الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
37/12/23
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
كان الكلام في الوجه الثالث لتقديم دليل لا ضرر على الأدلة العامّة المثبتة للتكليف، وانتهى الكلام إلى ما ذكره السيد الشهيد(قدّس سرّه) من أنه يمكن تصحيح هذا الوجه ودفع الجواب الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) بافتراض أنّ الشارع سنخ متكلّمٍ يقطّع الكلام الواحد، هو بانٍ على فصل المتصلات وتقطيع الكلام الواحد، الكلام واحد والمطلب واحد، لكن هو يذكر العام في وقتٍ ويذكر الخاص في وقتٍ آخر، ديدنه جرى على ذلك، بحيث أنّ العرف يرى الفواصل كلا فواصل، الفواصل الزمنية معدومة بين هذه الأدلة، فيكون هذا الخاص المتأخّر الذي يوجد بينه وبين العام فاصل زماني، بمنزلة المتصل، وإن لم يكن متصلاً بحسب عالم الأصوات، لكنه متصل حقيقة بحسب عالم اللّغة وفهم المراد، فإذا كان متصلاً بالعام؛ فحينئذٍ يكون حكمه حكم المتصل، فإذا كان الخاص المتصل حقيقة وبحسب عالم الأصوات مقدّماً على العام، ويعتبر قرينة للتصرّف في العام، هذا الخاص المنفصل أيضاً كذلك، وهذا معناه أننا لا نفترض الاتصال بين دليل لا ضرر وكل واحدٍ من الأدلة العامّة المثبتة للتكليف، وإنّما نفترض الاتصال بين دليل لا ضرر وبين جميع هذه الأدلة، فكل هذه الأدلة ودليل لا ضرر متصل بعضها ببعض؛ وحينئذٍ إذا وصلنا إلى هذه النتيجة، يقدّم لا ضرر على أساس أنه قرينة للتصرّف في كل واحدٍ من هذه الأدلة .
هذا الشيء الذي ذكره، لا أظن أنه ذكره على نحو التبني والالتزام به، احتمل ـــــ والله العالم ـــــ أنه ذكره كاحتمال، بمعنى أنه يمكن توجيه هذا الوجه الثالث لتقديم الخاص ودفع الإيراد الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) عنه بهذا التوجيه، لكن بناءً على أنّ العرف يعتبر الفواصل الزمنية بين الخطابات الشرعية بحكم العدم، بناءً على هذا؛ حينئذٍ يمكن توجيه هذا الوجه الثالث، يمكن أن يكون هذا الوجه تامّاً بناءً على أنّ الشارع سنخ متكلّم يقطّع في الكلام الواحد ويفصل بين المتصلات . بناءً على هذا؛ حينئذٍ يندفع جواب السيد الخوئي(قدّس سرّه) ويكون الوجه الثالث تاماّ .
لكن ليس واضحاً أنه يتبنى ذلك؛ لأنّه في بحث التعادل والتراجيح هناك تعرّض إلى هذا المطلب، وذكر هذا كافتراض، يعني افتراض أنّ المتكلم نصب قرينة على أنه يقطّع بالكلام الواحد، أو علمنا أنّ هذا المتكلّم كما ذكر أمثلة، يبيّن مطلباً واحداً، وعنده شيء واحد يريد بيانه، لكنّه فصل بينه لحادث قهري، كالسعال ــــــ مثلاً ــــــ أو كان الأستاذ يحاضر، لكن المطلب الواحد يبينّه في ثلاث محاضرات . هنا يقول: لو فرضنا أنّ المتكلّم كان من هذا القبيل؛ حينئذٍ يأتي فيه هذا الكلام، لكن لم يذكر أنّ الشارع هو من هذا القبيل؛ بل ذكر فرضاً آخراً، الفرض الأخير الذي ذكره هو ما إذا لم تقم قرينة حال ولا قرينة مقال على أنّ المتكلّم هو من هذا القبيل، وتكلّم عن ما هو الوجه في تقديم الخاص على العام في ذلك الفرض، فيبدو أنّه هو لا يتبنى هذا، وإن كان هو في نهاية ذلك البحث ذكر بأنّ الفروض التي ذكرناها، تطبيقها على كلام الشارع لا ندخل في تفاصيله، هل الشارع هو من قبيل المتكلّم الذي له طريقة خاصّة في الكلام ؟ يُفرّق بين المتصلات ، أو أنه ليس كذلك ؟ يقول: نحن لا تدخل في هذه التفاصيل؛ لأنّ النتيجة واحدة؛ لأننا على كل التقادير نقدّم الخاص المنفصل على العام، وذكر وجهاً للتقديم مذكور في محله لا داعي للدخول في تفاصيله، لكنه قال أنّ النتيجة واحدة، يعني سواء كانت الخطابات الشرعية هي من هذا القبيل، أو لم تكن من هذا القبيل، الخطاب الخاص المنفصل يتقدّم على العام على كل حال، ولا ندخل في تفاصيل أنّ الشارع هل هو سنخ متكلّمٍ يقطّع بين المتصلات، أو لا ؟ لم يدخل في تفاصيلها . على كل حال، يمكن أن يقال أنّه (قدّس سرّه) ذكر هذا بعنوان احتمال، لا بعنوان الالتزام بذلك . وسواء التزم به، أو لا ، الظاهر من الصعوبة بمكان أن نلتزم بهذا المطلب، وهو أن نقول: أنّ الشارع جرت عادته وديدنه على فصل المتصلات بحيث يكون الفصل الزمني بين خطاباته كلا فصل، ويكون حاله حال المتكلّم الذي أخذته نوبة من السعال، ثمّ استأنف كلامه، باعتبار أنّ الخاص حينئذٍ يكون بحسب عالم اللغة، وبحسب عالم فهم المراد، متصلاً حقيقة بالعام المتقدّم، وإنّ كان بحسب عالم الأصوات هو منفصل عنه . هذا المطلب من الصعب جداً أن نلتزم به ونقول أنّ الشارع في خطاباته هو من هذا القبيل؛ لأنّ القضية إذا وصلت إلى هذه الدرجة، فهذا له لازم، وهو أن نلتزم بأنّ القرينة المنفصلة هادمة لأصل الظهور لا أنّها تهدم حجية الظهور؛ بل تهدم أصل الظهور كما هو الحال في القرينة المتصلة، كما أنّ القرينة المتصلة تكون رافعة لأصل الظهور بحيث أنّ العام أصلاً لا ينعقد له ظهور في العموم، وإنّما ينعقد له ظهور في ما عدا الخاص المتصل به . إذا قلنا أنّ الخاص المنفصل في الخطابات الشرعية هو بمثابة الخاص المتصل، فهذا معناه أنّ الخاص مطلقاً والقرينة مطلقاً، سواء كانت متصلة، أو كانت منفصلة تكون هادمة لأصل الظهور، بمعنى أنّ العام لا ينعقد له ظهور أصلاً إلاّ في ما عدا الخاص، ولو كان الخاص منفصلاً، هذه النتيجة لابدّ أن نلتزم بهذا اللازم، وهو لا يلتزم به، ويفرّق بين القرينة المنفصلة والقرينة المتصلة، القرينة الهادمة للظهور هي القرينة المتصلة، أمّا القرينة المنفصلة، فلا تكون هادمة لأصل الظهور، وإنّما هي تُعارض العام في الحجية، يعني هي تتقدم عليه في الحجية لا أنّها تكون رافعة لأصل ظهوره .
وهناك لوازم أخرى أيضاً تتقدّم على هذا من قبيل ـــــ مثلاً ـــــ مسألة انقلاب النسبة التي لا يؤمن بها، ينبغي يناءً على هذا الكلام أن نلتزم بانقلاب النسبة؛ لأنّ المخصص لأحد العامّين من وجه بناءً على هذه النظرية سوف يكون رافعاً لأصل ظهور هذا العام من أساسه، بحيث لا ينعقد لهذا العام ظهور في العموم والشمول، وإنّما ينعقد له ظهور في ما عدا الخاص، وإذا كان أصل ظهوره في ما عدا الخاص بطبيعة الحال يكون أخص مطلقاً من العام الآخر، فيخصصه، وهذا هو معنى نتيجة انقلاب النسبة ، وهو لا يلتزم بذلك، هو يرى أنّه بالرغم من تخصيص العام الأول بالمخصص، لكن النسبة بين العامين من وجه تبقى على حالها لا تتغير، بينما بناءً على هذا لابدّ أن تتغيّر؛ لأنّ المخصص لأحد العامّين من وجه بعد افتراض كونه بحكم المتصل ويكون هادماً لأصل الظهور . إذن: هذا العام الأول لا ينعقد له ظهور إلا في ما عدا الخاص ، أصلاً لا ينعقد له ظهور في العموم والشمول، فتكون النسبة بينه وبين العام الآخر الباقي على عمومه هي نسبة الخاص إلى العام لا نسبة العامين من وجه، فلابدّ أن يكون مخصصاً له وهو بحسب النتيجة هي نفس نتيجة انقلاب النسبة .
