الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
37/06/16
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
المقام الثالث: مفردات قاعدة (لا ضرر ولا ضرار).
إلى هنا انتهينا من المقام الثاني الذي وقع فيه الكلام عن التهافت في الروايات بطوائفها الثلاث. بعد ذلك ندخل في المقام الثالث في هذا البحث، والكلام في هذا المقام يقع في مفردات هذه القاعدة وما هو معناها ؟ القاعدة فيها مفردتان وهما(الضرر) و(الضرار)، فيقع الكلام في بيان معنى الضرر وبيان معنى الضرار. والكلام تارة يقع في مادة ال(ض ر ر) التي هي مادة للضرر وللضرار؛ بل هي مادة لغيرهما أيضاً كالإضرار الذي لم يرِد في القاعدة، لكن نتكلّم عن مادة هذه المشتقات كلّها، والمادة هي عبارة عن(ض، ر ، ر)، وتارة أخرى يقع الكلام في الهيئة الإفرادية للضرر، والهيئة الإفرادية للضرار، ما هو المقصود بالضرر ؟ وما هو المقصود بالضرر ؟ في البحث الأول نتكلّم عن المادة التي هي مادة لكل هذه المشتقات ولغيرها أيضاً من المشتقات. وفي البحث الثاني نتكلّم عن الهيئة الإفرادية للضرر، والهيئة الإرادية للضرار، والبحث الثالث وهو المهم يقع الكلام في الهيئة التركيبية للجملتين اللتين تتألف منهما القاعدة .
أمّا بالنسبة للبحث الأول: وهو مادة هذه المشتقات، اللّغويون يذكرون معانٍ كثيرة لهذه المادة، أكثر شيء ركّز عليه اللّغويون هو النقص كمعنى لهذه المادة، وذكروا معانٍ أخرى غير النقص من قبيل (سوء الحال)، و(الضيق، أو الشدّة) وما يشبه ذلك أيضا ًنص عليه اللّغويون. في(العين) يقول الخليل:(والضَّرَرُ: النُّقصان يدخُلُ في الشيء، تقول: دَخَلَ عليه ضَرَرٌ في ماله).[1] في الصحاح يُفرق بين (الضرَ) وبين (الضُر) من جهة أنّ الضَرّ يجعله في مقابل النفع،[2] فيكون مصدراً، بينما الضُر يعتبره أسم مصدر، ويُفسرّها أيضاً بسوء الحال.[3] في (لسان العرب) ينقل عن بعض اللّغويين بأنّ الضر ضد النفع، والضُر ـــ بالضم ــــ الهزال وسوء الحال،[4] ثمّ يقول:(فكل ما كان من سوء حالٍ وفقرٍ وشدّةٍ في بدنٍ، فهو ضُر، وما كان ضدّاً للنفع، فهو ضَر) الذي يكون مصدراً، بينما(الضُر) يكون أسم مصدر.
هذه المعاني المهمّة التي ذُكرت في كلمات اللّغويين، وقد تُذكر لهذه الكلمة معاني أخرى من قبيل (المرض)، و(العمى)ومن قبيل(الهزال) وأمثال هذه الأمور. الظاهر ـــــ والله العالم ـــــــ أنّ هذه ليست معاني لهذه المادة وانما هي أشبه بالمصاديق لمعانيها، وتعارف عند اللّغويين أن يذكروا مصاديق لغرض تقريب المفهوم، وكأنّهم يفسّرون الكلمة بالمصاديق بينما المقصود ليس هو أنّ هذه هي مفهوم هذه الكلمات وإنما مفهومها شيء آخر وتذكر هذه المصاديق من باب التوضيح والبيان. الظاهر أنّ العمى ليس هو عبارة عن الضرر، وإنّما مفهوم الضرر شيء آخر غير العمى. نعم، مفهومه النقص والعمى مصداق للنقص. أو مفهومه سوء الحال وهذه الأمور التي يذكروها هي مصداق لسوء الحال......وهكذا في سائر المعاني التي تذكر من هذا القبيل، ومن هنا هناك معانٍ يمكن اعتبارها معاني أساسية بالنسبة لكلمة الضرر، وهي منحصرة تقريباً في معنيين تقريباً(النقص)، و(الضيق). وما عدا هذه المعاني التي لها طابع عام يمكن إرجاعه إلى أحد هذين المعنيين. (مثلاً): الشدّة ذُكرت في كلمات اللّغويين يمكن إرجاعها إلى الضيق، إذا قلنا أنّ الضيق هو المعنى الأساسي لكلمة الضرر، والحرج أيضاً ذُكر وأيضاً يمكن إرجاعه إلى الضيق، وذُكر سوء الحال ويمكن إرجاعه إلى النقص، فإنّ سوء الحال يعتبر نقصاً بمعنىً من المعاني، بالنتيجة المعاني التي ذُكرت لمادة الضرر هي عبارة عن(النقص) و(الضيق)، هذان معنيان أساسيان في محل الكلام، قيل: بأنّ مادة الضرر موضوعة لهما.
