الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/07/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

 

في ذيل البحث السابق بعد استعراض الآراء المعروفة والمشهورة في تفسير الحديث، قلنا نتعرّض إلى وجوهٍ أخرى اختارها بعض الأعلام وذكرنا في الدرس السابق الوجه الأول من هذه الوجوه الأخرى غير الوجوه الأربعة المعروفة.

قد يُلاحظ على الوجه الأول بأنّه من الواضح أنّ هذا الوجه يريد أن يستفيد كلا الأمرين ــــ نفي الحكم المسبب للضرر وتحريم الضرر تكليفاً والنهي عنه تكليفاً ـــــ من فقرة (لا ضرر) بدعوى أنّ مفاد هذه الفقرة هو معنىً عام يشمل عدم المقتضي ويشمل وجود المانع، فأنّه في كلٍ منهما يصدق أنّ علّة الضرر غير متحققة، إذا انتفي المقتضي، فعلّة الضرر غير متحققة، وإذا وُجد المانع، فأيضاً علّة الضرر غير متحققة، وحيث أنّ مقصوده الأصلي هو الإخبار عن عدم تحقق علّة الضرر، هذا يشمل نفي المقتضي وإثبات المانع، لكن قد يقال بأنّ هذا غير ممكن، يعني استفادة كلا الأمرين من فقرة(لا ضرر) غير صحيح؛ وذلك بنكتة أنّ المنفي في هذه الفقرة هو الضرر؛ لأنّ الحديث ينفي أمرين لا ضرر، ولا ضرار، والضرر على ضوء ما تقدّم هو اسم معنى مصدري وليس مصدر، اسم المعنى المصدري يُراد به التعبير عن نفس المبدأ ، عن نفس الضرر، يعني التعبير عن المنقصة والنقص؛ لأنّ الضرر معناه النقص في المال، أو في البدان،......الخ، فهو تعبير عن النقص النازل بالإنسان. ومن هنا يختلف الضرر عن الضرار، الفرق بين الضرر والضرار هو أنّ الضرر يُعبّر به عن نفس المبدأ من دون افتراض نسبة صدورية، فيُراد به النقص النازل بالمتضرر، بينما الضرار يتضمن نسبة صدورية، فيُراد به الضرر الصادر من الإنسان في حق غيره، لكن المفروض في هذا الوجه أنه يريد أن يستفيد كلا الأمرين من فقرة(لا ضرر)، هنا يقال لا يمكن أن نستفيد من ذلك التحريم والنهي التكليفي؛ بنكتة أنّ الضرر بمعنى النقص النازل بالمتضرر هو أمر مرغوب عنه لا يقدم عليه الإنسان ولا يتحمله ويتجنبه الإنسان العادي، إلاّ في حالة واحدة يُقدم على الضرر، وهي ما إذا كان هناك تسبيب شرعي وتحميل من قبل الشارع لتحمّل الضرر، في هذه الحالة الإنسان يُقدم على تحمّل الضرر ويُنزل الضرر بنفسه، أمّا دعك من التسبيب الشرعي، ودعك من تحميل الشارع إيّاه لإنزال الضرر بنفسه، الإنسان عادة يتجنب الضرر، نكتة أنّ الضرر أمر مرغوب عنه ولا يتحمّله الإنسان إلاّ بتسبيبٍ من قِبل الشارع، هذه تنقلنا إلى هذا المعنى، أنّه يمكن حينئذٍ أن يقال أنّ النهي عن الضرر وتحريمه غير مقبولٍ عرفاً، ولا يكون مستساغاً؛ لأنّه بطبعه أمر متروك من قِبل الإنسان، وإنّما يتحمله الإنسان فقط في حالة واحدة وهي حالة ما إذا كان إيجاب شرعي يلزمه بتحمّل الضرر؛ ولأجل هذا يكون نفي الضرر في الحديث له ظهور واضح في نفي الحكم المسبب للضرر؛ لأنّ الضرر له هذه الخصوصية، أنّه أمر ينفر منه الإنسان ويتجنبه بحسب طبعه ويحسب العادة، وكأنّ عدم تحققه في الخارج مضمون إلاّ في حالةٍ واحدة وهي حالة ما إذا ألزم به الشارع، كما لو قال له الشارع: يجب عليك الوضوء، وإن كان ضررياً، في هذه الحالة يُقدِم المكلّف على تحمّل الضرر، فإذا الشارع نفسه نفى الضرر يكون هذا ظاهراً في نفي الحكم المؤدي إليه، ولا يُستفاد من ذلك النهي عن الضرر وتحريمه، وإنّما الذي يُستفاد من فقرة(لا ضرر) هو نفي الحكم الضرري، يعني الاحتمال الأول، ولا يُستفاد منه النهي عن الضرر وتحريمه، باعتبار أنّ الضرر أمر مرغوب عنه ولا يتحمله الإنسان بحسب طبعه، ومن هنا لا مجال لفرض كون الضرر مورداً للنهي؛ لأنّه بطبعه ينفر منه، ولا يكاد يصدر من الإنسان إلاّ بافتراض وجود جعلٍ شرعي يؤدي إليه كما في وجوب الوضوء، وإلاّ فهو لا يصدر من الإنسان عادة.