إذن: مسألة أنّ ديدن الشارع وعادته جرت على تقطيع المتصلات، بمعنى أنّ الشارع له كلام واحد يتضمّن مطلباً واحداً، هو يقطع في هذا الكلام الواحد، جرت عادته على أن يذكر العام في وقت آخر، مع كونهما كلاماً واحداً يتضمّن مطلباً واحداً، هذا من الصعب تصديقه؛ إذ لا دليل عليه ولا قرينة. نعم، الشيء المسلّم والذي لا يمكن التشكيك به هو وجود المخصصات المنفصلة، لكن هذا لا يعني تقطيع الكلام الواحد، وإنّما يعني أنّ هناك كلامين منفصلين، أحدهما عام والآخر خاص، لكنّهما كلامان لا أنّه كلام واحد وهو فرّق بينهما؛ بل عند الشارع كلامان وله مطلبان قال أحدهما في وقتٍ، وقال الآخر في وقتٍ آخر، وهذا هو معنى القرائن المنفصلة والمخصصات المنفصلة، لا يمكن إنكار أنّ الشارع جرت عادته على أن يذكر العام، ثمّ يذكر مخصصات له، لكن هذا لا يعني التقطيع في الكلام الواحد، الذي يراد إثباته في المقام هو أنّ هذا الخاص في الكلام الواحد هو أساساً متصلٌ بالعام، لكن الشارع جرت عادته على التقطيع، فإذن: هو بحكم المتصل. هذا هو الذي نقول أننا لا نسلمه، وأمّا أن يكون للشارع مخصصات منفصلة، هذا لا جدال فيه، ما أكثر المخصصات المنفصلة، لكن هذا لا يعني التقطيع في الكلام الواحد، وإنّما يعني أنّ هناك كلامان للشارع، تارة يقول: (أكرم العلماء) هذا كلام، وهناك كلام آخر للشارع هو (لا تكرِم فساق العلماء) كلامان مستقلان، والنسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص المطلق، لكن هذا لا يعني أنّهما كلام واحد ومطلب واحد والشارع قطّعه وفصّله إلى أجزاء وجعل بينها فواصل زمنية بحيث أنّ العرف يلغي هذه الفواصل الزمنية ويعتبرها أنّها بمثابة عدم الفواصل .
على كل حال، من هنا يظهر أنّه لا وجه لفرض الاتصال بين دليل لا ضرر وبين الأدلة العامّة المثبتة للتكليف حتى يتقدّم عليها دليل لا ضرر بهذا الوجه؛ لأنّه ــــــ نرجع إلى نفس المطلب السابق ــــــ دليل لا ضرر ينبغي أن تُلحظ نسبته إلى كل واحدٍ واحدٍ من هذه الأدلة والنسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص من وجه، فما هو وجه التقديم ؟ وأمّا مسألة أنّ هذه كلّها نجمعها في ما نسميه بمجموع الأدلة، هذا يرِد عليه إشكال السيد الخوئي(قدّس سرّه) وهو أنّه ليس لدينا دليل يُسمّى بمجموع الأدلة حتى نلحظ النسبة بينه وبين دليل لا ضرر، ونقول أنّ النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص المطلق.
