الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/08/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

 

الوجه الثالث لدفع الإشكال الذي هو عبارة عن أنه كيف يمكن تطبيق قاعدة لا ضرر على مورد الأمر بقلع النخلة ؟ الإشكال نشأ من افتراض أنّ التطبيق كان بلحاظ فقرة لا ضرر، فيقول الإشكال كيف يمكن فهم هذا التطبيق؛ لأنّ فقرة لا ضرر تنفي الحكم المسبب للضرر، وجوب الوضوء يكون ضررياً، فيكون منفياً، جواز الدخول بلا استئذان يكون ضررياً فيكون منفياً، لزوم البيع الغبني يكون ضررياً، فيُنفى بلا ضرر، في مورد التطبيق حق بقاء النخلة في حائط الأنصاري ليس ضررياً، أصل بقاء النخلة ليس ضررياً، فكيف يمكن تطبيق قاعدة لا ضرر لنفي هذا الحق، والحال أنّ قاعدة لا ضرر تنفي الحق والحكم إذا كان ضررياً؟ هذا الحق ليس ضررياً، فلا معنى لنفيه بلا ضرر حتى نصل إلى الأمر بقلع النخلة ونعلله بلا ضرر، الإشكال من هنا نشأ.

ذكرنا أنّ الأجوبة الأخيرة تحاول أن تبيّن أنّ التطبيق ليس بلحاظ لا ضرر، وإنّما بلحاظ فقرة لا ضرار، بلحاظ فقرة لا ضرار الوجه الأخير الذي ذكرناه كان مبنياً على ما تقدم الإشارة إليه سابقاً وهو أنّ الضرار اُخذ في مفاده التعمّد والتقصّد، وقلنا أنّ هناك بعض الاستعمالات تساعد على ذلك ويُفهم منها أنّ الضرار والإضرار مأخوذ فيه التعمّد والتقصّد. بناءً على هذا حينئذٍ يُجاب عن هذا الإشكال بما تقدّم من أنّ التطبيق بلحاظ فقرة لا ضرار وليس بلحاظ فقرة لا ضرر، ويكون التطبيق على المورد بلحاظ فقرة لا ضرار، باعتبار أنّ حينئذٍ سوف يكون بين لا ضرار وبين لا ضرر عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في الضرر الذي يقصد المضار فيه الإضرار، هذا يمكن نفيه بلا ضرر ويمكن نفيه بلا ضرار؛ لأنّ الضرر موجود، وقصد الإضرار أيضاً موجود، ويختلف كلٌ منهما في مورده، مورد اختلاف لا ضرار عن لا ضرر هو ما إذا فرضنا أنّ الحكم أو الحق لم يكن ضررياً، لكن كان الشخص يتقصد ويتعمد الإضرار بالغير، وكان يستخدمه ذريعة للإضرار بالغير، في مثل هذه الحالة يفترق لا ضرار عن لا ضرر، هنا لا يمكن نفي هذا الحق وهذا الحكم بعد افتراض أنّه ليس ضررياً، لا يمكن نفيه بلا ضرر، وإنّما يُنفى بلا ضرار؛ لأنّ المفروض أنّه يتعمد الإضرار بالغير، يتخذ الحق أو الحكم ذريعة للإضرار بالغير، هنا يأتي دور لا ضرار لنفي ذلك، ويكون نفي الضرار في هذه الحالة في رفع ذلك الحق الذي يتذرّع به هذا الشخص للإضرار بالغير، ومن الواضح أنّ هذا الحق الذي يتذرّع به سمرة بن جندب كان هو حق بقاء النخلة في حائط الأنصاري، فتُقطع مادة الفساد ومادة الإضرار تُقلع، باعتبار نفي هذا الحق بالنسبة لهذا الشخص الذي يتذرّع به للإضرار بالغير، فيقال لا حق لك بذلك، فإذا لم يكن له حق بذلك؛ فحينئذٍ يترتب الأمر بقلع النخلة، فيصُح تعليل الأمر بقلع النخلة بلا ضرر ولا ضرار والمقصود بذلك هو فقرة لا ضرار كما قلنا لا فقرة لا ضرر.

