الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
37/07/10
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
الاعتراضات التي أوردت على الاحتمال الثاني عديدة نذكر بعضاً منها :
الاعتراض الأول : ما عن المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وحاصله أنّ إرادة النهي من النفي لا يُصار إليه إلاّ بعد تعذّر إرادة النفي الذي هو المعنى الحقيقي لهذه الجملة التركيبية، وفي المقام لا يتعذّر إرادة المعنى الحقيقي ــــــ إرادة النفي ــــــ لإمكان حمل الحديث الشريف على نفي الحكم الضرري، وإبقاؤها على ظاهرها وهو النفي؛ وحينئذٍ لا يُصار إلى النهي في محل الكلام؛ لأنّه لا موجب لرفع اليد عن المعنى الذي يكون هو ظاهر الكلام من دون قرينة واضحة معيّنة بحيث يتعذر إرادة المعنى الحقيقي؛ عندئذٍ يُحمل على المعنى الآخر .
هذا الاعتراض كأنّه مبني على افتراض أنّ صاحب الاحتمال يدّعي استعمال النفي في النهي، فيقول أنّ هذا الاستعمال لا موجب له حيث يمكن حمل الجملة على النفي؛ فلماذا يُصار إلى إرادة النهي ؟! فأنّ الجملة موضوعة للنفي، فتستعمل في النفي، وحيث يمكن حملها على ذلك، فلا يصار إلى حملها على النهي.
وأمّا إذا فرضنا أننا قرّبنا هذا الاحتمال بما تقدّم في بعض التقريبات السابقة التي تقر بأنّ الجملة مستعملة في معناها الحقيقي، بمعنى أنّ جملة (لا ضرر) مستعملة في النفي، أو بعبارة أكثر وضوحاً: مستعملة في الإخبار عن نفي الضرر، غاية الأمر أنّ المراد الجدّي، أو المراد الواقعي ليس هو نفي الضرر خارجاً، وإنّما بعض الوجوه يقول أنّ المراد الحقيقي هو الإخبار عن الملزوم، الجملة تُخبر عن اللازم الذي هو نفي الضرر والمراد الجدّي هو الإخبار عن الملزوم الذي هو النهي والتحريم، باعتبار أنّ لازم التحريم هو عدم تحقق الضرر في الخارج. هنا لا يمكن أن نقول أنّ الجملة استُعملت في النهي ــــ بناءً على هذا التقريب ــــ وإنما استُعملت في معناها الحقيقي الذي هو النفي، فإذا كانت المسألة مسألة استعمال النفي في النهي وأنّه لا موجب لهذا الاستعمال حيث يمكن أن تستعمل الجملة في معناها الحقيقي، فهذا جوابه هو أنّ هذا مبني على افتراض أنّ صاحب الاحتمال يدّعي استعمال النفي في النهي، فيقال لا موجب لذلك بعد إمكان حمل الجملة واستعمال اللّفظ في معناه الحقيقي، لكن على بعض التقريبات المتقدّمة لتقريب هذا الاحتمال لا يلزم ذلك إطلاقاً؛ بل بناءً على التقريب الثاني والثالث وحتى الرابع أيضاً، على كل هذه الاحتمالات الجملة مستعملة في النفي، وعلى نفي الضرر والإخبار عن عدم الضرر، فهي مستعملة في معناها الحقيقي وليس هناك استعمال في غير المعنى الحقيقي؛ بل المراد الجدّي التفهيمي هو الإخبار عن النهي والتحريم كما في بعض التقريبات. في تقريبات أخرى أيضاً، كل التقريبات المتقدّمة تقريباً تقول أنّ النفي مستعمل في معناه الحقيقي، يعني في النفي، فلا يوجد استعمال النفي في النهي حتى يقال أنّ هذا لا يُصار إليه بعد إمكان حمل الجملة على معناها الحقيقي.
