الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/07/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

 

الكلام في الجواب الثاني: الذي ذكره السيد الخوئي (قدّس سرّه) عن الاعتراض السابق، وقلنا أنّ الجواب الثاني كان مبنياً على وجود فرقٍ بين نسبة الفعل إلى الضرر، وبين نسبة الحرج إلى الخطأ والنسيان، يقول أنّ الخطأ والنسيان سبب للفعل الصادر خطئاً والفعل الصادر عن نسيان، فالفعل يكون معلولاً للخطأ ومعلولاً للنسيان، بينما في باب الضرر يكون الأمر بالعكس؛ لأنّ الفعل هو الذي يسبب الضرر. يقول: إطلاق نفي السبب وإرادة نفي المسبب هو شيء متعارف، بينما العكس وهو إطلاق نفي المسبب وإرادة نفي السبب غير متعارف، ثمّ يطبق هذه الفكرة على حديث الرفع وعلى حديث نفي الضرر، في حديث الرفع بالنسبة إلى فقرة النسيان والخطأ، يقول لا مشكلة هناك في أن يُراد بالمنفي هو الفعل؛ لعدم وجود مشكلة في ذلك؛ لأنّ الخطأ سبب للفعل، والنسيان سبب للفعل، فيُنفى السبب ويُراد منه نفي الفعل المسبب، فبالنتيجة المنفي في رُفع الخطأ والنسيان يعني الفعل الذي يقع عن خطأ وعن نسيان، إذا كان هذا هو المنفي، فما معنى نفي الفعل شرعاً ؟ معناه عدم ترتب حكم عليه، معنى أنّ هذا الفعل منفي شرعاً وأنّه بحكم العدم شرعاً معناه أنّ الحكم لا يترتب عليه، فبالتالي وصلنا في حديث الرفع إلى أنّ المنفي في الخطأ والنسيان هو الفعل الصادر عن خطأ، أو الفعل الصادر عن نسيانٍ، ومعنى نفي الفعل هو نفي حكمه، فيصح أن نقول هناك المنفي هو الحكم، لكن بلسان نفي موضوعه، هذا يصح في حديث الرفع؛ فحينئذٍ لا فرق في حديث الرفع بين أن يقول رُفع ما اضطروا إليه أو يقول رُفع الخطأ، رُفع ما استكرهوا عليه، أو رُفع النسيان، في كلٍ منهما المرفوع هو الحكم المترتب على الفعل الصادر خطئاً، أو الصادر عن إكراهٍ، أو الصادر عن نسيان...وهكذا سائر الفقرات الأخرى، بينما هذا غير ممكن في حديث نفي الضرر؛ لأنّ الضرر معلول للفعل، والفعل هو الذي يكون سبباً للضرر، وليس من المعهود في الاستعمالات العرفية نفي المسبب وإرادة نفي سببه حتى نقول أنّه هنا نفى الضرر ومقصوده نفي سبب الضرر الذي هو الفعل، لو كان معهوداً لا مشكلة فيه، فنقول نفى الضرر ومقصوده نفي سببه الذي هو الفعل، ونفي السبب هو نفي لحكمه، فيثبت نفس الكلام، لكن يقول أنّ هذا غير معهود، وإذا كان معهوداً، فأيضاً يحتاج إلى قرينة واضحة.

قد يُعترض على هذا الجواب ويقال: لا فرق بين المقامين، يعني بين أن يكون الفعل معلولاً للخطأ والنسيان وبين أن يكون معلولاً للضرر، بين المقامين لا يوجد فرق في أنّ كلاً منهما بحاجة إلى قرينة، وكلٌ منهما خلاف الظاهر، فعندما يقول رُفع الخطأ يعني رُفع الخطأ، ورفع النسيان يعني رُفع النسيان، في حديث نفي الضرر عندما يقول(لا ضرر) يعني أنّ المنفي هو الضرر، نحن نقول هناك أنّ المنفي ليس هو النسيان، وإنّما هو الفعل الصدر عن نسيان، أو الفعل الصادر عن الخطأ، هذا خلاف الظاهر، هنا في محل الكلام نقول أنّ المنفي ليس هو الضرر، وإنّما هو الفعل الذي يكون فيه ضرر، هذا أيضاً خلاف الظاهر، كلٌ منهما خلاف الظاهر ويحتاج إلى قرينة؛ لأنّ نفي السبب وإرادة نفي المسبب كما طبّقه على حديث الرفع، نفي الخطأ ونفي النسيان وإرادة نفي الفعل هذا كنفي المسبب الذي هو نفي الضرر في محل كلامنا وإرادة نفي السبب الذي هو الفعل؛ لأنه بحاجة إلى قرينة، ولكونه خلاف الظهور الأولي للرفع ول (لا) النافية للجنس.

