الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/11/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

 

التنبيه الثالث: في توجيه تطبيق القاعدة على مسألة منع فضل الماء كما ورد في رواية عقبة بن خالد التي رواها الشيخ الكليني بالسند المتقدّم، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عبدالله بن هلال، عن عقبة بن خالد، عن ابي عبدالله(عليه السلام) قال: (قضا رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين أهل المدينة في مشارب النخيل، أن لا يُمنع نقع البئر، وقضا بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ، وقال: لا ضرر ولا ضرار) .

وتقدّم سابقاً أنّ الحديث غير تام سنداً بكل من عن عقبة بن خالد، ومحمد بن عبد الله بن هلال، حيث أنّ كلاً منهما لم تثبت وثاقته . نقع البئر: ورد في بعض الكتب، لعلّه في الكافي، بدل البئر، نقع الشيء، لكن الظاهر أنّه اشتباه، أو خطأ، والظاهر أنّ المقصود به هو البئر، والمراد بنقع البئر هو فضل ماء البئر، باعتبار أنه يروي العطش وينقع العطش، فمن هنا قيل له نقع البئر. وأمّا قوله (لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ) أحسن ما قيل في تفسيره هو أنّ الرجل إذا كان له بئر يختص به، وكان حول البئر عشب ترعى فيه الأغنام، هذا العشب والكلأ مباح وليس ملكاً له، وإنّما هو يملك البئر فقط، لكنّ هذا الرجل يريد أن يختص بالعشب كما اختص بماء البئر؛ حينئذٍ هو يمنع فضل الماء ولا يسمح للغير بأن يستقوا منه لأنفسهم ولماشيتهم؛ لأجل أن يمنع العشب والكلأ به؛ لأنّ الغنم بحاجة إلى الماء إذا رعت وأكلت العشب، أصلاً لا يمكنها أن ترعى من دون ماءٍ، فإذا منع منهم الماء؛ حينئذٍ يضطر الغير إلى الانتقال إلى مكان آخر؛ وحينئذٍ يضطر الغير إلى الانتقال إلى مكانٍ آخر؛ فحينئذٍ يتحقق غرضه وهو الاختصاص بالعشب والكلأ أيضاً. هو ابتداءً غير قادر على منع الغير من العشب؛ لأنه ليس مملوكاً له، فيتّخذ هذه الوسيلة لكي يمنع الغير من هذا العشب والكلأ .

الكلام يقع في الارتباط بين مسألة منع فضل الماء وبين لا ضرر ولا ضرار الواردة في نفس الحديث . هل هناك ارتباط بينهما، أو ليس هناك ارتباط بينهما، وإنّما هما أمران مستقلان ولا علاقة لأحدهما بالآخر، وإنما جمع الراوي بينهما.

هنا يأتي نفس الكلام السابق، الظهور الأولي لهذه الرواية هو أنّ هناك ارتباطاً ما بين منع فضل الماء وبين لا ضرر ولا ضرار، سواء كان الجامع بينهما هو النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونقله إلينا الإمام الصادق(عليه السلام) بواسطة هذا الراوي، أو كان الجامع بينهما هو الإمام الصادق(عليه السلام). على كلا التقديرين ظاهر الرواية هو وجود ارتباط بين الأمرين.

نعم، لو كان الجامع بينهما هو الراوي مع كونهما منفصلين مستقلّين في حديث النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وفي حديث الإمام الصادق(عليه السلام)، وإنّما جمع الراوي بينهما؛ حينئذٍ لا يكون هناك ظهور في الارتباط بين الأمرين، وإنّما تكون جملة (لا ضرر ولا ضرار) جملة مستقلة منفصلة لا علاقة لها بمسألة منع فضل الماء. لكن تقدّم سابقاً أنّ هذا الاحتمال ضعيف؛ لأنّه لو كان عقبة بن خالد يروي لا ضرر ولا ضرار مستقلة منفصلة لا ارتباط لها بمسألة منع فضل الماء؛ فقد تقدّم سابقاً أنه حينئذٍ لا داعي لتكرار نفس هذه العبارة في مسألة الشفعة؛ لأنّه نقلها هنا مستقلة منفصلة كقاعدة عامّة؛ حينئذٍ لماذا يكررها في مسألة الشفعة ؟ تكرار لا ضرر ولا ضرار بعد حديث الشفعة، وبعد حديث منع فضل الماء لا يخلو من دلالة وظهور في وجود ارتباط بين لا ضرر ولا ضرار وبين المسألتين، مسألة حديث الشفعة ومسألة منع فضل الماء . هذا هو الظهور الأولي للرواية في أنّ هناك ارتباطاً بين الأمرين .