الاعتراض الثاني : هو أيضاً ذُكر في كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وحاصله أنّ النص والفتوى تخالف حمل الجملة على إرادة النهي والتحريم التكليفي؛ لأنّ قضية سمرة بن جندب لا يناسب كون(لا ضرر) واردة لمجرّد بيان الحرمة، كما أنّ الفقهاء استدلوا بالحديث الشريف لنفي الحكم الضرري، فحمل الحديث على إرادة النهي التكليفي فقط لا يناسب مورد الرواية(قصة سمرة بن جندب) يعني لابدّ أن تكون ناظرة أيضاً إلى نفي الحكم الضرري؛ لأنّه يقال في قصة سمرة بن جندب ليس فقط الحرمة التكليفية ثابتة، وإنما توجد مسألة قلع الشجرة، ومنع سمرة من الدخول إلى ما يملك، هذه كلّها لا يمكن استفادتها من الحديث الشريف بناءً على أن يكون مفاده هو النهي التكليفي فقط، لابدّ أن نقول أنّ المستفاد منه شيء آخر غير النهي التكليفي بأن يقال: أنّ جواز تصرّف المالك في ما يملك وجواز وصوله إليه سبب ضرراً للأنصاري، فالحديث الشريف يرفع هذا الجواز، هذا من باب نفي الحكم الضرري، وإن كان يُستفاد منه التحريم، لما قلناه من أنّ الحكم المرفوع إن كان هو الجواز كان لازم ذلك هو التحريم، لكن هذا يعني أنّ الحديث الشريف طُبّق على مورد سمُرة بن جندب ومُنع من دخوله إلى هذا العذق؛ بل أُمر بأن يُقلع هذا العذق، هذا لا يمكن تطبيق الحديث الشريف عليه إلاّ مع افتراض أنّ الجملة مفادها فقط النهي التكليفي. الفقهاء من جهةٍ أخرى هم افتوا بنفي الحكم الضرري استناداً إلى قاعدة(لا ضرر)؛ فحينئذٍ يكون حمل الحديث على إرادة النهي التكليفي فقط لا يمكن المصير إليه.
هذا الكلام يمكن أن يُعكس المطلب عليه، فيقال: في مورد تطبيق الرواية الذي هو قصة سمُرة بن جندب، قد يقال هذا لا يناسب أن يكون المراد من الحديث هو نفي الحكم الضرري، هناك رأي يقول أصلاً لا يمكن تطبيق الحديث في قصة سمُرة بن جندب مع افتراض أنّ مفاد الحديث هو نفي الحكم الضرري؛ بل يتعيّن أن نحمل الحديث على النهي التكليفي والحرمة التكليفية، باعتبار أنّه في قصة سمُرة بن جندب لا يوجد حكم شرعي ضرري حتى يكون الحديث بتطبيقه على ذاك المورد نافياً لذلك الحكم الضرري؛ لأنّ المراد بالحديث هو نفي الحكم الضرري، فينطبق على هذا الحكم، وذلك باعتبار دعوى أنّ الحكم الضرري لابدّ أن يكون حكماً اقتضائياً إلزامياً كالحرمة والوجوب؛ حينئذٍ يقال أنّ هذا الحكم الضرري، كوجوب الوضوء في موارد معينة يكون حكماً ضررياً؛ لأنّ فيه إلزام وفيه جهة اقتضاء، فهو يقتضي من المكلف التحرّك والإتيان بالفعل، فإذا كان الفعل ضررياً؛ حينئذٍ يقال أنّ هذا الإلزام به يكون حكماً ضررياً، أو التحريم في بعض الأحيان يكون ضررياً مثل تحريم استعمال بعض المحرّمات لعلاج الإنسان من الموت ــــــ مثلاً ــــــ هذا أيضاً يلزم منه الضرر، فيرتفع هذا التحريم؛ لأنّ التحريم فيه جنبة إلزام وفيه اقتضاء الترك، فيكون حكماً ضررياً، وأمّا إذا فرضنا أنّ الحكم ليس اقتضائياً، وإنّما الحكم هو الإباحة، والإباحة لا تكون حكماً ضررياً؛ لأنّها تعني أنه من ناحية الشارع لا مانع من الفعل أو الترك، ، فلو فرضنا أنّ هناك إباحة، فهي لا تسبب الضرر؛ لأنّه من ناحية الشارع، الشارع لم يلزم هذا المكلّف بالفعل حتى يقال أنّ هذا الحكم صار ضررياً بهذا الاعتبار، ولا ألزمه بالترك، وإنّما اباح له كلاً منهما، فالإباحة ليست حكماً ضررياً، الحكم الضرري هو خصوص الأحكام الاقتضائية التي هي من قبيل الوجوب والتحريم.