واضح أنّ دفع الإشكال على أساس أنّ تطبيق القاعدة على الأمر بقلع النخلة، أنّ التطبيق بلحاظ فقرة لا ضرار، هذا يتوقف على افتراض أنّ هناك فرقاً بين لا ضرر وبين لا ضرار، على أن يكون مفاد لا ضرر غير مفاد لا ضرار، وإلاّ إذا كان مفادهما واحداً؛ حينئذٍ لا نستطيع دفع الإشكال بلحاظ فقرة لا ضرار لا بلحاظ فقرة لا ضرر، أصلاً نفس هذا الطرح معناه الاختلاف في مفادهما وأنّ ما يُستفاد من لا ضرار غير ما يُستفاد من لا ضرر، فيقال أنّ الإشكال إنّما يلزم إذا فرضنا أنّ التطبيق بلحاظ فقرة لا ضرر، ولكنه يندفع الإشكال إذا قلنا أنّ التطبيق بلحاظ فقرة لا ضرار. إذن: لابدّ من افتراض وجود اختلاف في مفادهما حتى يصح دفع الإشكال بما ذكروه، وهذا الاختلاف هو هذا الذي ذُكر في هذا الوجه الأخير، اختلاف في أنّ الضرار يستبطن معنى التعمّد والتقصّد، وإلاّ إذا لم نأخذ هذه النكتة بنظر الاعتبار؛ حينئذٍ لا نستطيع أن ندفع الإشكال بهذا الطرح؛ وحينئذٍ يقال أنّ لا ضرار زائدة وتكرار باعتبار أنّ الضرار مهما يكن إذا لم نأخذ نكتة التعمّد والتقصّد في مفهومه، هو لا يخرج عن كونه نوعاً من الضرر، غاية الأمر أنّ بعضهم يقول هو الضرر الطويل، أو هو الضرر المستمر، أو الشديد، ليكن هو الضرر الشديد، أو المستمر أو الطويل، بالنتيجة هو ضرر، فيكفي في نفيه نفي الضرر؛ لأنّ ضرار يعني ضرر شديد، أو مستمر، بالنتيجة هو لا يخرج عن كونه ضرراً، فيكفي في نفيه نفي الضرر ولا نحتاج إلى نفي الضرار، وإنّما نكون بحاجة إلى نفي الضرار عندما نفترض أنّ لا ضرار لها مفاد يختلف عن مفاد لا ضرر، وأحسن ما يمكن أن يقال هو أنّ الضرار يستبطن التعمّد والتقصّد، ومن الواضح أنّ التعمّد والتقصّد عندما نقول تعمّد الإضرار، أنّ هذا شخص يتعمّد الإضرار بالغي، واضح أنّ هذا في حدّ نفسه يستلزم افتراض أنّ هذا شخص لا يعتني بحرمة الإضرار؛ لأنه يتعمد الإضرار بالغير. إذن: هذا الشخص الذي يتعمد الإضرار بالغير هو لا يعتني بحرمة الإضرار، ومن هنا لا يكون نفي الإضرار نفياً لجواز الدخول بلا استئذان كما هو المستفاد من فقرة لا ضرر؛ لأنّ هذا لا يمنعه من الإضرار بالغير؛ لأنّه يتعمّد الإضرار بالغير، فثبوت حرمة الإضرار، باعتبار حرمة الدخول بلا استئذان إلى حائط الأنصاري لكونه إضراراً بالأنصاري، هذه الحرمة المستفادة من لا ضرر بعد تطبيقها على جواز الدخول بلا استئذان، في لا ضرار فُرض أنّ هذا لا يعتني بهذه الحرمة؛ لأخذ التعمّد والتقصّد في مفهوم الضرار ، فعندما يُنفى الضرار لا يكون المقصود به هو نفي جواز الدخول ونفي جواز الإضرار؛ لأنّه فُرض فيه مسبقاً أنّ هذا لا يعتني بحرمة الإضرار بالغير ولا يعتني بحرمة الدخول إلى حائط الأنصاري لكونه إضراراً بالغير، هذا لا يبالي به، فقرة لا ضرار لا تنفي نفس ما نفاه لا ضرر، وإنّما هذا وحده يجعلها ظاهرة في أنّها ناظرة إلى شيءٍ آخر هو أنّ الشخص الذي يتذرّع بالحكم الشرعي أو بالحق، لكي يضر الغير ويتعمّد ويتقصد الإضرار بالغير؛ لا ضرار حينئذٍ تنفي هذا الحق وهذا الحكم، وإن لم يكن هذا الحق وهذا الحكم ضررياً، فيكون لها مفاد آخر غير مفاد لا ضرر.

إذن: لا ضرر تنفي الحكم الضرري، فإذا طُبق هذا كما يدّعى أنه طُبق في الرواية على جواز الدخول بلا استئذان، فلا ضرر نفت هذا الجواز، وثبت بذلك حرمة الدخول بلا استئذان، لكن سمرة لا يعتني بهذا التحريم وبقي مصراً على الدخول بلا استئذان متذرّعاً بأنّ له عذق في حائط الأنصاري، هذه الذريعة ــــــ حق بقاء العذق في حائط الأنصاري ـــــ هو يتذرّع به للإضرار بالأنصاري، لا ضرار ناضرة إلى هذا، باعتبار ما قلناه من أنّه اُخذ في مفهوم الضرار التعمد والتقصد مما يعني ويستلزم عدم المبالاة بتحريم الإضرار، فلا يكفي هذا لمنع وقوع الإضرار بالأنصاري؛ لأنّه يتذرّع بهذا الحق، وهذا الحق ليس ضررياً حتى يمكن نفيه بلا ضرر، وإنّما يكون نفيه بلا ضرار.