نعم، يمكن توجيه هذا الوجه الثالث، وإن كان لا يخلو من بعد، توجيهه بما يرجع إلى الحكومة ــــــ التي سيأتي الحديث عنها، أحد الوجوه الآتية في التقديم هو مسألة الحكومة ــــــ وهو أن يقال: أنّ تقديم دليل لا ضرر على الأدلة العامّة المثبتة للتكليف ليس مبنياً على أساس ملاحظة النسبة بينه وبين مجموع الأدلة كما ذُكر في أصل الوجه الثالث كي يرِد عليه إشكال السيد الخوئي(قدّس سرّه)، وإنّما المقصود أنّ مفاد دليل لا ضرر هو نفي الحكم الضرري، فحينما ينفي الحكم الضرري هو في الحقيقة لا يكون ناظراً إلى تفاصيل الأحكام الضررية، وإلى أدلة كل حكم ضرري على حِدة، وإنّما هو ينفي واقع الحكم الضرري من دون أن يتعنون بعنوان معيّن، فيقول: أنا أنفي كل حكمٍ ضرري، وليس ناظراً إلى أنّ هذا الحكم الضرري هو وجوب الوضوء الثابت بهذا الدليل، وجوب الغسل الثابت بذاك الدليل، هذه الخصوصيات كلّها ملغية في مقام نظر دليل لا ضرر إلى الأحكام الضررية، هو ينظر إلى واقع الحكم الضرري، فإذن: ما ينفيه دليل لا ضرر هو عبارة عن كل حكم يكون ضررياً، نستطيع أن نقول أنّ دليل لا ضرر بناءً على هذا يكون ناظراً إلى جميع الأحكام الضررية نظرة إجمالية لا نظرة تفصيلية بحيث تكون العناوين مأخوذة بنظر الاعتبار، كلا ، كل حكمٍ ضرري في الشريعة يكون منفياً بدليل لا ضرر . فمن هنا يكون هو ناظراً إلى جميع التكاليف، جميع الأدلة المثبتة للتكاليف الشرعية، وهذا يرجع في الحقيقة إلى الحكومة التي سيأتي الحديث عنها . يمكن توجيه هذا الوجه الثالث بهذا، لكنّه يوجب إدخاله في وجهٍ آخر يأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى .
الوجه الرابع: أن يقال أنّ الأمر في المقام، عندما نواجه مشكلة أنّ النسبة بين دليل لا ضرر والدليل المثبت للتكليف هي نسبة العموم والخصوص من وجه، فلماذا نقدّم دليل لا ضرر على الدليل المثبت للتكليف ؟ لماذا لا نعكس، بأن نقدّم الدليل المثبت للتكليف على دليل لا ضرر ونلتزم بثبوت الحكم الضرري ؟
هذا الوجه يقول: أنّ الأمر في الحقيقة يدور بين ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول: أن نقدّم دليل لا ضرر على جميع الأدلة المثبتة للتكاليف . وهذا الاحتمال هو الذي يُراد إثباته .
الاحتمال الثاني: أن نقدّم جميع الأدلة العامّة المثبتة للتكليف على دليل لا ضرر ، فبالنتيجة نلتزم بوجوب الوضوء الضرري، وبوجوب الغسل الضرري و.........الخ .
الاحتمال الثالث: أن نقدّم بعض تلك الأدلة العامّة المثبتة للتكليف على دليل لا ضرر ، ولا نقدّم بعضها الآخر عليه .
يلزم من الاحتمال الثالث محذور الترجيح بلا مرجّح، يعني لماذا نقدّم بعض الأدلة العامّة المثبتة للتكليف على دليل لا ضرر دون بعض ؟ ما هو الموجب لهذا الترجيح، فيلزم منه هذا المحذور الذي ذكرناه . أمّا الاحتمال الثاني فمحذوره هو أنّه يلزم منه إلغاء دليل لا ضرر، بمعنى أنّه لن يبقى مورد لدليل لا ضرر أصلاً، وهذا يعني لغوية هذا الدليل؛ وحينئذٍ يتعين الاحتمال الأول، فوضلنا إلى النتيجة، وهي أنّ دليل لا ضرر يتقدّم، لكن تقدّمه لا بالأخصّية ولا بالأظهرية، وإنّما يتقدّم بنكتة أنّ عدم تقديمه يستلزم إمّا الوقوع في محذور الترجيح بلا مرجّح، وإمّا محذور أن يبقى دليل لا ضرر بلا موردٍ ، بينما إذا قدّمنا دليل لا ضرر على الأدلة العامّة المثبتة للتكليف لا يلزم هذا المحذور؛ لأنّ الأدلة العامّة المثبتة للتكليف يبقى لها مورد عندما نقدّم دليل لا ضرر عليها، يبقى وجوب الوضوء في حالة عدم كونه ضررياً، وهكذا سائر الأدلة الأخرى . العكس يلزم منه إلغاء دليل لا ضرر وإبقائه بلا مورد، فيتعيّن أن يقال أنّ دليل لا ضرر يتقدّم على جميع الأدلة العامّة المثبتة للتكليف.