بناءً على هذا الكلام، قد يقال: في قصة سمُرة بن جندب لا يوجد حكم اقتضائي ضرري حتى يقال أنّ الحديث ينطبق على هذا المورد، فينفي ذلك الحكم الاقتضائي الضرري؛ لأنّه لا يوجد حكم نعبّر عنه بوجوب مرور الرجل إلى عذقه حتى نقول أنّ هذا الحكم بالوجوب ضرري، فالحديث حينئذٍ يرفعه بناءً على تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري، ليس لدينا حكم بالوجوب، وإنّما إن كان هناك حكم فهو الإباحة، إباحة المرور إلى عذقه الذي يملكه، والإباحة لا اقتضائية، وهي ليست حكماً ضررياً، فبالتالي لا يمكن أن نقول أنّ المراد بالحديث هو نفي الحكم الضرري؛ لأنّه يواجه مشكلة عدم إمكان تطبيقه على مورده، فيتعيّن ـــــ بناءً على هذا الكلام ــــــ أن نحمل الحديث على النهي التكليفي والتحريم التكليفي عكس ما قال هو، هو قال لا يصح حمله على النهي التكليفي، بناءً على هذا نقول لا يصح حمله على نفي الحكم الضرري في مورد الرواية، فقد يُنقض على كلام الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) بهذا الكلام. ومسألة أنّ الحكم الضرري لابدّ أن يكون اقتضائياً ولا يصح أن يكون غير اقتضائي كالإباحة سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
الاعتراض الثالث: ما في الكفاية،[1] ورد في الكفاية أنّ إرادة النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز، إلاّ أنّه لم يُعهد في مثل هذا التركيب، وكأنّه يريد أن يقول أنّ إرادة النهي من النفي موجودة وممكنة في كثير من الموارد، لكن ليس في هذا التركيب، يعني(لا) النافية عندما تدخل على الفعل، هي نافية، لكن متعارف أن يراد بهذا النفي النهي، من قبيل(لا يعيد) أو (لا يضح) إذا سأل الشخص عن أنّه هل يصح الأمر الفلاني، فقيل له(لا يصح) هذا نفي والجملة خبرية، أو قيل: هل يُكتفى بتغسيل الميت بغسله بالماء القراح مرّة واحدة ؟ فيأتي الجواب(لا يكفي) وهي جملة خبرية، لكن استعمالها في النهي هو أمر معهود ومتعارف، لكن عندما تكون(لا النافية) داخلة على اسم الجنس والمنفي بها هو الحقيقة بحيث أنّ النفي مسلّط على الحقيقة من قبيل ما نحن فيه(لا ضرر) في هذه الحالة يقول لم يُعهد إرادة النهي من الجملة الخبرية؛ ولذا يقول: إنّ إرادة النهي من النفي، وإن كان ليس بعزيز، لكنّه غير معهود في مثل هذا التركيب من قبيل(لا شك لكثير الشك) و(لا سهو في النافلة) وأمثال هذه التعبيرات، هذه لا يمكن حملها على النهي، (لا يصح)، (لا يكفي)، (لا يعيد) وأمثاله يمكن حملها على النهي؛ بل هو أمر معهود، لكن(لا شك لكثير الشك)، (لا سهو في النافلة) هذه لا يمكن حملها على النهي؛ بل لابدّ أن يكون المراد بها هو النفي، وما نحن فيه من هذا القبيل. هذا ما ذكره في الكفاية.