هذه الدعوى التي ذكرها السيد الخوئي (قدّس سرّه) نفسه من أنّ الأول معهود والثاني غير معهود في الاستعمالات العرفية هي دعوى غير تامّة؛ لأنّ هذه الاستعمالات هي أساساً غير معهودة في الاستعمالات العرفية، نفي السبب وإرادة نفي المسبب، أو نفي المسبب وإرادة نفي السبب، فلا نستطيع أن نقول هذا معهود وهذا غير معهود، هي كلّها أمور ليست معهودة وكلّها تحتاج إلى قرينة. هذا من جهةٍ.

من جهةٍ أخرى: يُلاحظ على كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه) الذي ذكره في الجواب الثاني أنّ الاحتمال الثالث الذي اختاره هو في تفسير حديث نفي الضرر ووافق فيه المحقق النائيني(قدّس سرّه) ووافق الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) أنّ الاحتمال الثالث الذي اختاره هو يبتني على ما نفاه واعتبره غير معهودٍ الذي هو نفي المسبب وإرادة نفي السبب، هو قال أنّ نفي السبب وإرادة نفي المسبب معهود وطبّقه على الخطأ والنسيان، لكن نفي المسبب وإرادة نفي السبب، قال أنّه غير معهود.

أقول: أنّ هذا هو الذي يبتني عليه ذهابه إلى الاحتمال الثالث؛ لأنّه في الاحتمال الثالث ببعض تقريباته على الأقل، هو يبتني على هذه الفكرة. مثلاً: التقريب الرابع كان يقول أنّ الحديث الشريف ينفي الضرر، والمراد بالضرر الضرر نفسه وليس المراد به الحكم، فما يُنفى بالحديث الشريف هو الضرر، لكن الغرض والمقصود الأصلي من الإخبار عن نفي الضرر هو الإخبار عن نفي سببه وهو الحكم الشرعي؛ ولذا قالوا أنّ مفاد الحديث هو نفي الأحكام الشرعية الضررية. فهنا نفى المسبَب والمقصود الأصلي هو نفي السبب، هذا ليس من باب نفي السبب والمقصود هو نفي المسبب الذي قال عنه أنه أمر معهود، هذا بالعكس، هذا ينبغي أن يكون أمراً غير معهود، بينما هذا الكلام هو مبتنٍ عليه، يعني الاحتمال الثالث هو مبني في بعض تقريباته على الأقل على فكرة نفي المسبَب وإرادة نفي سببه الذي هو عبارة عن الحكم الشرعي.

على كل حال، ما نريد أن نقوله هو أنه في هذا الجواب الثاني للسيد الخوئي (قدّس سرّه) غرضه واضح وهو أن يدفع الإشكال الذي وجهه على نفسه الذي هو أنكم لماذا تفرّقون بين نفي الضرر وبين رفع الخطأ والنسيان في حديث الرفع ؟ هناك قلتم أنّ المرفوع هو حكم الفعل الذي يقع عن خطأٍ، أو حكم الفعل الذي يقع عن نسيان، هنا في المقام أيضاً قولوا ذلك، أنّ نفي الضرر معناه هو نفي الحكم عن الفعل الضرري كوجوب الوضوء ووجوب القيام ....الخ. قلتم هنا لا يصح أن نقول أنّ هذا من باب نفي الحكم بنفي موضوعه، لكن هناك قلتم من باب نفي الحكم بنفي موضوعه، فجاوب عنه بهذا الجواب الثاني الذي هو أنّ العلاقة هناك هي أنّ الخطأ والنسيان سبب للضرر، ولا مشكلة في نفي السبب وإرادة نفي المسبَب؛ لأنّه معهود، بينما في محل كلامنا الضرر مسبّبٌ عن الفعل ولا معنى لنفي المسبَب وإرادة نفي السبب؛ لأنه غير معهود، هذا هو غرضه من الجواب.