إذن: لا ضرار تنفي الحق أو الحكم الشرعي الذي يتخذه المضار وسيلة للإضرار بالغير، وهذا مفاد آخر غير ما يُفهم من لا ضرر، والتعليل حينئذٍ يكون صحيحاً، وتطبيق القاعدة على موردها يكون صحيحاً؛ لأنّها تسلب من حق بقاء العذق، ويترتب عليه الأمر بقلع النخلة، وإزالتها عن حائط الأنصاري قطعاً لمادة الإضرار. هذا الوجه الثالث.

هناك بحث آخر في أنّه لو فرضنا بناءً على أنّ التطبيق كان على مورد الأمر بقلع النخلة، وقبلنا بهذه التوجيهات أو واحد منها لتبرير هذا التعليل، تقدّم أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) في أحد أجوبته عن الإشكال قال: أنّ التعليل ليس لتعليل الأمر بقلع النخلة، وإنّما القاعدة سيقت لغرض التعليل الحكم الآخر الذي هو حرمة الدخول بلا استئذان؛ وحينئذٍ يرتفع الإشكال؛ لأنّ جواز الدخول بلا استئذان حكم ضرري، فيُنفى بفقرة لا ضرر؛ وحينئذٍ يرتفع الإشكال. المحقق العراقي(قدّس سرّه) أشكل على هذا، بأنه هل يمكن افتراض أنّ الرواية ساقت القاعدة لتعليل حرمة الدخول بلا استئذان، أو أنّ هذا غير صحيح ؟

المعروف هو إمكان تعليل حرمة الدخول بلا استئذان بقاعدة لا ضرر بلحاظ فقرة لا ضرر؛ لما قلناه مراراً من أنّ جواز الدخول بلا استئذان حكم ضرري، فيكون هذا الحكم منفياً بلا ضرر؛ لأنّ مفاد لا ضرر هو نفي الأحكام الضررية، فإذا انتفى جواز الدخول تثبت حرمة الدخول، فإذن: يمكن تعليل حرمة الدخول بلا استئذان بقاعدة لا ضرر بلحاظ فقرة لا ضرر. هكذا يقول المشهور والمحقق النائيني(قدّس سرّه) أيضاً هكذا يقول، وإن كان هذا خلاف الظاهر، حيث ظاهر الرواية أنّها مسوقة لتعليل الأمر بقلع النخلة لا لتعليل حرمة الدخول بلا استئذان. هذا الافتراض تارة يُبيّن بلسان أنّ جواز الدخول بلا استئذان حكم ضرري، فيكون منفياً بلا ضرر، وتارة يُبيّن بلسان أنّ إطلاق جواز الدخول لفرض عدم الاستئذان ضرري، فيرتفع هذا الإطلاق بلا ضرر. النتيجة واحدة وهي عدم جواز الدخول بلا استئذان.

المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول بأنّ هذا لا يمكن قبوله؛ يستعين في توضيح فكرته بافتراض أنّ القاعدة امتنانية، مسوقة مساق الامتنان، وبناءً عليه؛ حينئذٍ يقول لا نستطيع أن نطبّق القاعدة لمنع سمرة من الدخول بلا استئذان؛ لأنّ هذا فيه خلاف الامتنان على ذاك الطرف، وإن كان فيه امتناناً على الأنصاري، لكنّه فيه خلاف الامتنان على سمرة، والقواعد والأدلة الامتنانية عندما نطبّقها في مورد لابد أن نلاحظ فيها أن يكون الامتنان على الكل لا أن يكون في التطبيق الامتنان على واحد، وخلاف الامتنان على شخصٍ آخر، فإذن: لا يمكن أن نفترض أن نطبّق القاعدة على جواز الدخول لرفع جواز الدخول ومنع سمرة من الدخول بلا استئذان؛ لأنّ هذا التطبيق، وإن كان فيه امتنان على الأنصاري، لكنّه ليس فيه امتنان؛ بل فيه خلاف الامتنان بالنسبة إلى الطرف الآخر، والقاعدة امتنانية لا تقبل ذلك. يقول المحقق العراقي(قدّس سرّه) : في المقام نقول : أنّ القاعدة طُبّقت على الأنصاري بمقدار ضمان حق الأمن بالنسبة إليه، ضمان حق حفظ عياله من أن يتعرضوا للنظر والانتهاك، تُطبّق القاعدة بهذا المقدار، باعتبار أنّ عدم الأمن ضرري، عدم حفظ عياله من الانتهاك ضرري، فيثبت له حق أمن نفسه وأمن عياله وحفظهم، القاعدة تُطبّق بهذا المقدار، وليس نستفيد من القاعدة سلب جواز الدخول وحق الدخول عن الأنصاري، هذا لا نستفيده من القاعدة، وإلا يلزم إشكال أنّ القاعدة امتنانية ولا يمكن تطبيقها في مورد يلزم منه خلاف الامتنان على شخص آخر، وإنّما نقول أننا نطبّق هذه القاعدة على الأنصاري، عدم الأمن للأنصاري ضرري، فلابدّ أن نضمن له الأمن، وحفظ عياله، فالقاعدة تطبّق عليه بهذا الاعتبار فقط لا أن نقول أننا بتطبيق القاعدة نمنع سمرة من الدخول بلا استئذان؛ لأنّ هذا خلاف الامتنان.

