الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/07/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

 

الأمر الرابع: من الأمور التي استدل بها على الاحتمال الثاني هو ما ذكره شيخ الشريعة الأصفهاني (قدّس سرّه) من شيوع إرادة النهي من أمثال هذا التركيب، يعني (لا النافية للجنس). ثمّ ذكر أمثلة على ذلك كثيرة جداً، حيث ذكر أكثر من عشر أمثلة على ذلك، وأهم هذه الأمثلة هي الآية الشريفة: ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾.[1] باعتبار أنّ المستفاد من هذه الآية هو تحريم الرفث والفسوق والجدال في الحج. وذكر أمثلة أخرى، من قبيل قول الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا سبق إلاّ في خفٍ أو حافر، أو نصل).[2] وقوله الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) (لا غش بين المسلمين) وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).[3] وقوله: (لا شغار في الإسلام).[4] وقوله: (لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيام). وقوله: (لا خِصا في الإسلام). ......الخ ما ذكره من الأمثلة التي يرى بأنّ المراد بهذا التركيب فيها هو التحريم والنهي، فلا سبق إلاّ في خفّ، أو حافر أو نصل، يعني تحريم السبق في غير هذه الأمور تحريماً تكليفياً، وكذا لا غش بين المسلمين .....وهكذا في سائر الأمور.

لكن يمكن التشكيك في استفادة النهي التكليفي من على الأقل بعض ما ذكره، الأمثلة التي ورد فيها قيد(في الإسلام) لعلّ التشكيك فيها يكون واضحاً؛ لأنّ (في الإسلام) هو بنفسه يكون قرينة على أنّ المراد هو النفي بلحاظ عالم التشريع، حينما يقال(لا شغار في الإسلام) يعني نفيٌ في عالم التشريع، وفي الحقيقة هذا يرجع إلى نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ولا علاقة له بالنهي التكليفي، أو التحريم التكليفي، وإنّما يريد أن يقول أنّ هذا لم يقع موضوعاً للحكم الشرعي المناسب له، فإذا كان عقداً ـــــ مثلاً ـــــ لا يقع موضوعاً للنفوذ والصحة، فيستفاد منه الفساد لا أنه يريد أن ينفي وجود هذا في الخارج حتى يستفاد منه التحريم التكليفي، هذا ليس هو المنظور، ولا يناسب أن يقول(في الإسلام)، عندما يقول (في الإسلام) معناه أنّ هذا الشيء منفي بلحاظ عالم التشريع، لو لم تكن عبارة في الإسلام موجودة يمكن أن نقول أنّه منفي بلحاظ وجوده خارجاً، وهذا النفي بلحاظ الوجود الخارجي يكون بداعي النهي والتحريم، هذا ممكن. لكن عندما قيّده بقيد(في الإسلام) يكون هذا القيد قرينة على أنّ النفي بلحاظ عالم التشريع، يعني أنّ هذا لم يقع موضوعاً لحكم شرعي، وهذا يختلف باختلاف المنفي في الحديث، المهم أنه يرجع إلى نفي الحكم، لكن بلسان نفي الموضوع، وهذا غير مسألة استفادة النهي التكليفي والحرمة التكليفية. لو فرضنا (لا سبق إلا في حافر أو في نصل) أو (لا شغار في الإسلام) بقطع النظر عن(في الإسلام)، يعني عندما يكون شغار، والشغار عقد من العقود، وهو نكاح خاص كان معروفاً في الجاهلية، لا يستفاد من (لا شغار) النهي التكليفي، وهكذا(لا سبق إلاّ في حافر) لأنّ السبق أيضاً من جملة العقود. الظاهر أنّ الغرض من نفي هذه العقود التي هي أمور اعتبارية، هو نفي الصحة، فلا شغار يعني أنّ العقد ليس صحيحاً، فالغرض منه هو نفي الصحة، غاية الأمر أيضاً يكون من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، وبدلاً من أن ينفي صحة العقد ــــ الشغار ــــ هو ينفي الموضوع، وهذا شيء متعارف، وهذا أيضاً ليس له علاقة بالنهي التكليفي والتحريم التكليفي، وإنّما يستفاد من(لا شغار في الإسلام) أنّ نكاح الشغار ليس صحيحاً، هذا بقطع النظر عن قيد(في الإسلام) أمّا مع لحاظ هذا القيد؛ فحينئذٍ تكون القضية أوضح، وهذا يمكن تطبيقه على كثير من الموارد التي ذكرها. على كل حال، يمكن التشكيك في استفادة النهي التكليفي والحرمة التكليفية من كثير من الأمثلة التي ذكرها.