لكن يُفهم من كلامه هذا أنه توجيه لما ذهب إليه صاحب الكفاية(قدّس سرّه) الاحتمال الرابع، يُفهم منه أنّ هناك وجه يمكن أن يُذكر لهذا الاحتمال الرابع الذي ذهب إليه صاحب الكفاية(قدّس سرّه)؛ لأننا قلنا بقطع النظر عن هذا التوجيه، لأول وهلة ما ذهب إليه صاحب الكفاية(قدّس سرّه) يقع موضع حيرة؛ لأننا قلنا بورود الاعتراض السابق عليه، المنفي هو الضرر، أنت تطبّق فكرة أنّ هذا من باب نفي الحكم بلسان نفي موضوعه، لكن هذا ينتج نفي حرمة الضرر والإضرار، وهذا غير مقصود وغير معقول على ما تقدّم، لكن يمكن توجيه كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) بأن يقال: أنّ مراده هو أنّ نفي الضرر في حديث نفي الضرر يُراد به نفي الفعل الضرري، باعتبار أنّ الضرر مسبَب عن الفعل، فهناك علاقة سببية ومسببية بين الفعل الضرري وبين الضرر، أنّ هذا الفعل يسبب الضرر، فصار الضرر مسبَباً والفعل سبباً، هنا نقول هو نفى المسبَب ومقصوده هو نفي سببه الذي هو الفعل، ومعنى اعتبار الفعل بحكم العدم شرعاً هو نفي حكمه، وبذلك يصل إلى مقصوده وهو الاحتمال الرابع والذي هو أنّ مفاد قاعدة لا ضرر هو نفي الأحكام المترتبة على الأفعال الضررية، وليس نفي الأحكام الضررية التي تستلزم الضرر، وإنّما نفي الحكم المترتب على الفعل الضرري، فيصل إلى مقصوده؛ لأنّ نفي الضرر يُراد به نفي الفعل من باب نفي المسبب الذي هو الضرر وإرادة نفي سببه. هذا توجيه كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)؛ وحينئذٍ يثبت به الاحتمال الرابع.

وبعبارةٍ أخرى: أنّ الذي يُفهم من كلام أصحاب الاحتمال الثالث وأصحاب الاحتمال الرابع أنّ الضرر له سببان ـــــ بقطع النظر عن كونهما طوليان أو في عرضٍ واحد ـــــ السبب الأول للضرر هو الحكم الشرعي، وهذا الذي ثبته في الاحتمال الثالث، السبب الثاني للضرر هو الفعل الضرري كالوضوء في حالات خاصّة يكون سبباً للضرر؛ حينئذٍ كأنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) خاطب أصحاب القول الثالث، إذا صحّ أن يُراد بنفي الضرر نفي الحكم الشرعي ـــــ كما يقولون ـــــ المسبِب للضرر، إذن: يصح لنا أيضاً أن نقول أنّ المراد بحديث نفي الضرر هو نفي الفعل الضرري المسبِب للضرر؛ لأنّ كلاً منهما سببٌ للضرر.

فإن قيل: الضرر ليس عنواناً للفعل وليس بينهما أي نحوٍ من أنحاء الاتحاد، مفهومان مختلفان ولا علاقة للضرر بالوضوء، فلا يصح حينئذٍ أن يُجعل الضرر مرآة للفعل، فلا يصح أن يُراد من نفي الضرر نفي الفعل؛ لأنّ الضرر ليس عنواناً للفعل وليس هو مرآة للفعل، وإنّما هما مفهومان مختلفان.

نقول: نفس الكلام يرِد عليكم؛ إذ أنّ الضرر والحكم الشرعي أيضاً هما مفهومان متباينان، وليس بينهما أي نوعٍ من الاتحاد، العلاقة هي علاقة السببية والمسببَية وليس علاقة العنوان بالمعنون، وهذه العلاقة كما هي موجودة بين الحكم الشرعي والضرر هي أيضاً موجودة بين الفعل الضرري وبين الضرر، في كلٍ منهما العلاقة محفوظة، كما أنّ الضرر ليس عنواناً للفعل كذلك الضرر ليس عنواناً للحكم الشرعي، فلا فرق بينهما.

