هو يقول في الدليل: لابدّ من تقديم القاعدة على جميع الأدلة؛ لأنّ عدم تقديم الأدلة عليها يلزم منه إلغاء القاعدة، نقول له: إذا قدّمنا جميع الأدلة على القاعدة يلزم منه الوقوع في محذور إلغاء القاعدة وعدم بقاء مورد لها . أمّا إذا قدّمنا البعض، وهي العمومات فقط، والتزمنا في الإطلاقات بتقدّم القاعدة عليها، سوف لن يلزم هذا المحذور . وهذه النتيجة لا تنفعنا؛ لأننا نريد أن نثبت تقدّم القاعدة على جميع الأدلة حتى إذا كانت عمومات، ومن هنا يحتاج هذا الدليل إلى ترميم، يحتاج إلى أن نضم إليه شيئاً آخر لكي ينتج هذه النتيجة، وهذا الترميم يكون بهذا البيان، بأن يقال:
إنّ قاعدة لا ضرر بمفادها الذي هو نفي الحكم الضرري تكون نصّاً في نفي الحكم الضرري في الجملة في الشريعة المقدّسة بنحو الموجبة الجزئية، وهذا غير قابل لرفع اليد عنه؛ لأنّ دليل لا ضرر نصّ في ذلك، وإذا أردنا أن نتمم الوجه الرابع نفسّره بهذا التفسير: هو يقول أنّ دليل لا ضرر هو نصٌ وصريح في رفع الحكم الضرري في الجملة وبنحو الموجبة الجزئية، فإذا كان نصّاً في ذلك، هذا يوجب أن يشكل عندنا علماً إجمالياً بأنّ بعض الأدلة المثبتة للتكليف على الإطلاق، يعني حتى لو كان ضررياً، سواء كانت عمومات، أو كانت مطلقات، بعض هذه الأدلة كاذب، ومخالف للواقع؛ لأنّه لو كانت جميع هذه الأدلة مطابقة للواقع لكنا قد خالفنا ما هو صريح ونص في رفع بعض الأحكام الضررية . هذه النصوصية والصراحة في دليل لا ضرر توجب أن يحصل لنا علم إجمالي بكذب بعض المطلقات والعمومات المثبتة للتكليف مطلقاً؛ حينئذٍ أي دليل مثبت للتكليف، سواء كان عاماً أو خاصاً هو طرف من أطراف العلم الإجمالي، ويحتمل أن يكون هو المخالف للواقع، والدليل الثاني أيضاً يحتمل أن يكون هو المخالف للواقع...........وهكذا. وبالتالي هذا يوجب التعارض بين نفس الأدلة المثبتة للتكليف المطلقات والعمومات، وهذا التعارض ناشئ من أننا نعلم أنّ بعضها مخالف للواقع، ونطبّق قواعد باب العلم الإجمالي عليها؛ وحينئذٍ يقع التعارض فيما بينها، ولا يمكن تشخيص ما هو المخالف في مقابل غيره؛ فحينئذٍ لابدّ من الالتزام بالتساقط، هذه الأدلة المتعارضة نتيجة العلم الإجمالي الذي ذكرناه؛ حينئذٍ تتساقط، يعني لا يمكن الالتزام بهذا الدليل في مورده مهما كان عاماً، أو مطلقاً ، ولا بذاك الدليل ........وهكذا؛ لأنّ كل واحدٍ منها هو طرف للعلم الإجمالي، ويحتمل أن يكون مخالفاً للواقع، وبعد تساقط هذه الأدلة جميعاً، العمومات والمطلقات، يُرجَع إلى قاعدة لا ضرر، وبهذا توصلنا إلى الرجوع إلى القاعدة في جميع الموارد، سواء كان معارضها عاماً، أو مطلقاً، في جميع الموارد نرجع للقاعدة وهذا يعني أنّه عملنا بالقاعدة في جميع الموارد، وهذا هو المطلوب، لكن بعد ضميمة هذه النكتة، وإلاّ مجرّد الاقتصار على مسألة محذور إلغاء القاعدة وبقائها بلا مورد لا ينتج إلاّ عدم تقديم جميع الأدلة على القاعدة؛ لأنّ تقديم جميع الأدلة على القاعدة ينتج هذا المحذور ، لكنه لا ينتج لنا تقديم القاعدة على جميع الأدلة؛ لأننا لو بعّضنا والتزمنا بتقديم القاعدة على المطلقات وعدم تقديمها على العمومات؛ بل تقديم العمومات عليها، لما وقعنا في هذا المحذور، وهذا ليس هو ما نريد إثباته، فلابدّ من إضافة هذه النكتة الجديدة وهي مسألة النصوصية والصراحة في قاعدة لا ضرر، فإنّ هذه توجب حصول علم بكذب بعض الأدلة ومخالفة بعض هذه الأدلة للواقع، وهذا العلم الإجمالي يوجب وقوع التعارض في ما بين تلك الأدلة أنفسها بقطع النظر عن قاعدة لا ضرر، نفس هذه الأدلة كلّها عمومات كلّها مطلقات، هذا يثبت الحكم مطلقاً ولو كان ضررياً، وذاك يثبت الحكم مطلقاً ولو كان ضررياً......الخ. أنا أعلم أنّ بعضها غير مطابق للواقع؛ لأنّه لا يمكن أن تكون هذه الأدلة كلّها باقية على إطلاقها وعلى عمومها؛ لأنّ هذا يلزم منه مخالفة ما هو نص في أنّ بعض الأحكام الضررية مرفوعة، فإذن: لابدّ أن يكون بعض هذه العمومات ورد عليها التخصيص، وبعض هذه المطلقات ورد عليها التقييد، وليست باقية على عمومها، بعضها لا يشمل الحكم الضرري، إمّا بالتقييد أو بالتخصيص، لكننا لا نعلم ما هو ، يوجد علم إجمالي وكل الأطراف تكون طرف لهذا العلم الإجمالي، فتتعارض هذه الأدلة وتتساقط، فيُرجَع إلى قاعدة لا ضرر ويثبت المقصود بذلك . هذا هو توجيه الوجه الرابع لكي ينتج النتيجة المطلوبة في محل الكلام .