نعم، بعض الأمثلة ظاهرها النهي التكليفي والتحريم التكليفي من قبيل( لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) وهناك مثال آخر قد يصلح لأن يكون كذلك، لكنّه حتى مثل(لا خصا في الإسلام) فما دام قيد(في الإسلام) موجوداً؛ حينئذٍ تأتي فيه القرينة السابقة، يعني أنّ (الخِصا) لم يقع موضوعاً للحكم الشرعي، والحكم الشرعي المناسب له هو الجواز. نعم، نستفيد منه التحريم، لكن ليس بمعنى أنّ مدلول العبارة هو النهي التكليفي والتحريم التكليفي، كلا ، العبارة هي نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، لكن حيث أنّ الحكم المناسب لعبارة(لا خصا في الإسلام) هو الجواز، فتدلّ الجملة على أنّ الخصا لم يقع موضوعاً للجواز، فيفهم منه التحريم، ويُلتزم بالتحريم، لكن ليس من الجهة التي ذكرها هو، أي ليس معناه أنّ العبارة هي بنفسها تدلّ على التحريم التكليفي، وإنّما العبارة كسائر العبارات الأخرى التي ورد فيها قيد(في الإسلام)، المقصود هو النفي بلحاظ عالم التشريع، بمعنى أنّ هذا لم يقع موضوعاً لحكم في عالم التشريع، الحكم المناسب لهذا هو الجواز، فيُستفاد التحريم، بينما في مثل (لا شغار) الحكم المناسب هو الصحة، فيُستفاد الفساد.....وهكذا في سائر الموارد الأخرى . وإن بقي موردٌ نسلّم فيه بظهور الجملة في التحريم التكليفي، فهذا لا يستطيع أن يثبت ما يدّعيه من الشيوع.

الأمر الخامس: ما سيأتي الحديث عنه مفصّلاً في تنبيهات القاعدة، هناك اعتراض على الاستدلال بالقاعدة على نفي الحكم الضرري، هذا المعنى المشهور الذي اختاره الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) والكثير من المحققين، والاعتراض هو لزوم تخصيص الأكثر؛ لأننا إذا بنينا على أنّ الحديث الشريف يدل على نفي الأحكام الضررية، فما أكثر الأحكام الضررية؟! فهل يُلتزم بنفيها جميعاً ؟ قيل أنّ نصف الأحكام الشرعية تسبب الضرر وتكون موجبة للضرر، ولا يمكن الالتزام بنفيها، الجهاد، الديّات، القصاص، الحدود، الضمان، حتى العبادات التي تستلزم صرف المال، مثل الحج، الزكاة، الخمس.....الخ، كلّها أحكام ضررية، وقطعاً لا يمكن الالتزام بنفيها، فتخرّج من القاعدة بناءً على هذا المعنى الذي ذكره بالتخصيص، فيلزم تخصيص الأكثر المستهجن عرفاً.

