الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/06/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر

 

ذكرنا في الدرس السابق أنّ جماعة من المحققين لاحظوا أنّ ما اشتهر عن النحويين والصرفيين من أنّ باب المفاعلة يدل على المشاركة بكل صيغه، لاحظوا أنّ هذا غير تام في كثيرٍ من الموارد وذكروا جملة من الآيات والروايات وذكروا بعض صيغ المفاعلة وبيّنوا عدم دلالتها على المشاركة، وإنّما هي تدل على صدور الفعل من واحد لا أنه فعل الأثنين كما ذُكر، ومن هنا استبعدوا دلالة صيغ المفاعلة على المشاركة. وقلنا أنّ هذا انتج أن يتجّهوا اتجاهاً ويُفسّروا باب المفاعلة بتفسير آخر غير المشاركة، نستعرض بعض التفسيرات وبعض الآراء في تحديد معنى باب المفاعلة. مضافاً إلى ما تقدّم سابقاً من آراء نستعرض بعض الآراء في تفسير هيئة المفاعلة:

الرأي الأوّل: ما ذهب إليه السيد الخوئي(قدّس سرّه)[1] وغيره أيضاً، قالوا أنّ معنى هيئة المفاعلة هو كون الفاعل بصدد إيجاد الفعل، أو ما عُبّر عنه في لسان بعضهم بالسعي إلى الفعل؛ ولذا هناك فرقّ بين المجرّد وبين باب المفاعلة، فإذا قيل(قتل زيد) كان في الواقع هذا إخبار عن وقوع القتل وصدوره من الشخص. أمّا إذا قلت(قاتل) اختلف المعنى عن المجرّد، ويكون إخبار عن السعي إلى القتل، أو قل إخبار عن كون الفاعل بصدد تحقيق الفعل وإيجاده، فالفرق بين(قتل) و(قاتل) هو أنّ (قتل) إخبار عن وقوع الفعل، بينما(قاتل) هي إخبار عن السعي إلى الفعل، وكون الشخص بصدد إيجاد الفعل، أمّا أنّ الفعل يقع، أو لا يقع هذه مسألة أخرى، هو أعم من ذلك، فقد يقع الفعل وقد لا يقع، واستشهدوا على ذلك ببعض الآيات القرآنية من قبيل قوله تعالى:﴿يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم﴾.[2] باعتبار أنّ الآية في مقام بيان أنّ المنافقين بصدد إيجاد الخدعة، لكنّ خدعتهم لا تقع، وإنّما تقع خدعتهم على أنفسهم، وما يخدعون إلاّ أنفسهم، الله(سبحانه وتعالى) لا يكون مخدوعاً بخدعتهم؛ لذا لا يقع الفعل؛ ولذا عبّرت الآية في الجملة الأولى(يخادعون)، بينما في الثانية لأنّ الخديعة حصلت ووقعت على أنفسهم عبّرت الآية بـــ(يخدعون) أي بالفعل المجرّد وليس بصيغة(خادع)، (يخادعون الله والذين آمنوا) هذه محاولة للخديعة وسعي نحو الخديعة، لكنّها لم تقع، بينما خديعتهم ترتد عليهم، فهم يخدعون أنفسهم، فعُبّر عنه بالفعل المجرّد(يخدعون) لا بالفعل المزيد. فيُخادعون ليس فيها دلالة على أكثر من السعي نحو الفعل وكون الفاعل بصدد إيجاد الفعل وليس أكثر من ذلك.

وكذا قوله تعالى: ﴿إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون ويُقتلون﴾.[3] هنا أيضاً الآية ذكرت في ذيلها تحقق القتل الفعلي من الطرفين وعبّرت عنه بـــ(يقتلون ويُقتلون) وهذا هو الفعل المجرّد، وهو إخبار بتحقق القتل الفعلي من الطرفين، لكن في صدر الآية لم تعبّر بذلك، وإنّما قالت(يقاتلون في سبيل الله) يعني هناك سعي نحو القتل؛ ولذا عطفت الجملة الأخيرة التي فُرض فيها تحقق القتل وليس مجرّد السعي، عطفته بالفاء، وهذا قد يُفهم منه المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فالمعطوف فُرض فيه تحقق القتل، بينما المعطوف عليه(يقاتلون) التي هي من صيغ المفاعلة، فمقتضى المغايرة أنّه لم يُفرض فيه تحقق القتل، وإنّما هي إشارة إلى مجرّد السعي نحو القتل، فقد يقتِلون، وقد يُقتَلون. هكذا قيل في مقام تفسير الآية وكونها شاهداً على ما ذُكر.