نعم، في هذه الحالة سوف يقع تزاحم بين حق الأنصاري في الأمن وحفظ عياله وبين حق سمرة في الدخول إلى عذقه؛ وحينئذٍ نقدّم حق الأنصاري بالأهمية، ونقول أنّ حق الأنصاري في حفظ نفسه وعياله وحفظهم أهم من حق سمرة في الدخول بلا استئذان، فيقدّم حق الأنصاري على حق سمرة بالأهمية وليس بقاعدة لا ضرر، فنمنع سمرة من الدخول بلا استئذان ليس بتطبيق قاعدة لا ضرر، وإنّما باعتبار وقوع التزاحم ومراعاة للأهمية يكون حق الأنصاري في حفظ نفسه وأمنه وأمن عياله أهم من ذاك، فيتقدّم، وهذا معناه زوال حق سمرة ويُمنع من الدخول بلا استئذان، وهذا معناه أنّ القاعدة لم تُسق لغرض تعليل تحريم الدخول بلا استئذان، وإنّما تحريم الدخول على الأنصاري بلا استئذان ثبت على أساس شيء آخر وبقاعدة أخرى وبملاك آخر وهو ملاك التزاحم ومراعاة الأهمية لا على أساس تطبيق القاعدة على ذاك المورد .

مسألة كون القاعدة امتنانية مسألة يأتي الحديث عنها، ويقع الحديث في أنّ الامتنان هل يُراد به هذا المعنى، بحيث أنه لا يمكن تطبيق القاعدة في موردٍ إذا كان فيها امتنان على شخص وفيها خلاف الامتنان على من يريد الإضرار بهذا الشخص ؟ هل الامتنان يقتضي حتى هذا ؟ أو أنّ مقتضى كون القاعدة امتنانية هو أن يكون هناك امتنان، لكن ليس على الشخص الذي يريد الإضرار بهذا الشخص .

بعبارةٍ أخرى: أنّ تطبيق القاعدة والالتزام بخلاف الامتنان على الشخص المضار لا ينافي امتنانية القاعدة. نعم، ما ينافي امتنانية القاعدة هو تطبيق الحديث على موردٍ فيه خلاف الامتنان على شخصٍ آخر ليس هو المضار، هنا يقال أنّ الحديث امتناني ولا يمكن تطبيقه على موردٍ إذا كان يلزم منه خلاف الامتنان على شخصٍ آخر، أمّا إذا لزم من تطبيقه خلاف الامتنان على شخصٍ يريد الإضرار ويقصده، هذا هل هو خلاف الامتنان المستفاد من القاعدة ؟ هذا سيأتي الكلام فيه.

هناك نكتة لابد من الإشارة إليها حتى نعرف أنّ الكلام تام أو لا . هذه النكتة هي عندما نقول أنّ القاعدة مسوقة لتعليل الحكم بحرمة الدخول بلا استئذان، ما هو المقصود بهذه العبارة ؟ هل المقصود بها أنّ دخوله يتوقف على أذن الأنصاري ؟ بحيث إذا أذن له الأنصاري يدخل إلى عذقه، وإذا لم يأذن له الأنصاري لم يجز له الدخول ؟ هل هذا هو المقصود ؟ أو أنّ المقصود بالاستئذان هو الإخبار، أي يقول له أنت لا تدخل إلى عذقك حتى تخبر الأنصاري، فالمقصود هو الإخبار لا طلب الأذن. هذه النكتة مهمة في جواب المحقق العراقي(قدّس سرّه) .