هنا أيضاً يأتي ما تقدّم من الأعلام الذين ينكرون الارتباط، هم كما أنكروا الارتباط في حديث الشفعة، أيضاً أنكروا الارتباط في محل الكلام . وذكرنا بعض الوجوه التي ذكروها لمنع الارتباط، ونفس الجواب أيضاً يأتي عنها. فهنا يظهر أنه لابدّ من الاعتراف بوجود ارتباط بين الأمرين بالنسبة إلى هذه الرواية .

بعد الفراغ عن وجود ارتباط بين الأمرين في محل الكلام؛ حينئذٍ يرد الإشكال في تطبيق القاعدة، كيف يمكن تصوّر تطبيق قاعدة لا ضرر ولا ضرار على مسألة منع فضل الماء ؟ الإشكال المذكور في كلامهم ذُكر بوجهين :

الوجه الأوّل: أنّ منع فضل الماء لا يُعد ضرراً بالغير، وإنّما هو مجرّد عدم إيصال النفع إليه؛ لأنّ البئر هو ملك شخصي له . صحيح هو لا يحتاج إلى كل ما في البئر من ماء، فهناك فضل من الماء لا يحتاجه، لكن هو مسلط عليه، ومقتضي الملكية هو أنه له أن يمنع الغير من الاستفادة منه، فإذا منع الغير من الاستفادة منه، منع فضل مائه عن الغير، لا يقال له أنّه أضر بالغير، وإنّما هو لم يوصل إليه النفع، فإذا منعنا من صدق الإضرار بالغير في هذه المسألة، حينئذٍ يُطرح هذا السؤال: وهو أنّه كيف يمكن تطبيق قاعدة لا ضرر ولا ضرار في محل الكلام ؟ والحال أنّ التطبيق يُشترط فيه أن يكون هناك ضرر وضرار، أي يُشترط أن يكون هناك إضرار، وفي المقام لا يترتب إضرار على منع الغير من فضل الماء حتى يقال أنّ هذا ضرر، فيندرج تحت كبرى لا ضرر ولا ضرار، واضح أنّ القاعدة إنّما تنطبق في مورد الضرر، أمّا حيث لا ضرر، فلا مورد للقاعدة حينئذٍ . وفي المقام لا يوجد ضرر في حق الغير، وإنّما هو مجرّد عدم إيصال النفع إليه وليس إضراراً، فما معنى تطبيق القاعدة في محل الكلام ؟!

الوجه الثاني: بقطع النظر عن هذا، فقهياً لم يلتزم أحد بمفاد الحديث، وهو النهي عن منع فضل الماء؛ لأنّ مفاد الحديث هو النهي، لا يمنع فضل ماءٍ، ليمنع فضل كلأ . لم يلتزم أحد بحرمة منع فضل الماء، لا أحد يقول بأنّ ما يملكه الإنسان ملكاً شخصياً يحرم عليه منع الغير منه، لا أحد يلتزم بذلك، وإنّما غاية ما التزموا به في المقام هو الكراهة، من يملك بئراً يُكره له منع غيره من فضل مائه، لا أنه يحرم عليه ذلك، كما أنّ لا أحد يلتزم بمفاد الحديث، هذا أيضاً يشكّل تساؤل آخر في كيفية تطبيق القاعدة في محل الكلام . المستفاد من الحديث هو التحريم.