هو يريد أن يستفيد من هذه النقطة، يريد أن يقول: أنّ هذا الإشكال إنّما يرِد على القول الآخر، أي إذا فسّرنا الجملة بنفي الحكم الضرري، إذا قلنا أنّ مفاد الحديث هو نفي الأحكام الضررية، الأحكام الضررية كثيرة في الشريعة ولا يمكن الالتزام بنفيها، فلابدّ من التخصيص وهو مستهجن، فنقع في هذا المحذور، يقول: إنّ هذا المحذور إنّما يرِد على ما يقولونه ، أي على التفسير الذي اختاره الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه)، وأمّا بناءً على التفسير الذي اختاره هو من أنّ مفاد الحديث هو النهي التكليفي والتحريم التكليفي لا يرد هذا الاعتراض، فمفاده هو تحريم الإضرار بالغير، وهذا لا علاقة له بالحكم الشرعي الذي يلزم منه الضرر، فهذا حكم شرعي حكم به الشارع ولزم منه الضرر، فهو لم يضر بنفسه ولا بغيره، فلم يرتكب حراماً، فلماذا نخصصه ؟ يبقى الجهاد واجب على حاله من دون افتراض تخصيص؛ لأنّه أصلاً غير مشمول للحديث؛ لأننا لا نفسر الحديث بنفي الحكم الذي يكون موجباً للضرر حتى نقول نحن بين أمرين، فإمّا ندخله في الحديث، فلابدّ أن ننفي هذا الحكم، أو لا ندخله، فيلزم محذور تخصيص الأكثر، بينما إذا فسّرنا الحديث بالحكم التكليفي والنهي التكليفي وحرمة الضرر، لا يلزم منه تخصيص الأكثر، ولا تكون هذه الأمور داخلة في هذا الحديث، مفاد الحديث هو حرمة إلحاق الضرر بالنفس أو بالغير، هذا لا علاقة له بالحكم بالجهاد والحكم بالخمس وغيره، هذا حكم شرعي يترتب عليه ضرر، نلتزم به، الحرام هو إلحاق الضرر بالنفس أو بالغير، وهذا لم يلحق ضرراً بنفسه ولا بالغير، وإنّما الحكم الشرعي هو الذي ألحق الضرر، فلا يلزم من ذلك تخصيص الأكثر، ويحاول أن يجعل هذا قرينة على صحّة التفسير الذي اختاره في مقابل التفسير الآخر.

قلنا أن هذا الإيراد سيأتي بحثه، وهو في الحقيقة يتألف من صغرى، وكبرى، الكبرى هي(استهجان تخصيص الأكثر) والصغرى هي(يثبت تخصيص الأكثر بالنسبة إلى قاعدة نفي الضرر بناءً على تفسير القاعدة بما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) من نفي الأحكام الضررية). بعبارة أخرى: هذه الأحكام الضررية مثل الجهاد والقصاص والديّات .....الخ، قطعاً هي خارجة عن الحديث؛ لأنّه قطعاً لا يمكن الالتزام بنفيها، لكن خروجها يكون خروجاً بالتخصيص، يعني هي داخلة، لكن تخرج باعتبار عدم إمكان الالتزام بعدم وجوب الجهاد وعدم وجوب الخمس، فيكون خروجها بالتخصيص، فيلزم تخصيص الأكثر المستهجن عرفاً، وهذا مؤشر على بطلان هذا القول.

قلنا أنّ هذا سيأتي الحديث عنه في تنبيهات القاعدة، لكن قبل هذا لابدّ أن نشير إلى بعض المناقشات التي ستأتي في الصغرى لا في الكبرى، أمّا الكبرى فتُذكر في محلّها، لكن نشير إلى بعض المناقشات التي ترِد على الصغرى، بمعنى أنّه هل صحيح أنّه يلزم من تبني هذا الرأي تخصيص الأكثر ؟ وبعبارة أخرى: هل يلزم من ذلك أن يكون خروج هذه الأحكام ــــــ التي لا يمكن الالتزام بنفيها ــــــ بالتخصيص ؟ أو أنّ خروجها يكون بالتخصّص وليس بالتخصيص ؟ إذا قلنا أنّ خروجها يكون بالتخصّص؛ فحينئذٍ لا تتم الصغرى؛ لعدم وجود التخصيص حتى يلزم تخصيص الأكثر، ونقول أنّه مستهجن بضم الكبرى إليه، وإنما هو خارج موضوعاً، أي خارج بالتخصّص، والحديث لا يشمله، فلا يشمل وجوب الجهاد، ولا وجوب الإنفاق، ولا وجوب الخمس......الخ من هذه الأحكام التي قيل أنّها أحكام ضررية، المناقشات تدور حول إنكار أن يكون هذا ضرراً، وبالتالي لا يكون مشمولاً للحديث، أنّ هذه الأحكام ليست أحكاماً ضررية، فلا مانع من أن نتبنى هذا الرأي ونقول أنّ الحديث ينفي الأحكام الضررية، لكنّ هذه الأحكام ليست أحكاماً ضررية، فهي خارجاً تخصّصاً فلا يشملها الموضوع.