أجاب السيد الخوئي(قدّس سرّه) [1] عن هذا الوجه بأنّ الدليلين المتعارضين بنحو العموم من وجه، مرّة نفترض أنّ العموم في أحدهما يكون مستنداً إلى الوضع، ويكون العموم في الآخر مستنداً إلى مقدّمات الحكمة؛ حينئذٍ يقدّم ما يكون عمومه بالوضع على ما يكون عمومه بمقدمات الحكمة . وهذا التقديم يكون واضحاً؛ لأنّ الأرجحية تكون للعموم الوضعي على العموم الإطلاقي، وهذا ثابت في محله، فيقدّم ما يكون عمومه بالوضع على العام الآخر . وإذا كان كل منهما عمومه ثابت بمقدّمات الحكمة، في هذه الحالة لا توجد أرجحية، يتعارضان ويتساقطان؛ وحينئذٍ يُرجع إلى دليلٍ آخر، إمّا عموم وإطلاق، وإذا لم يكن هناك إطلاق وعموم فوقاني نرجع إلى الأصول العملية . يقول (قدّس سرّه) : بعد بيان هذه الكبرى الكلية؛ حينئذٍ نقول: في محل الكلام لابدّ من النظر إلى الدليل المعارض لدليل لا ضرر الذي هو الدليل المثبت للحكم الضرري بنحو الإطلاق . إذا كان عموم هذا الدليل بالإطلاق؛ حينئذٍ يسقط الظهوران؛ لأنّ عموم دليل لا ضرر أيضاً بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، فيسقط الظهوران ويرجع حينئذٍ إلى الأدلة الأخرى . وأمّا إذا كان عموم هذا المعارض ثابت بالوضع؛ حينئذٍ يتقدّم هذا الدليل على دليل لا ضرر؛ وحينئذٍ لابدّ من التفكيك بين الموارد، وهذا التفكيك إذا توصّلنا إليه لا يلزم منه محذور الترجيح بلا مرجّح؛ وذلك لوجود المرجّح، وهو أنّ هذا المعارض عمومه عموم وضعي في حين أنّ عموم لا ضرر عموم إطلاقي، والعموم الوضعي يتقدّم على العموم الإطلاقي، بينما ذاك الدليل عمومه إطلاقي، فلا يتقدّم على دليل لا ضرر . هذا التفكيك والتبعيض الذي هو الاحتمال الثالث من الاحتمالات التي ذكر أنّ الأمر يدور بينها، وهو أن نقدّم بعض الأدلة العامّة المثبتة للتكليف على دليل لا ضرر دون بعضٍ، وكان المحذور الذي يلزم منه هو لزوم الترجيح بلا مرجح . السيد الخوئي(قدّس سرّه) يقول لا يلزم منه ذلك .
لكن السيد الشهيد(قدّس سرّه)[2] اعترض على هذا الجواب: بأنّ هذا الجواب لا يحل المشكلة؛ لأنّ هذا الجواب بالنتيجة يغيّر المحذور من كونه محذور الترجيح بلا مرجّح إلى المحذور الذي يلزم من الاحتمال الثاني والذي هو أنه إذا قدّمنا جميع الأدلة العامّة المثبتة للتكليف على دليل لا ضرر يلزم منه لغوية قاعدة لا ضرر، فهو قد فرّ من محذور الاحتمال الثالث، لكنه وقع في محذور الاحتمال الثاني؛ لأنّه بالنتيجة بناءً على ما ذكره سوف تتقدّم جميع الأدلة العامّة المثبتة للتكليف على دليل لا ضرر، إمّا باعتبار أنّ عمومها عموم وضعي فتتقدّم عليه، وإمّا بالتساقط ، بالنتيجة سوف يبقى لا ضرر بلا مورد؛ لأنّه إمّا يسقط دليل لا ضرر بالمعارضة مع مثله بالمعارضة إذا كان عمومه عموم إطلاقي، وسوف لن نعمل بدليل لا ضرر، وإمّا أن يتقدّم الدليل المثبت للتكليف إذا كان عمومه عموماً وضعياً على دليل لا ضرر، فبالنتيجة يبقى لا ضرر بلا مورد، ويلزم منه لغوية دليل لا ضرر، فوقعنا في محذور الاحتمال الثاني .
لكن بالرغم من هذا، هل يمكن على أساس ما ذكره السيد الشهيد(قدّس سرّه) تتميم الدليل الرابع ؟ يعني أن نقول أنّ الدليل الرابع تام بمجرّد أن نقول بأنّ ما ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) إنّما هو دفع للمحذور الذي يرِد على الاحتمال الثالث، لكنّه يثبت به المحذور الوارد على الاحتمال الثاني ؟
وبعبارة أخرى: إنّ بطلان الاحتمال الثالث والاحتمال الثاني هل يكفي لتثبيت الاحتمال الأول الذي هو المطلوب في المقام ؟