وبعبارة أخرى: مقتضى تطبيق لا ضرر على مسألة منع فضل الماء هو تحريم منع الغير من فضل الماء، أمّا إذا قلنا بأنّ مفاد الحديث أساساً هو تحريم الضرر والضرار حرمة تكليفية، إذا قلنا بهذا المسلك، فهذا لا يعني أنّ معنى الحديث هو نفي الأحكام الضررية، وإنّما النهي عن الضرر والإضرار . إذا قلنا بهذا المفاد، فالتحريم يكون واضحاً، والإشكال يقول لا أحد يلتزم بتحريم منع فضل الماء كتطبيق لقاعدة لا ضرر . أمّا إذا قلنا بأنّ مفاد الحديث هو نفي الأحكام الضررية، أيضاً هنا نستفيد التحريم ؛ لأنّ الحكم الذي ينشأ منه الضرر ليس هو الإباحة، حتى نقول أنّ مقتضى تطبيق القاعدة عليه هو نفي الإباحة، وهذا لا يعني ثبوت التحريم، وإنّما الحكم الذي ينشأ منه الضرر هو الجواز بالمعنى الأعم الشامل للوجوب وللإباحة بالمعنى الأخص وللكراهة وللاستحباب، هذا هو الذي ينشأ منه الضرر، فإذا طبّقنا لا ضرر عليه وفرضنا أنّ مفاد لا ضرر هو نفي الحكم الضرري ، يعني نفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر، لازم ذلك هو انتفاء الجواز بالمعنى الأعم، وإذا انتفى الجواز بالمعنى الأعم يثبت التحريم. إذن: مفاد الحديث هو التحريم، يعني مفاد الحديث باعتبار أنه يطبق قاعدة لا ضرر على مسألة منع فضل الماء هو حرمة منع فضل الماء، وهذا لم يلتزم به أحد، الإشكال يقول: أنّهم لم يلتزموا بالتحريم، وإنّما غاية ما التزموا به هو استحباب إعطاء فضل الماء، أو كراهة منع فضل الماء . هذا الوجه الآخر للإشكال .

هذا الإشكال لهم أجوبة عليه، نستعرض هذه الأجوبة:

الجواب الأول: بناءً على تفسير الحديث بما تقدّم من أنّ المقصود هو الرجل الذي يملك بئر الماء ويفيض عن حاجته، ويمنع الغير من الاستفادة من فضل الماء؛ ليمنع الكلأ عنهم، باعتبار حاجة الماشية إلى الماء عندما ترعى في العشب؛ حينئذٍ يمكن افتراض تحقق الإضرار، يعني ليس من الصحيح أن نقول أنّ منع فضل الماء في حالة من هذا القبيل ليس فيه إضرار بالغير، وإنّما فيه مجرّد سلب الانتفاع، أو عدم إيصال النفع للغير ، كلا ، هذا ليس مجرّد عدم إيصال النفع للغير، هذا إضرار للغير ، باعتبار أنّ هذا يمنع فضل الماء لكي يمنع فضل الكلأ ويجبر هؤلاء الناس الذين هم بحاجة إلى الماء على الانتقال إلى مكان آخر، هذا بالنتيجة إضرار بهم، منع فضل الماء كان سبباً للإضرار بهؤلاء .صحيح، بشكل عام عدم النفع لا يُعدّ ضرراً، لكن في خصوص المقام منع فضل الماء يُعد عرفاً إضراراً بالغير.

إذن: مورد الرواية في محل الكلام هو خصوص ما إذا كان المنع من فضل الماء موجباً للضرر ؛ وحينئذٍ يصح تطبيق القاعدة عليه، ولا يرد الإشكال السابق .

وأمّا بالنسبة للوجه الثاني للإشكال، وهو أنّه لم يلتزم بالتحريم أحد، صاحب هذا الجواب، يقول: هذه ليست مشكلة، لنلتزم بالتحريم ، وليس هناك ما يخالف الضرورات الفقهية، الدليل يدل على التحريم، فنلتزم بالتحريم، يعني يحرم على الإنسان أن يمنع الغير من الانتفاع بفضل مائه . فيندفع الإشكال بكلا وجهيه بناءً على هذا الكلام .