فإن قيل: نحن لا نجعل الضرر عنواناً للحكم الشرعي حتى يُشكل علينا بأنّ الضرر كما هو ليس عنواناً للفعل أيضاً هو ليس عنواناً للحكم الشرعي، لكن نلتزم بالاحتمال الثالث بالتقريب الرابع ونقول أنّ المراد بالضرر في الحديث هو الضرر نفسه، لا ضرر يعني لا ضرر، ولا نقول بأنّ المراد بالضرر هو الحكم الشرعي حتى تقول أنه ليس عنواناً للحكم الشرعي ولا مرآة له، وإنما نقول أنّ المراد بنفي الضرر هو نفي الضرر، لكن نقول أنّ المراد الأصلي بنفي الضرر والإخبار عن نفي الضرر هو الإخبار عن نفي سببه الذي هو الحكم الشرعي.

إذا قالوا ذلك؛ حينئذٍ بإمكان صاحب الكفاية(قدّس سرّه) أن يقول نفس الكلام نطبّقه على ما نقوله، أيضاً نقول بأنّ نفي الضرر يُراد به نفي الضرر نفسه ويكون المقصود بالإخبار عن نفي الضرر هو الإخبار عن نفي سببه الذي هو الفعل الضرري وليس الحكم الشرعي، ليكن الإخبار عن نفي الضرر إخباراً عن نفي الفعل الضرري الذي ينتج نفي الحكم؛ لأنّ معنى نفي الفعل شرعاً يعني نفي حكمه، فأيضاً بإمكاننا أن نقول يُراد من نفي الضرر ليس من باب استعمال الضرر في الفعل، وإنما المقصود الأصلي من نفي الضرر هو نفي سببه، لكن سببه ليس هو الحكم الشرعي كما تقولون، وإنما سببه هو الفعل الضرري، فينتفي الفعل الضرري، ومعنى نفيه هو نفي الحكم الشرعي، فما هو الفرق حينئذٍ ؟

بل بإمكان صاحب الكفاية(قدّس سرّه) أن يزيد على هذا ويقول أنّ علاقة السببية بين الفعل وبين الضرر أوضح منها بين الحكم الشرعي وبين الضرر، باعتبار أنّ الحكم الشرعي إنما يكون سبباً للضرر بتوسط الفعل الضرري، وإلا من دون توسط الفعل الضرري لا ضرر حينئذٍ، من دون أن يتوضأ في البرد القارس لا يكون هناك ضرر، حتى لو كان هناك حكم شرعي يقول يجب عليك الوضوء، هذا لا يوقعه في الضرر.

بعبارةٍ أخرى: أنّ الحكم الشرعي يكون سبباً للضرر بتوسط الفعل الضرري، ومن هنا تكون العلاقة بين الفعل الضرري وبين الضرر أوضح من العلاقة بين الحكم الشرعي وبين الضرر، هذه الأوضحية في العلاقة في السببية قد تكون لصالح صاحب الكفاية(قدّس سرّه) بمعنى أنّ هذه العناية التي تبذل في المقام من باب أولى أن تبذل وتلاحظ بين الفعل الضرري وبين الضرر، فيقال أنّ المقصود بنفي الضرر هو نفي سبب الضرر الذي هو الفعل الضرري، الذي يسبب الضرر مباشرة هو الفعل الضرري وليس الحكم الشرعي حتى على التقريب الثالث الذي ذكره الميرزا (قدّس سرّه) أيضاً علاقة الفعل بالضرر أقوى من علاقة الحكم الشرعي بالضرر، الحكم الشرعي ورد فيه الإشكال السابق على الميرزا (قدّس سرّه) من أنّ هذا ليس سبباً توليدياً للضرر؛ لأنّه تتوسطه الإرادة والاختيار، إذن: هو ليس سبباً توليدياً، فلا يصح حينئذٍ أن يطلق الضرر على الحكم ، كان هذا الإشكال موجوداً. هذا الإشكال يخف فيما إذا لاحظنا الفعل مع الضرر، حتى التقريب الثالث المتقدّم يكون أوضح إذا لاحظناه بالنسبة إلى الفعل والضرر منه ما إذا لاحظناه بالنسبة إلى الحكم الشرعي والضرر.

إلى هنا نقول: يبدو أنه لا مرجّح للاحتمال الثالث على الاحتمال الرابع الذي يقول به صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، فإذن حتى نرجح الاحتمال الثالث لابدّ أن نفتش عن وجهٍ معقول للأرجحية هو الذي يوجب ترجيح تفسير الحديث الشريف بنفي الأحكام الضررية كما يقول أصحاب الاحتمال الثالث نرجّحه على الاحتمال الرابع الذي يقول بأنّ الحديث الشريف ينفي الحكم الثابت للفعل الضرري في حال كونه مضراً.