ذكروا وجوهاً لبيان أنّ هذه الأحكام ليست ضررية، ومن جملة هذه الوجوه الوجه المعروف ويذكرونه أيضاً في حديث الرفع وقد تقدّم ذكره سابقاً، وهذا الوجه يقول أنّ القاعدة تنفي الأحكام التي تثبت للأشياء بعناوينها الأولية، ومقصودهم هو أن يكون الشيء الذي ثبت له الحكم له حالتان، ضرر، وعدم ضرر، مثل هذا الحكم الذي يثبت للشيء ومقتضى إطلاقه هو ثبوته في حالتي الضرر وعدم الضرر، حديث لا ضرر يشمل هذا الحكم الشرعي ويدل على تخصيصه بصورة عدم الضرر. وجوب القيام في الصلاة هو واجب شرعي ثابت للقيام بعنوانه الأوّلي من دون فرقٍ بين أن يكون موجباً للضرر، أو لا يكون موجباً للضرر، وكذلك وجوب الغُسل ، ووجوب الوضوء......وهكذا في سائر الموارد والأحكام الشرعية. الحكم باللزوم في بعض المعاملات، هذا حكم شرعي يثبت للمعاملة بعنوانها الأوّلي، هذه المعاملة في بعض الأحيان قد تكون موجبة للضرر وفي بعض الأحيان قد لا تكون موجبة للضرر، لو بقينا نحن والدليل الأول للحكم لالتزمنا بمقتضى إطلاقه بثبوت هذا الحكم سواء أوجب الضرر، أو لم يوجب الضرر، قاعدة لا ضرر تقول أنّ هذا الحكم الشرعي لا يثبت في حالة الضرر، بمعنى أنها تنفي الحكم الذي يكون موجباً للضرر، وهذا معناه بالنتيجة توجب تخصيص دليل ذاك الحكم الشرعي بخصوص صورة عدم إيجابه للضرر، وأمّا إذا أوجب الضرر يكون منفيّاً بحكم قاعدة لا ضرر.

وأمّا الأحكام الشرعية الثابتة لشيء بعنوان الضرر، وموردها هو الضرر، مثل هذا الحكم لا تشمله القاعدة، هو حكم شرعي ثابت في مورد الضرر، هو بطبيعته حكم ضرري، لا أنّه يكون ثابتاً للشيء بعنوانه وهو أعمّ من أن يكون موجباً للضرر، أو لا يكون موجباً للضرر؛ بل هو في حدّ نفسه حكم ضرري، مثل هذا الحكم لا يكون مشمولاً للقاعدة نظير ما قيل في حديث الرفع بالنسبة إلى الخطأ والنسيان وأمثالهما، هناك أيضاً ذُكر هذا المعنى، أنّ الأحكام الثابتة للخطأ بعنوان الخطأ لا تكون مشمولة لحديث الرفع ولا ترفع به، مثل الديّة الثابتة في قتل الخطأ، هذا الحكم مورده هو قتل الخطأ، وهو ثابت للشيء بعنوانه، فإذا صدر خطأ لا نقول أنّه مرفوع بحديث الرفع؛ لأنّ حديث الرفع إنما يشمل الأحكام التي تثبت للشيء بعنوانه الأولي والتي قد تصدر خطأً وقد تصدر عمداً أو بشكلٍ آخر، حديث الرفع يقول إذا صدر هذا الفعل خطأً يُرفع حكمه. وأمّا الأحكام الثابتة بعنوان الخطأ فلا تكون مشمولة لحديث الرفع. نظير هذا الكلام يقال في محل الكلام، فيقال أنّ حديث لا ضرر لا يشمل وجوب الجهاد ولا يشمل وجوب الإنفاق، ولا يشمل وجوب الخمس، وكل الضرائب المالية، وهكذا سائر الأحكام التي هي واردة في مورد الضرر، والحكم أساساً هو يستلزم الضرر، مثل هذا الحكم لا يكون الحديث الشريف ناظراً إليه، ويكون خارجاً عن الحديث تخصصاً، فالالتزام بعدم ارتفاع هذه الأحكام لا يعني تخصيص القاعدة، فلا يلزم تخصيص الأكثر المستهجن. هذه أحدى المناقشات التي تقال في هذا المقام.