وهذا بخلاف الضرار، الضرار والإضرار معناه إنزال الضرر بالغير؛ لأنّ فيه نسبة صدورية، فالملحوظ فيه هو صدور الضرر من الإنسان وإيقاعه بالغير، وهذا الضرار والإضرار قد يصدر من الإنسان لأسبابٍ ودواعٍ مختلفة، للغضب، للشهوة.... ودواعي أخرى كثيرة، وما أكثر من يضر غيره، لكن أن يُنزل الإنسان الضرر بنفسه، فهذا عادةً لا يقع ويكون ممّا يتجنبه الإنسان، أمّا أن يضر غيره بداعي غضبي أو بداعي شهوي، أو انتقام، أو بدواعٍ أخرى كثيرة، وهذا أمر يتّفق ويحصل، ومن هنا كان نفي الضرار يُستفاد منه تحريم الضرار لكي يتوسل الشارع بواسطة التحريم إلى منع تحقق الضرار خارجاً، فعندما ينفي الضرار يُستفاد منه نفي الضرار كما سيأتي، لكن عندما ينفي الضرر لا معنى لأن يستفاد من ذلك تحريم الضرر؛ لأنّ الضرر لا يُقدِم عليه الإنسان، وإنّما يقدّم عليه في حالة واحدة، وهي حالة ما إذا أوجب الشارع عليه الوضوء، وإن كان ضررياً، في هذه الحالة يتحمّل الضرر، فيتوضأ ويتحمل الضرر، فإذا الشارع نفى الضرر في مقام التشريع، يكون المراد منه نفي جعل حكم مؤدي إلى الضرر، هذا ما يُفهم منه، ولا يُفهم منه النهي عن الضرر وتحريمه تكليفاً كما قيل في هذا الوجه. وعليه: فالضرر في مقابل الضرار لا يكاد يتحقق من الإنسان عادة، إلاّ إذا كان هناك حكم شرعي مؤدياً إليه؛ وحينئذٍ يكون نفي الضرر كما في الحديث في هذه الفقرة، ظاهراً في نفي وجوب الحكم الشرعي المؤدي إليه، ولا يمكن أن نستفيد منه النهي عن الضرر.