الجواب عن هذا هو ما تقدّم سابقاً من أنّ هذا كأنّه مبني على افتراض أنّ صاحب هذا الاحتمال يدّعي أنّ النفي مستعمل في النهي، فيقول أنّ استعمال النفي في النهي هو أمرٌ غير معهود. نعم، هو معهود في غير هذا التركيب، هو معهود في(لا يعيد) وفي (لا يكفي) أيضاً وفي(لا يصح) كذلك معهود، لكن قلنا أنّ صاحب هذا الاحتمال يمكن تقريب كلامه بوجوه أخرى نحافظ فيها على استعمال النفي في معناه، في الإخبار عن عدم تحقق هذا الشيء، نحافظ فيه على هذا المعنى بحيث أنّ الكلام مستعمل في معناه الحقيقي، غاية الأمر أنّ المراد الجدّي للمتكلّم ليس هو هذا، وإنّما المراد الجدّي للمتكلّم هو شيء آخر، وهو بيان وجود المانع الشرعي الذي يمنع من وجود الضرر خارجاً، الذي هو التحريم والنهي، هذا هو المراد الجدّي، لكن بحسب المراد الاستعمالي اللّفظ مستعمل في معناه الحقيقي في النفي وفي الإخبار عن النفي ليس إلاّ، ولا يُدّعى في التقريبات الأخرى أنّ النفي استُعمل في النهي، وإنّما هو مستعمل في معناه الحقيقي، أي النفي، وبداعي الإخبار، غاية الأمر أنّ الغرض الجدّي هو بيان التحريم وبيان المنع الشرعي، ومن هنا لا نستطيع أن نقول أنّ هذا غير معهود، لماذا غير معهود ؟ كلام مستعمل في معناه الحقيقي، وعلى بعض التقريبات السابقة كالتقريب الرابع أصلاً هو مستعمل في معناه الحقيقي، والمراد الجدّي أيضاً هو المعنى الحقيقي، المراد الجدّي هو الإخبار عن عدم تحقق الضرر خارجاً، لكن من باب المبالغة في المنع، وأنّ المنع الشرعي كأنّه يلازم عدم تحققه واقعاً، وكأنّه ينظر إلى القضية وكأنّ هذا الشيء غير متحقق، فيخبر عن عدم تحققه حقيقة، ويكون الغرض هو الإخبار عن عدم تحققه في الخارج. إذن: ليس هو أمراً غير معهودٍ.
الاعتراض الرابع: الذي يستفاد من كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه) في مصباح الأصول،[2] ما ّكره هو أنّه بناءً على أنّ الحديث يشتمل على كلمة في الإسلام، أي(لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) حينئذٍ قيد(في الإسلام) هو بنفسه يكشف عن أنّ المراد بلا ضرر هو نفي الحكم الضرري، يعني النفي في مقام التشريع وليس النفي نفياً للوجود الخارجي للضرر بداعي الزجر، أو بداعي النهي على ما يقوله هذا المحقق، وإنّما هذه العبارة ـــــ إذا كان القيد موجوداً ـــــ واضحة في ما يقوله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) من أنّ المقصود هو نفي الحكم الضرري (لا ضرر في الإسلام) يعني نفي وقوع الضرر موضوعاً للحكم الشرعي في الشريعة، وهذا يرجع إلى نفي الحكم الضرري، وليس أنّ الغرض منه هو الإخبار عن نفي الضرر في الخارج بداعي الزجر وبداعي النهي على ما ذُكر.
وأمّا بناءً على عدم وجود هذا القيد كما هو الصحيح، وهو أيضاً يقول كما هو الصحيح؛ حينئذٍ يقول أنّ حمل النفي على النهي يتوقف على وجود قرينة صارفة عن ظهور الجملة في كونها خبرية، إذا وجدت القرينة الصارفة، فلا مانع من حمل النفي على النهي لوجود القرينة الصارفة عن معناه الحقيقي كما هو الحال في قوله تعالى: ﴿لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج﴾.[3] هنا قامت القرينة الصارفة عن معناه الحقيقي، والقرينة هي أنّ الرفث واقع في الخارج والفسوق واقع في الخارج وكذلك الجدال، والمفروض أنّ المتكلّم يستحيل عليه الإخبار بخلاف الواقع، فهذه قرينة صارفة عن إرادة نفي الرفث في الخارج، فلابدّ من حمله على النهي والتحريم التكليفي. وأمّا في محل الكلام، فلا توجد قرينة صارفة عن إرادة المعنى الذي يكون اللّفظ ظاهراً فيه؛ لإمكان حمل الجملة على النفي كما هو الرأي الآخر الذي يقول بإبقاء الجملة على معناها الظاهرة فيه، وهو النفي من دون أن نقول أنّها مستعملة في النهي، كلا ، هي باقية على معناها الحقيقي ومستعملة في النفي والمراد بها هو النفي، على الرأي الآخر الذي يقول به الشيخ(قدّس سرّه). فإذن: لا توجد قرينة صارفة عن إرادة المعنى الحقيقي؛ لإمكان الالتزام بالمعنى الحقيقي في محل الكلام. ومع عدم وجود قرينة صارفة يُلتزَم بالمعنى الظاهر.