السيد الخوئي(قدّس سرّه) اكتفى بهاتين الآيتين وقال أنّ دلالة هذه الآيات على مجرّد السعي نحو الفعل، أو حسب تعبيره كون الفاعل بصدد إيجاد الفعل واضحة وليس فيها دلالة على المشاركة، أو فعل الأثنين وما شاكل ذلك.

هذا المعنى لباب المفاعلة، وبالتالي يُراد تفسير الضرار في محل الكلام به، يعني يُراد أن يقال أنّ الفرق بين الضرر والضرار في الحديث الشريف هو أنّ الضرر يمثّل الفعل المتحقق والضرار يكون دالاً على السعي نحو إلحاق الضرر بالغير من قبيل (يخادعون) سعي نحو الخديعة، و(يقاتلون) سعي نحو القتل، و(ضرار) أيضاً من صيغ المفاعلة، هذه الهيئة لا تدل إلاّ على السعي نحو الضرر وإلحاق الضرر بالغير.

ويُلاحظ على ذلك:

الملاحظة الأولى: أنّ المراد هل هو السعي المجرّد عن افتراض وقوع الفعل، أو أنّ المراد هو السعي المقارن لصدور الفعل من الفاعل ؟ إذا كان المراد هو مجرّد السعي بقطع النظر عن استتباعه للضرر، هذا لا يلتزم أحد بأنّه مشمول لحديث (لا ضرر) ومرفوع به؛ لوضوح عدم تحقق الضرر، وإنما نفترض مجرّد السعي نحو الضرر من دون فرض تحققه، هنا لا يمكن أن نقول أنّ هذا مشمول لحديث (لا ضرر)؛ إذ لا ضرر في البين ـــــ بحسب الفرض ـــــ إذن: لابدّ أن يكون المقصود هو السعي المقارن لحصول الضرر، المقصود بالضرار هو السعي نحو الضرر مع فرض تحققه، إذا كان هذا هو المقصود؛ حينئذٍ يِرد الإشكال السابق وهو أنّ هذا يكفي (لا ضرر) في نفيه؛ لأنّ (لا ضرر) كما تنفي الضرر من دون فرض السعي كذلك تنفي الضرر المسبوق بالسعي نحوه، و(لا ضرر) تنفي كلا الضررين، فيُكتفى بلا ضرر، فيكون لا ضرار بلا مورد. وهذا هو الإشكال السابق، فالإشكال السابق هو عدم وجود موردٍ نحتاج فيه إلى التمسك بلا ضرار؛ بل كل مورد تجري فيه لا ضرر ويمكن نفيه بلا ضرر.

الملاحظة الثانية: قد يقال أنّ الأمثلة التي ذكرها السيد الخوئي(قدّس سرّه) معنى المشاركة متحقق فيها ولا يمكن أن نقول أنّ هيئة المفاعلة الموجودة في لأمثلة التي ذكرها نستبعد احتمال المشاركة ونطرح مسألة السعي نحو الفعل؛ بل يمكن أن يقال أنّ معنى المشاركة موجود فيها، وذلك باعتبار أنّ استبعاد معنى المشاركة في هذه الآيات الشريفة ناشئ من افتراض أنّ المبدأ لهذه المشتقات هو عبارة عن نفس القتل في(يقاتلون) والخديعة في (يخادعون) ؛ حينئذٍ يأتي كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه) يقول هنا في القتل وفي الخديعة لا يوجد مشاركة، وإنما الخديعة والقتل يصدر من طرف واحد ولا يوجد مشاركة؛ فلذا لابدّ من استبعاد معنى المشاركة واستبداله بمسألة السعي، فــ(يقاتلون) لا يعني صدور القتل من كلٍ منهما، وكذلك(يخادعون) لا يعني صدور الخديعة من كلٍ منهما، وإنّما الخديعة صدرت من طرفٍ واحد ولم تصدر من الطرف الآخر؛ حينئذٍ يُستبعد معنى المشاركة ويقال بأنّ المعنى هو السعي نحو الخديعة.