هذا الاعتراض سيأتي توضيحه في الوجه الثاني، لكن هنا قد يُدفع هذا الاعتراض عن الوجه بأن يقال: أنّ الضرر وإن كان أمراً مراً مرغوباً عنه ويتجنبه الإنسان بطبعه، لكن هذا لا يمنع من أنّه قد يُقدم عليه الإنسان أحياناً؛ ولذا قيل في توضيح الوجه الأول أنّ نافي وجوب الوضوء لا يكفي لضمان عدم تحقق الضرر خارجاً، والذي يضمن للشارع عدم تحقق الضرر خارجاً أمران: أحدهما: نفي وجوب الوضوء. وثانيهما: تحريم الضرر. في هذه الحالة هو يضمن تحققه بحسب العادة، أمّا مجرّد أن ينفي وجوب الوضوء، ويقال له لا يجب عليك الوضوء الضرري، فهذا لا ينفي أنه قد يصدر منه الوضوء الضرري، حيث يمكن أن يقول أنّ هذا الوضوء ليس واجباً علي، لكنّه جائزٌ، فيأتي به، وهناك دواعٍ يمكن فرضها لتحمّل الضرر من قبيل العادة؛ لأنه عادة يتوضأ للصلاة، أو يتخيّل أنه إذا توضأ يكون أقرب إلى الله(سبحانه وتعالى) من أن يتيمم، أو استهانةً بالضرر، قد يُفترض أنّ المكلّف يُقدم على هذا الضرر لدواعٍ مختلفة عندما لا يكون هناك تحريم، فالشارع إذا كان لا يريد تحقق الضرر خارجاً كما يُفهم من هذه الروايات عندما هو يُعبّر عن تشريع هذه الأحكام بنفي الضرر، أي يُفهم منه أنه لا يريد تحقق الضرر في الخارج، الشارع الذي لا يريد تحقق الضرر في الخارج، لكي يضمن عدم تحققه لا يكتفي بنفي الحكم الضرري؛ بل لابدّ أن يضمّ إليه تحريم الضرر؛ حينئذٍ يضمن عدم تحقق الضرر في الخارج، فإذن: كون الضرر أمر مرغوب عنه ولا يُقدم عليه الإنسان بطبعه هو أمر صحيح، لكنّه لا ينافي أنّه قد يُقدم عليه الإنسان لبعض الدواعي، إذا افترضنا أنّ هذا تامّ؛ حينئذٍ نقول: لا مانع من أن نستفيد من فقرة(لا ضرر) وحدها كلا الأمرين كما في الوجه الأول، يعني نستفيد نفي الحكم الضرري وكذلك نستفيد تحريم الضرر؛ لأنّه أضمن للشارع من جهة عدم تحقق الضرر خارجاً، وإلاّ كما قلنا إذا اكتفى الشارع بنفي الوجوب فقط، فهذا لا يعني عدم تحقق الضرر في الخارج، فقد يُقدم المكلّف على الإتيان بالوضوء الضرري إذا لم يحرّم الشارع عليه الضرر، وهذا أمر نشعر به بالوجدان، فهذا يكون أدعى للشارع لتحريم الضرر، فيمكن أن نستفيد من القاعدة كلا الأمرين كما ذُكر في الوجه الأول.

دفع الاعتراض المتقدّم بهذا الوجه لتتميم الوجه الأول يحتاج إلى أن ندخل في الوجه الثاني الذي يستفاد منه الاعتراض ونبيّن الوجه الثاني لنرى أنّ هذا الاعتراض على الوجه الأول تام أو ليس تامّاً.

الوجه الثاني: هو أن يقال أننا نستفيد ــــــ كما في الوجه الأول ــــــ كلا الأمرين من القاعدة في الحديث الشريف، نفي الأحكام الضررية، والتحريم التكليفي، غاية الأمر أنه يفترق عن الوجه الأول أنّه لا يقول أننا نستفيد كلا الأمرين من فقرة(لا ضرر) وإنّما نستفيدهما من مجموع الحديث، يعني من كلتا الفقرتين، فيُستفاد من الفقرة الأولى(لا ضرر) نفي الأحكام الضررية ويُستفاد من فقرة (لا ضرار) التحريم التكليفي.