الجواب الثاني : ما تقدّم في الوجه الرابع في مقام الجواب عن الإشكال الوارد على تطبيق الحديث على مسألة الشفعة الذي اختاره السيد الشهيد(قدّس سرّه) وهو كان محاولة إثبات أنّ حق الشفعة من الحقوق الثابتة عند العقلاء بحسب مرتكزاتهم، إذا ثبت كونه حقاً؛ حينئذٍ سلبه وعدم إعطائه يُعد إضراراً بالشريك، فتُطبق قاعدة لا ضرر على هذا المورد؛ وحينئذٍ تنفي سلب هذا الحق، وتثبت هذا الحق . نفس هذا الكلام يقال في محل الكلام، فيقال : أنّ الانتفاع بالكلأ وبالماء الذي يُعد من الثروات الطبيعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى لجميع الناس، الانتفاع به يُعد حقّاً من الحقوق، وهذا الحق ثابت بمقتضى المرتكزات العقلائية التي يبني عليها العقلاء . بناءً على هذا يكون منع الغير من الاستفادة من هذا الحق، يعتبر إضراراً به ، وفي محل الكلام هذا منع الغير من الاستفادة من الثروة الطبيعية التي هي الكلأ . صحيح هو لم يمنعه مباشرة، لكنه منعه عن طريق منع فضل الماء؛ لأنّه بمنعه فضل الماء هو منعه من الاستفادة من الكلأ ، منعه من الاستفادة والانتفاع بالكلأ يُعتبر غصباً وسلباً لحقٍ من حقوقه ، فيعتبر تعدّياً وظلماً وإضراراً بالغير، فإذا كان إضراراً بالغير؛ حينئذٍ يمكن تطبيق القاعدة في المقام، ولا يكون التطبيق فيه مشكلة . هذا مبني على افتراض أنّ هذا حق من الحقوق الثابتة بحسب المرتكزات العقلائية، كحق الشفعة . بناءً على ما تقدّم . إذا تمّ هذا ؛ حينئذٍ يكون سلب هذا الحق ظلماً وإضراراً بالغير ؛ فحينئذٍ يمكن تطبيق القاعدة ويرتفع الإشكال . هذا الوجه لا يتوقف على أن نقول أنّ منع فضل الماء إضرار، حتى إذا فرضنا أنّ منع فضل الماء ليس إضراراً؛ لأنّ الماء ـــــ بحسب الفرض ــــــ مملوك بالملك الشخصي؛ وحينئذٍ قد يقال أنّ منع فضل الماء ليس إضراراً بالغير؛ لأنّه ليس من حق الغير أن يستفيد مما يملكه الإنسان ملكاً شخصياً حتى نقول أنّ منعه من ذلك يكون إضراراً به، لا يُراد تطبيق ذلك على منع فضل الماء، وإنّما يراد تطبيقه على منع الكلأ، هو منع من الكلأ، لكن بواسطة منع فضل الماء، فيصدق أنه منع الغير من بعض حقوقهم، فإذا صدق هذا؛ حينئذٍ يكون هذا إضراراً بالغير، وتنطبق القاعدة حينئذٍ في محل الكلام .

الجواب الثالث: أن يقال أنّ الإشكال أساساً نشأ مكن تخيّل أنّ الحكم بملكية شخص لشيء ملكية شخصية، أنّ لازم هذا الحكم هو أنّه يجوز له أن يمنع الغير من الاستفادة منه. هذا الوجه يركّز على منع فضل الماء وليس منع فضل . هذا البئر المملوك بالملكية الشخصية . الإشكال مبني على افتراض أنّ الحكم بالملكية لازمه جواز منع الغير من الانتفاع به، هذا التلازم ينشأ من افتراض أنّ هناك تنافياً بين ملكية الإنسان لشيء، وبين جواز انتفاع الغير به بغير أذنه، هذان أمران لا يجتمعان؛ إذ أنّ مقتضى الملكية أنّ له حق منع الآخرين من الاستفادة به، فينشأ هذا الإشكال من تخيّل هذا التلازم ، إذا ثبت هذا التلازم ينشأ هذا الإشكال . فلا يكون منعه للغير من الاستفادة منه إضراراً به وسلباً لحقه حتى يصدق الإضرار ويمكن تطبيق القاعدة عليه . إذن: الإشكال مبني على افتراض أنّ هذا من حقه أن يمنع وأنّه ليس للآخرين حق في ما يملكه الإنسان ملكية شخصية، فإذا منعه فهذا لا يُعد ضرراً، وإنّما يُعد مجرّد عدم إيصال النفع، فلا يمكن تطبيق القاعدة في محل الكلام.