بناءً على هذا الكلام يرِد الاعتراض الثاني الذي يقول: أننا إذا طعّمنا المبدأ بعنصر السعي وقلنا أنّ المبدأ هو عبارة عن الخديعة، لكن مع تطعيمها بالسعي نحوها، بحيث يكون المبدأ هو السعي نحو الخديعة، أو السعي نحو القتل، بمجرّد أن نفترض أنّ المبدأ هو هذا؛ حينئذٍ سوف يتحقق معنى المشاركة؛ لأنّ كلاً منهما وإن لم يصدر القتل إلاّ من أحدهما ولم تصدر الخديعة إلاّ من أحدهما، لكن كلٌ منهما لابدّ من افتراض أنّه سعى نحوها، وإلاّ إذا افترضنا أنّه لم يسعَ نحوها إلاّ أحدهما؛ حينئذٍ لا يصدق عليه باب المفاعلة، لا تستطيع أن تقول(قاتل) إلاّ إذا افترضت أنّ هذا يسعى لقتل ذاك، وذاك يسعى لقتل هذا. صحيح أنّ القتل لم يصدر منهما، وإنّما صدر من أحدهما، لكن لابدّ من افتراض اشتراكهما في السعي، وإلاّ إذا افترضنا أنّ أحدهما أصلاً لم يسعَ للقتل بأن كان هذا قتله على حين غِرّة، أو قتله وهو غافل لا يصح استعمال (قاتل) وإنّما الذي يصح استعماله (قتل زيدٌ عمرواً) وليس (قاتل زيدٌ عمرواً)، فإذا قلت (قاتل) فهذا يعني أنّ هناك مشاركة في السعي، بمعنى أنّ هذا يسعى لقتل ذاك، وذاك أيضاً يسعى لقتل هذا. نعم، القتل لم يصدر إلاّ من واحد، لكن هذا سعى لقتل ذاك وذاك سعى لقتل هذا، وهذا يصحح استعمال قاتل، وهكذا خادع، لابدّ من فرض أنّ هناك سعياً نحو القتل، لكن الخديعة لا تحصل إلاّ من أحدهما، فإذا طعّمنا المبدأ بمسألة السعي وقلنا بأنّ السعي نحو الفعل هو المعنى؛ حينئذٍ سوف يتحقق معنى المشاركة الذي استبعده وذهب إلى أنّ المقصود به هو السعي. بناءً على تفسير باب المفاعلة بالسعي؛ حينئذٍ لنقل بأنّ هذه الهيئة تدلّ على المشاركة، وهذه الأمثلة لا تصلح أن تكون شاهداً على عدم المشاركة وأنّ المقصود بها هو السعي من دون مشاركة، كلا، هي أمثلة على المشاركة في الحقيقة؛ لأنّ السعي يصدر من كلٍ منهما ومن دون افتراض صدور السعي من كلٍ منهما، الظاهر عدم صدق باب المفاعلة؛ بل يصدق باب الفعل المجرّد، فيقال(قتل زيدٌ عمرواً) و(خدع زيدٌ عمرواً) مخادعة، وعندما نقول (مخادعة) فهذا يعني أنّ هناك نوعاً من التصدّي والسعي من كلٍ منهما، وإن لم تقع الخديعة إلاّ من أحدهما.

الرأي الثاني: رأي المحقق الأصفهاني(قدّس سرّه). حيث لديه رأي معروف في هذا الباب، ويقال أنّه أول من تنبّه إلى أنّ باب المفاعلة لا يدل على المشاركة، واستعرض القرآن الكريم بتمامه واستعرض الروايات ووجد أنّ كثير من صيغ باب المفاعلة ليس فيها دلالة على المشاركة، وإنّما هي تدل على صدور الفعل من أحد الطرفين. هو رتّب على هذا الرأي الذي يختاره. يقول(قدّس سرّه) هيئة المفاعلة تدل على التعدية بمعنى إسراء المادة إلى الغير، بمعنى أنّ الفعل قبل دخول باب المفاعلة عليه، يعني الفعل المجرّد في بعض الحالات قد لا يتعدى إلى الغير اصلاً، لكن عندما تدخله في باب المفاعلة سوف يتعدّى إلى الغير، ومن هنا تكون فائدة باب المفاعلة هي إسراء الفعل إلى الغير في الموارد التي لا تقتضي ذات الفعل المجرّد التعدي إلى الغير، ويمثّل بـــ(جلس) الذي هو فعل لازم لا يتعدى بذاته إلى الغير، لكن حينما نقول (جالس) يصير متعدياً إلى الغير، فتقول:(جالست زيداً). في بعض الأحيان هو ملتفت إلى أنّه قد يكون الفعل المجرّد متعدياً، هنا دور باب المفاعلة هو أنّها تكون موجبة لتعديته إلى أمرٍ آخر في بعض الحالات لم يكن متعدياً إليه لولا إدخاله في باب المفاعلة، ويمثّل لذلك بـــ(كتب) و(كاتب)، مثلاً (كتب الحديث) هو فعل متعدٍّ، لكن عندما نقول(كاتب) سوف يتعدّى نفس هذا الفعل الذي كان يتعدّى إلى الحديث فقط، سوف يتعدّى إلى شيءٍ آخر، فتقول (كاتبه الحديث)، أي (كاتب زيدٌ عمرواً الحديث) هنا تعدى كاتب إلى الضمير الذي لم يكن الفعل المجرّد متعدياً إليه، وإنّما يتعدى إلى الحديث فقط، ففي هذا المثال باب المفاعلة أيضاً تفيد معنى التعدية، لكن التعدية تختلف باختلاف الموارد، ففي المورد الأول التعدية إلى المفعول الذي لم يكن الفعل المجرّد أساساً متعدياً إليه، فتفيد التعدية إلى المفعول. وفي المورد الثاني الفعل أساساً يتعدى إلى مفعوله، وباب المفاعلة يفيد التعدية إلى شيءٍ آخر لم يكن المجرّد متعدياً إليه. يقول: في بعض الحالات هيئة المفاعلة لا توجب أخذ مفعول إطلاقاً أكثر مما كان يأخذه المجرّد، وهذا يشكّل نقضاً على كلامه، ويُمثل لذلك بـــ(ضرب زيدٌ عمرواً) وتقول(ضارب زيدٌ عمرواً)، ضرب تتعدى إلى مفعول، وضارب أيضاً يتعدى إلى نفس ما كان المجرّد متعدياً غليه لا أنّها أوجبت التعدية إلى ما لم يكن المجرّد متعدياً إليه حتى تفيد فائدة التعدية. ماذا أفاد باب المفاعلة هنا ؟