يمكن أن يُلاحظ على هذا الكلام:
الملاحظة الأولى: على تقدير أن يكون قيد(في الإسلام) موجوداً، وجود القيد لعلّه يمنع من أن تكون(لا ضرر) مستعملة في النهي، لكنّه لا يمنع من أن يكون التحريم مراداً مستفاداً من الجملة. وبعبارةٍ أخرى: نلتزم بأنّ هذه القرينة قرينة على نفي وقوع الضرر موضوعاً لحكمٍ في الشريعة، لكن هذا لا ينافي أن نستفيد منه التحريم، وذلك بأن يقال أنّ المقصود في الحقيقة هو نفي وقوع الضرر موضوعاً للحكم بالجواز، وهذا مرجعه إلى نفي الجواز، يعني هذا يدخل في باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، (لا ضرر) هي نفيٌ للموضوع، لكن المراد هو نفي الحكم، وهذا معنى أنّ الضرر لا يقع موضوعاً لحكمٍ في الشريعة، لكن المراد بالحكم هو الجواز، فبالتالي كأنّ الشارع يريد أن يقول أنّ هذا الضرر لم يقع موضوعاً للجواز في الشريعة، فالمنفي هو الجواز، أي الحكم بجواز الضرر، وهذا يلازم التحريم. قلنا أننا لابدّ أن نحدد المنفي، في بعض الأحيان يكون المنفي هو الصحّة، هذا يلازم الفساد، وفي بعض الأحيان يكون المنفي هو الجواز، وهذا يلازم التحريم، فافتراض أنّ الحديث يُراد به نفي الحكم الضرري، وأنّ(في الإسلام) قرينة على أنّ المراد هو عدم وقوع الضرر موضوعاً للحكم في الشريعة، هذا صحيح ونلتزم به، لكن هذا لا يعني أنّنا لا يمكن أن نستفيد التحريم من الحديث الشريف، نلتزم بهذا ونقول أنّ المنفي هو الحكم، وهو الجواز، الضرر لم يقع موضوعاً للجواز في الشريعة، يعني أنّ الشارع لم يجوّز الضرر، بمعنى أنّ الشارع حرّم الضرر، فإذن: استفادة التحريم لا تنحصر بأن نقول أنّ المراد بالحديث الشريف هو النهي، يعني نفسّر الحديث بأنّ المراد به هو النهي حتى نستفيد التحريم، استفادة التحريم لا تنحصر بذلك، حتى لو كانت كلمة(في الإسلام) موجودة وكانت قرينة على النفي بلحاظ عالم التشريع، هنا يمكن استفادة التحريم من الجملة بأن نفترض أنّ الحكم الذي يريد الحديث بيان أنّ الضرر لم يقع موضوعاً له في التشريع هو عبارة عن الجواز.
الملاحظة الثانية: حمل النفي على النهي الذي قال أنّه يحتاج إلى قرينة صارفة، وإلاّ إذا لم تكن هناك قرينة صارفة؛ فحينئذٍ لا نحمل النفي على النهي، وإنّما نحمله على النفي، في الحقيقة هذا المطلب إنّما يصلح لمرجوحية الاحتمال الذي ذكره المحقق شيخ الشريعة(قدّس سرّه) وأرجحية الاحتمال الآخر الذي يقول به الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، إنّما يوجب مرجوحية ذاك وأرجحية هذا عندما نفترض أنّ الاحتمال الآخر احتمال مطابق لكل الظهورات وليس فيه مخالفة لأي ظهور من الظهورات، إذا افترضنا أنّ الاحتمال الآخر هكذا، في حين أنّ هذا الاحتمال يحتاج إلى قرينة صارفة؛ لأنّه خلاف الظاهر، هذا يوجب مرجوحية هذا أمام ذاك؛ لأنّ حمل الحديث على نفي الحكم الضرري ليس فيه أي مخالفة للظاهر، وليس فيه تجوّز، لكن إذا حملناه على النهي التكليفي، فيه هذه المخالفة؛ لأنّ هذا يحتاج إلى قرينة صارفة كما ذكر، إذن: هو تجوّز بحاجة إلى قرينة، بينما ذاك ليس بحاجة إلى قرينة؛ وحينئذٍ يُقدّم الذي لا يحتاج إلى قرينة، فيوجب مرجوحية ذاك الاحتمال وأرجحية هذا الاحتمال. وأمّا إذا قلنا أنّ هذا المعنى الذي يقترحه هو، هو كالمعنى الذي اعترض عليه في أنّ كلاً منهما يحتاج إلى قرينة، وكل منهما تجوّز بنحوٍ من أنحاء التجوّز، كل منهما فيه مخالفة لظهور من الظهورات، وبحاجةٍ إلى قرينة، إذا قلنا بذلك؛ حينئذٍ يتساوى الاحتمالان من هذه الجهة ولا موجب لتقديم هذا على ذاك، وأنّ هذا ارجح من ذاك.