خلاصة الوجه الثاني أنّ نفي الجنس بــ(لا) النافية للجنس عندما يُراد به التعبير عن موقف شرعي كما هو كذلك في هذه الأمثلة وغيرها، هذا النفي الداخل على الطبيعة في مقام التعبير عن موقفٍ شرعي يُستعمل في معانٍ كثيرة وفي مقامات مختلفة، بعض الأحيان يستعمل لإفادة التحريم التكليفي والنهي التكليفي وبعض الأحيان يُستعمل لنفي الحكم المتوهم والمتخيّل، يعني لنفي حكم لا لإثبات حكم، وهناك فرق بينهما؛ لأنّه مرّة يستفاد منه النهي التكليفي فهذا معناه أنّه أثبت الحكم ولكن الحكم هو النهي، ومرّة يُستفاد منه نفي الحكم المتوهم، لكن هذا كلّه يدخل في المراد التفهيمي لا في المراد الاستعمالي، المراد الاستعمالي في هذه الصيغة (لا) النافية للجنس هو شيء واحد ولا يتعدد بتعدد هذه المعاني، وإنّما الذي يتعدد بتعدد هذه المعاني هو شيء آخر غير المراد الاستعمالي، مرّة ذاك يكون هو التحريم التكليفي، ومرّة يكون نفي حكم متوهم، ومرّة يكون شيئاً آخراً، هذا الاختلاف في المعاني المرادة جدّاً وتفهيماً من (اللا) النافية للجنس التي تدخل على الطبيعة لنفيها في مقام التشريع، تعدد هذه المعاني يرتبط في الحقيقة بالملابسات التي تقترن بتلك الجملة، كيف نحدد أنّ(لا) النافية للجنس ــــ فرضاً ــــ في (لا رفث ولا فسوق) هي لإفادة التحريم، بينما (لا) الداخلة على (لا ضرر) هي لإفادة نفي الحكم الضرري ؟ كيف نحددها مع أنّ المستعمل فيه هو معنىً واحد لا يختلف فيهما ؟ هذا يختلف باختلاف الموضوع واختلاف المناسبات، وعلى ضوء الملابسات التي تقترن بتلك الجملة؛ وحينئذٍ نوع الموضوع ومجموع الملابسات لها دخل في تحديد ذلك المعنى. هذه الأمور التي لها دخل في تحديد المعنى المراد بـ(لا) النافية للجنس في محل كلامنا ملاحظة مجموع هذه الملابسات تقتضي في محل الكلام أن نقول أنّ (لا ضرر) في الفقرة الأولى يُراد بها ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وهو نفي الأحكام الضررية، وتقتضي هذه الملابسات والقرائن التي تكتنف هذا الكلام في الفقرة الثانية وهي فقرة(لا ضرار) إرادة التسبيب إلى نفي الإضرار والضرار، وهذا الثاني يقول يحتوي على تشريعين، الأول هو تحريم الإضرار تحريماً مولوياً تكليفياً، والثاني هو تشريع اتخاذ الوسائل الكفيلة بحماية هذا التحريم وضمانه، هناك وسائل يتخذها الشارع لضمان التحريم، وبالتالي عدم تحقق الإضرار خارجاً من قبيل ما فعله ـــــ مثلاً ــــ في قضية سمرة بن جُندب من أمره بإزالة عذقه، هذا ضمان ووسيلة إجرائية لضمان عدم تحقق الإضرار خارجاً؛ لأنّ الإضرار ناشئ من وجود عذقٍ له في بستان الأنصاري، فيقلع هذا العذق كضمان لعدم تحقق الضرار عندما لا يكفي في عدم تحقق الضرار والإضرار مجرّد التحريم التكليفي كما لم يكفي في قضية سمرة بن جندب؛ فعندئذٍ تتخذ وسائل إجرائية لضمان ذلك، ومنها قلع العذق، وفي مسجد ضرار اتُخذت وسائل إجرائية بأن هُدم المسجد؛ لأنّه ضمان إجرائي لعدم تحقق الضرار، (لا ضرار) يتضمن كلا هذين التشريعين، يعني تحريم الضرار تحريماً تكليفياً مولوياً وأيضاً اتخاذ وسائل إجرائية لحماية هذا التحريم وبالتالي عدم تحقق الضرار في الخارج.

بالنسبة للفقرة الأولى(لا ضرر) ما هو الموجب لأن نقول أنّ الملابسات التي تكتنف الكلام ونوع الموضوع المنفي، هذه الأمور كلّها دخيلة إذا لاحظناها تقتضي الالتزام بما قاله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) في لا ضرر للنكتة التي أشرنا إليها وهي أنّ الضرر اسم معنى مصدري، يُعبّر عن نفس النقص والمنقصة النازلة بالإنسان، هذا الضرر واضح أنّ هذا لا يُقدم عليه الإنسان ولا يصدر من الإنسان ولا يضر الإنسان نفسه، فهذا شيء خلاف الطبع، عادة الإنسان لا يضر نفسه، وإنّما يتحمّل هذا الضرر في حالة واحدة، وهي حالة ما إذا ألزمه الشارع بذلك. من هنا يكون نفي الضرر في مقام التشريع ـــــ يعني النفي داخل على الطبيعة ــــــ يكون ظاهراً في نفي الحكم المسبب للضرر، ومن هنا تكون جملة(لا ضرر) ظاهرة في نفي الأحكام الضررية.