قد يقال: هناك مرحلة قبل أن نحكم بتساقط الأدلة المثبتة للتكليف المتعارضة نتيجة العلم الإجمالي والرجوع إلى قاعدة لا ضرر في جميع الموارد، قبل هذه لماذا لا نلتزم بتقديم العمومات على المطلقات ؟ بناءً على أنّ التعارض إذا حصل بين عام ومطلق، يُقدَم العام، باعتبار أنّ دلالته على العموم دلالة تنجيزية لا تتوقف على مقدّمة أخرى سوى الوضع المفروض وجوده في المقام، بينما دلالة المطلق على العموم دلالة تعليقية متوقفة على مقدمات الحكمة، وإحدى أهم مقدمات الحكمة هي عدم القرينة على الخلاف، حيث إذا كانت هناك قرينة على الخلاف؛ حينئذٍ لا ينعقد للمطلق إطلاق لوجود قرينة على الخلاف، فإذن: هو دلالته على العموم والشمول موقوف على مقدمات الحكمة وعلى عدم وجود قرينة على الخلاف والوضع يعتبر قرينة على الخلاف؛ ولذا عندما يتعارض دليلٌ عمومه عموم تنجيزي ثابت بالفعل مع دليل عمومه عموم تعليقي معلّق على عدم هذا، طبعاً هذا يتقدّم على ذاك؛ لأنّ هذا يكون رافعاً لموضوع الشمول والعموم في المطلق؛ لأنّ العموم والشمول موقوف على عدم القرينة على الخلاف، والدليل الوضعي يعتبر قرينة.
الإشكال يقول: لماذا لا نطبّقها في محل الكلام ؟ ألست فرضت أنّ نتيجة العلم الإجمالي يقع التعارض بين الأدلة المثبتة للتكليف بأنفسها ؟ هذه الأدلة المثبتة للتكليف الشاملة لعمومات مثبتة للتكليف، ومطلقات مثبتة للتكليف، هذه نعلم إجمالاً أنّ بعضها كاذب مخالف للواقع، فيقع التعارض فيما بينها، لماذا التزمنا بالتساقط والرجوع إلى قاعدة لا ضرر ؟ لماذا لا نقدم العمومات على المطلقات باعتبار أننا فرغنا عن أنّ العام يتقدّم على المطلق.
أجيب عن هذا الإشكال: بأنّ هذا التقديم ــــــ تقديم العام على المطلق ــــــ يلتزم به عندما يكون التعارض بين الدليلين تعارضاً ذاتياً، للنكتة التي ذكرناها وهي أنّ دلالة العام تنجيزية بينما دلالة المطلق تعليقية، فتكون دلالة المطلق على العموم معلّقة على عدم وجود قرينة على الخلاف، وهذا يصلح أن يكون قرينة على الخلاف، وبهذا يتقدّم العام على المطلق، أمّا عندما يكون التعارض بينهما ليس ذاتياً، لا يوجد تعارض ذاتي بين دليلين أحدهما يقول يجب الوضوء، ويدل على وجوب الوضوء حتى إذا كان ضررياً بالعموم، ودليل آخر يدل على لزوم المعاملة حتى إذا كان لزوم المعاملة ضررياً، لكن بالإطلاق، لا يوجد تعارض ذاتي بينهما، لوضوح إمكان الالتزام بكلٍ منهما . وإنّما التعارض بينهما عرضي، والتنافي بينهما بالعرض وليس بالذات، بمعنى أنّه نتيجة تشكّل العلم الإجمالي الذي ذكرناه والذي نشأ من افتراض نصوصية لا ضرر في رفع بعض الأحكام الضررية في الشريعة المقدّسة، من هنا نشأ علم إجمالي، هذا العلم الإجمالي هو الذي أوجب التعارض بين هذه الأدلة، حيث التنافي والتعارض بين هذه الأدلة ليس ذاتياً، وإنّما هو بالعرض، مثل هذا التنافي والتعارض بالعرض الناشئ من تشكل العلم الإجمالي لا يُقدّم فيه العام على المطلق، وبهذا نصل إلى النتيجة التي قلناها، وهي أنّه في المقام لابدّ من الالتزام بتساقط هذه الأدلة باعتبار التعارض والرجوع إلى قاعدة لا ضرر في جميع الموارد، وهذا هو المطلوب . هذا هو توجيه الوجه الرابع لكي ينتج النتيجة المطلوبة .