بيان ذلك: المعنى الذي ذكره المحقق شيخ الشريعة(قدّس سرّه) وهو حمل النفي على النهي فرضاً بحاجة إلى قرينة كما هو ذكر، لكن حمل النفي على نفي الحكم الضرري أيضاً بحاجة إلى قرينة، أيضاً فيه مخالفة للظهور؛ لأنّ النفي الداخل على اسم الجنس معناه نفي وجود هذا الطبيعة خارجاً، هذا هو المعنى الحقيقي للجملة، وهذا المعنى الحقيقي بناءً على ما يقوله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) قطعاً غير مراد للمتكلّم، المتكلّم لا يريد أن يخبر عن نفي وجود الحقيقة في الخارج، هو يعلم بأنّ الحقيقة موجودة في الخارج، إذن: هذا المعنى الحقيقي غير مراد، وهذه نقطة مهمة. صحيح هو مراد استعمالي بناءً على التقريبات السابقة؛ لذا قلنا أنّ الجملة لم تستعمل إلا في معناها الحقيقي وهو النفي والإخبار ولم تُستعمل في النهي، لكن المراد الجدي شيء آخر؛ ولذا في التقريبات السابقة كلّهم كانوا يؤكدون على أنّ المراد الأصلي هو الإخبار عن الملزوم الذي هو النهي والنفي، أو المبالغة في النفي والنهي كما في بعض التقريبات، المراد الأصلي هو التحريم في التقريبات الأخرى، في الاحتمال الذي يذكره المحقق شيخ الشريعة(قدّس سرّه)، بناءً على أنّ المقصود في المقام هو نفي الحكم الضرري، السؤال الذي يُطرح هو كيف نلتزم بنفي الحكم الضرري ؟ هل في نفي الحكم الضرري مخالفة لظهور من الظهورات، أو لا ؟
نقول: نعم فيه مخالفات، أنّ ظاهر الجملة هو نفي تحقق الطبيعة في الخارج، هذا ليس هو المراد الجدّي، وإنّما المراد الجدّي هو عبارة عن نفي الحكم الضرري، يعني نفي وقوع الضرر موضوعاً لحكمٍ في الشريعة. بناءً على رأي الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) المقصود الجدّي ليس هو نفي وقوع الشيء في الخارج، وإنما هو نفي الحكم الضرري، أنّ الأحكام الضررية التي تسبب الضرر غير موجودة، وهذا معناه عدم وجود تطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدّي، وهذه مخالفة، صحيح أنّ المستعمل فيه واحد، استُعمل كل منهما في المعنى الحقيقي، سواء قلنا بذاك الاحتمال أو بهذا الاحتمال، لكن على هذا الاحتمال يكون المراد الجدّي ليس هو ما يُفهم من الكلام وما يُستعمل فيه اللّفظ، وإنّما المراد الجدّي هو نفي الحكم الضرري، أصالة التطابق بين المراد الاستعمالي وبين المراد الجدّي التفهيمي يبنون عليها، ولا تُرفع اليد عنها إلاّ بقرينة، لابدّ أن تقوم قرينة على أنّ المراد التفهيمي غير المراد الاستعمالي، وإلاّ إذا لم تكن هناك قرينة يُحمل المراد التفهيمي على أنّه هو نفس المراد الاستعمالي. إذن: هذا هو أيضاً بحاجة إلى قرينة يمكن أن نقول بشيءٍ من المسامحة ونوع من التجوّز بمعناه العام ونوع من خلاف الظهور، فإذن: هو بحاجة إلى قرينة، فإذا كان ذاك بحاجة إلى قرينة، فهذا أيضاً بحاجة إلى قرينة، ذاك بحاجة إلى قرينة؛ لأنّه لا يجوز استعمال النفي في النهي ــــــ بناءً على أنّ هذا هو مقصود المحقق شيخ الشريعة(قدّس سرّه) ـــــ إلاّ بقرينة صارفة، وهذا أيضاً فيه مخالفة، فكل منهما يحتاج إلى قرينة.