صاحب هذا الجواب يقول أنّ هذا غير صحيح، المنافاة مسلّمة بين جواز انتفاع الغير بما يملكه الإنسان ملكية شخصية، وبين الملكية المطلقة لذلك المال . وأمّا جواز انتفاع الغير بهذا المال، وبين أصل الملكية فلا يوجد تنافٍ بينهما أصلاً . أصل الملكية لا ينافي أنّ الغير يجوز له الانتفاع بهذا الشيء . نعم، هو ينافي الملكية المطلقة، إذا دل دليل على الملكية المطلقة للإنسان في ما يملكه ملكاً شخصياً؛ حينئذٍ يكون جواز انتفاع الغير به منافياً للملكية المطلقة، أمّا أصل الملكية لا ينافيها ذلك، من قبيل جواز الوضوء من الأماكن العامة ، أو جواز أخذ بعض الثمار ممّا يكون مملوكاً ملكاً شخصياً، هذا لا ينافي أصل الملكية، أصل الملكية ثابت، هو يملك أصل هذا البستان، ويملك هذه الأشجار، لكن هذا لا ينافي أنّ الغير يجوز له الانتفاع بها بوضوء وبشرب، واقتطاف ثمرة وأكلها. نعم، هو ينافي الملكية المطلقة، لكن لا دليل على الملكية المطلقة ، على الأقل في أمثال المقام، يعني من قبيل ملك الماء ، وملك الأشجار ، وملك العشب وأمثال هذه الأمور ، فيثبت أصل الملكية، والمفروض أنّ جواز انتفاع الغير لا ينافي أصل الملكية .

إذن: في محل الكلام، هذا ملك الماء، لا دليل على أنّه يملكه ملكية مطلقة بحيث يكون لازم هذه الملكية عدم جواز انتفاع الغير به، وبالتالي لا يكون من حقوقه الانتفاع به، وبالتالي لا يكون منعه إضراراً به، وإنّما مجرّد سلب منفعة عنه وعدم إيصال المنفعة إليه . لا دليل على هذه الملكية المطلقة ، فيثبت أصل الملكية، فيبقى هو مالك لهذا الماء، لكن هذا لا ينافي جواز انتفاع الغير به بوضوء، وبشربٍ لنفسه أو لأغنامه، فإذا لم يكن منافياً للملكية، وكان يجوز للغير هذا الانتفاع، إذن : منعه من هذا الانتفاع يعتبر إضراراً به، وإذا كان إضراراً به؛ حينئذٍ ينطبق الحديث عليه، ويندفع الإشكال .

يضيف صاحب هذا الجواب شيئاً آخر يقول : لو تنزلنا وسلّمنا عدم ثبوت هذا الحق للغير، وأنّ المالك لا يجوز له أن يمنع الغير من الاستفادة من الماء، وأنّ النهي عن المنع ليس نهياً تحريمياً، وإنّما هو نهي تنزيهي . بناءً على ما ذُكر سابقاً أنّ النهي يكون نهياً تحريمياً، يعني يحرم على مالك البئر أن يمنع الغير من الاستفادة منه؛ لأنّه مما تقدّم تبيّن أنّه يجوز للغير الانتفاع به ، وأنّ هذا الجواز لا ينافي أصل الملكية ، وإنّما ينافي الملكية المطلقة، ولا دليل على ثبوتها ، فبالتالي يحرم على المالك منع الغير .

الآن نقول: لو تنزلنا وسلّمنا أنّ المالك لا يحرم عليه؛ بل يجوز له أن يمنع ذلك، وأنّ النهي في الرواية نهي تنزيهي، الذي لا زمه ثبوت حقٌ للغير في الاستفادة بفضل الماء؛ حينئذٍ لا مانع من تعليله بلا ضرر ولا ضرار، لكن على مستوى الحكم الأخلاقي لا على مستوى الحكم التحريمي ، ويكون الارتباط أيضاً موجوداً.

وبعبارة أخرى : الارتباط بين الجملتين لا يتوقف على افتراض التحريم، لا يتوقف على افتراض أنّ هذا يحرم عليه منع الغير، فإذا حرم عليه منع الغير، ثبت حقٌ للغير ؛ وحينئذٍ يكون المنع إضراراً ؛ وحينئذٍ ينطبق الحديث . يقول: لا ، حتى إذا فرضنا أنّ النهي في الرواية نهي تنزيهي، مع ذلك يمكن تعليل هذا النهي التنزيهي بلا ضرر ولا ضرار ، لكن على مستوى الحكم الأخلاقي، فيبقى الارتباط موجوداً حتى إذا تنزلنا وقلنا أنّ المالك لا يحرم عليه منع الغير ، لكن يكره له منع الغير ، مع ذلك يكون التعليل بلا ضرر ولا ضرار ، والانطباق يكون مقبولاً ومعقولاً، لكن على مستوى الحكم الأخلاقي .