يجيب عن هذا: يقول حتى هنا توجد فائدة لباب المفاعلة، وهي أنّ التعدية في المجرّد هي تعدية ذاتية، بينما التعدية في باب المفاعلة هي تعدية غير ذاتية، ويُفرّق بينهما بأنّ التعدية الذاتية في المجرّد غير ملحوظة على وجه الاستقلال، بينما التعدية في المزيد تكون ملحوظة على نحو الاستقلال، فإذن: باب المفاعلة حتى في هذا المثال أفاد فائدة وهي أنّه تعدّى إلى شيءٍ على نحو الاستقلال ومع كونه ملحوظاً على نحو الاستدلال، وهذا شيء لم يكن متحققاً في حال كون الفعل مجرداً، إذا كان الفعل مجرّداً صحيح أنه يتعدّى إلى(عمرو) عندما نقول(ضرب زيدٌ عمرواً) لكن هذه التعدية ذاتية في الفعل المجرّد، بينما في ضارب تكون تعدية مستقلة وملحوظة على نحو الاستقلال، وهذه فائدة حصلت ببركة إدخال الفعل في باب المفاعلة. فإّن: هو دلّ على التعدية لكن بهذا المعنى.

ثمّ يقول: فإذا فرضنا أنّ المكلّف فعل فعلاً وكان أثر هذا الفعل هو خداع الغير، هنا لا يصدق إلاّ الفعل المجرّد، تقول (خدع زيدٌ عمرواً) ولا يصح هنا الفعل المزيد، أي باب المفاعلة، فلا تقول(خادعه) وإنّما تقول(خدعه) لأنّ (خادعه) لا تصدق إلاّ إذا تصدّى لخديعته، أمّا إذا يُفرض التصدّي للخديعة، وإنّما هو صدر منه فعل أوجب خديعة الغير، هنا لا يصح إلاّ الفعل المجرّد تقول(خدعه)، أو(قتله). أمّا (قاتله) فلا يصح إلاّ إذا تصدّى لهذا الفعل؛ لأنّ (قاتل) و(خادع) على ما ذكر تفيد التعدية إلى ما لم يكن الفعل المجرّد متعدياً إليه بأحد هذه المعاني الثلاثة التي ذكرها. ووصل إلى هذه النتيجة، يقول: (فيكون حاصل قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا ضرر ولا ضرار هو نفي أصل الضرار ولو بدون التصدي، ونفي التصدّي للإضرار).[4] فلا ضرر تنفي أصل الضرر ولو من دون تصدّي كالأمثلة التي ذكرها، فعل فعلاً، فترتب عليه القتل، هنا قتل، ولا ضرار تنفي التصدي للضرر.

خلاصة الكلام: أنّ المحقق الأصفهاني(قدّس سرّه) يرى أنّ هيئة المفاعلة تقتضي تعدّي المادة وإسرائها إلى ما لم تكن هيئة المجرد تقتضي إسراءها إليه.

 


[1] مصباح الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد محمد الواعظ الحسيني، ج2، ص523.
[2] البقرة/السورة2، الآية9.
[3] . سورة التوبة، آية 111.
[4] نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الأصفهاني، ج4، ص439.