وهناك مناقشات أخرى ترجع إلى التشكيك في صدق الضرر في جملة من هذه الموارد والأحكام التي قيل بأنها أحكام ضررية، بدعوى أنّ الضرر لا يصدق عرفاً عليها، الحكم إنّما يكون حكماً ضررياً وبالتالي يُراد جعله مشمولاً لحديث نفي الضرر، إذا كان هناك ضرر متحقق ويصدق عليه الضرر عرفاً. فرضاً أنّ بذل كثير من المال في سبيل تحصيل ماءٍ للوضوء أو للغُسل العرف يقول فيه ضرر، أن يبذل مليون ــــــ مثلاً ــــــ في سبيل لتر من الماء حتى يغتسل، هذا ضرر عرفاً بقطع النظر عن الحكم الشرعي، فالشارع عندما يقول يجب عليك الغُسل بالماء حتى إذا استلزم بذل هذا المال، يقال أنّ هذا الحكم يكون حكماً ضررياً، فيُنفى بحديث نفي الضرر. أمّا إذا قلنا أنّ هذا بقطع النظر عن الحكم الشرعي لا يراه العرف ضرراً، فعندما يحكم الشارع بالإلزام به، لا يكون هذا الحكم الشرعي حكماً ضررياً، من قبيل ما ينفقه الإنسان على نفسه وعياله وعلى أبيه وأمه وأولاده، العرف لا يراها ضرراً وإن كانت هي نقص في المال، لكن العرف لا يراها ضرراً؛ لأنّ العرف لا يرى أنّ كل نقصٍ في المال ضرر، كل انفاق يكون على شئون الإنسان نفسه لا يكون بنظر العرف ضرراً، فإذا لم يكن ضرراً؛ فحينئذٍ عندما يُلزِم به الشارع، لا يكون هذا الإلزام حكماً ضررياً، وبالتالي لا يكون مشمولاً للقاعدة ويكون خروجه بالتخصص لا بالتخصيص، هذا باب واسع تدخل فيه جملة من الموارد التي قيل بأنها أحكام ضررية.

إذا لاحظنا الأمر من زاوية أخرى، افتراض أنّ هذه أحكام شرعية، يعني هي قوانين شرّعها الشارع لغرض تنظيم شئون الناس ولإشاعة العدل والمساواة ومنع الظلم بينهم ....الخ من العناوين العامّة، ومن الواضح أنّ كل شريعةٍ وكل قانون لابدّ أن يكون فيه شيء من التحميل على الناس والإضرار بهمن فرضاً عندما يشرّع الزكاة لغرض تأمين حياة الفقراء، بالنتيجة هذا إضرار، لكن لابدّ منه في كل شريعة وقانون، ولابدّ أن تُشرع الحدود والقصاص، وكذلك الإنفاق لابدّ أن يشرّع، والعرف بحسب ارتكازه يدرك أنّ هذه الأمور لابدّ منها؛ ولذا لا يراها ضرراً؛ بل أنّ الشريعة التي لا يُشرّع فيها مثل هذه القوانين في الحقيقة هي ليست شريعة وهي شريعة مضرّة بالناس ولا ترعى مصالحهم؛ لذا عندما يُشرّع وجوب الجهاد ووجوب الزكاة ووجوب الخمس، هذه ليست أضراراً، فالإلزام الشرعي بها من قِبل الشارع لا يُعدّ حكماً ضررياً، وبالتالي يكون خارجاً عن الحديث الشريف بالتخصص لا بالتخصيص. قد نفترض أنّ بعضها لا يكون هكذا، أو فرضاً عجزنا عن توجيه بعض الأحكام، فنقول هذه أحكام شرعية ضررية؛ حينئذٍ نلتزم بتخصيص الحديث بها، لكن لا يلزم من ذلك تخصيص الأكثر المستهجن. هذا عمدة ما يُستدل به لإثبات الاحتمال الثاني، وتبيّن أنّ هذه الأدلة ليست ناهضة في قِبال سائر الآراء الأخرى.

 


[1] البقرة/السورة2، الآية197.
[2] الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص50، باب فضل ارتباط الخيل وإجرائها والرمي، ح14.
[3] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج2، ص621، باب الحقوق، ح3214.
[4] دعائم الإسلام، القاضي النعماني المغربي، ج2، ص223.