السؤال الذي يُطرح هو: أنّ المادة هل لها أوضاع مستقلة ؟ هل المقام من باب تعدد الأوضاع، وبالتالي ينتج لنا الاشتراك اللّفظي ؟ بمعنى أنّ المادة مشتركة اشتراكاً لفظياً بين هذين المعنيين، أو بين معاني ثلاثة، أو أنها ليست مشتركة اشتراكاً لفظياً ؟
هنا يوجد رأيان:
الرأي الأوّل: الذي يرى عدم وجود اشتراك لفظي، وأنّ المعنى هو النقص فقط، كما نصّ على ذلك الكثير من اللّغويين، والمراد بالنقص هو نقص الشيء عمّا ينبغي أن يكون عليه، فكل شيءٍ له حالة خاصة ينبغي أن يكون عليها، إذا نقص عن تلك الحالة، هذا يعتبر نقصاً وضرراً، فالنقص هو أن ينقص الشيء عن الحالة التي يجب أن يكون عليها، هنا نعمم النقص فنقول: أنّ هذا النقص قد يكون في الدراهم والدنانير ــــــ مثلاً ــــــ وقد يكون في سوء الحال، في مرضٍ، المرض يعتبر نقصاً؛ لأن الإنسان ينبغي أن يكون على حالة معينة، إذا نقص عن هذه الحالة وصار مريضاً؛ حينئذٍ يكون نقصاً فيه، أو قُطعت قدمه، فهذا نقص فيه وضرر؛ لأنّه حلاف الحالة التي ينبغي أن يكون عليها؛ بل يمكن تعميمه حتى لعدم مراعاة حقوق الآخرين، فيمكن أن يُجعل ضرراً بمعنى النقص؛ لأنّ هناك ينبغي أن يكون هناك حالة يتمتع فيها الإنسان بحقوق معينة، فإذا سُلب منه هذا الحق ينبغي أن يكون هذا ضرراً بمعنى النقص. النقص هو مفهوم عام يشمل كل هذه الحالات وغير هذه الحالات أيضاً.
الرأي الثاني: يرى بأن نقيّد هذه المعاني بعضها ببعض، بمعنى أن نقول أنّ مادة(الضرر) معناها في الحقيقة هو النقص الذي يكون سبباً لحصول حالة الضيق والحرج لا أن نهمل المعنى الثاني وهو الضيق ونقول المراد بالضرر هو النقص ونعمم النقص لكل الحالات التي قد تشمل حتى حالة الضيق، وإنما نقيد أحدهما بالآخر، فيقال: أنّ مادّة (الضرر) موضوعة للنقص الذي يكون منشئاً لحصول الحرج أو حصول الضيق، وأمثالها. وبناءً على هذا النقص ليس ضرراً ما لم يُسبب ضيقاً وحرجاً. (مثلاً) التجر عندما يفقد مقداراً قليلاً جداً لا يساوي واحد بالمليون أو أكثر من أمواله، هذا نقص في ماله بالنتيجة، لكنّه ليس ضرراً؛ لأنّه لا يسبب له ذلك النوع من الضيق والحرج النفسي؛ فلذا لا يصدق عليه أنه ضرر، كما أنّه من ناحية أخرى ما يُسبب الضيق والضرر وحده من دون أن يكون نقصاً هذا أيضاً لا يكون ضرراً، وهذا واضح ليس كل ما يسبب الضيق والحرج النفسي يقال أنه ضرر، وإنّما الضرر مأخوذ فيه النقص بلا إشكال، ومن هنا يقال: أنّ الضرر هو مفهوم يُنتزع من النقص الحاصل إذا كان منشئاً وموجباً لحصول الضيق والحرج النفسي، فيُطعّم أحد المعنيين بالآخر بهذا النحو، وكأنّ من فسّر الضرر بالنقص ـــــ بناءً على هذا الرأي ـــــ لاحظ جانباً من جوانب المعنى وهو النقص، فأنه لابدّ منه، والذي يُفسّره بالضيق هو أيضاً يلاحظ جانباً فقط من جوانب المعنى وهو ما يسببه النقص من ضيق وحرج، بينما الصحيح بناءً على هذا الرأي هو أن يُطعم أحدهما بالآخر ويُجمع بين التفسيرين ويقال: أنّ الضرر هو عبارة عن النقص الحاصل الذي يكون موجباً لحصول نوعٍ من الحرج والضيق النفسي.
قد يُشكل على الرأي الثاني بأنّه: في بعض الأحيان يكون هناك نقصاً وهذا النقص لا يسبب الضيق والحرج، ولكنّه لا إشكال في صدق الضرر عليه ممّا يكشف هذا عن أنه لابدّ من تفسير الضرر بالنقص من دون تقييده بما إذا كان منشئاً لحصول الضيق والحرج كما إذا فرضنا حصلت حالة والشخص لا يعلم بها، نقص في أمواله أو احترقت داره، لكنّه لا يعلم بها، هنا حصل نقص في أمواله بلا إشكال، لكنه باعتبار أنه لا يعلم لا يسبب له الضيق والحرج، ولا إشكال هنا في صدق الضرر، لكنّ هذا الضرر لم يكن منشئاً لحصول الحرج والضيق النفسي بالنسبة إليه، فإذاً: لابّد أن نرفع اليد عن هذا القيد ونقول أنّ الضرر هو مطلق النقص، سواءً أوجب ضيقاً، أو لم يوجب ضيقاً وحرجاً نفسياً.
الجواب: ليس المقصود في صدق مفهوم الضرر أنّه يشترط أن يكون النقص مؤدياً إلى الحرج والضيق الفعلي، وإنّما أن يكون موجباً للحرج والضيق النفسي ولو على مستوى الاقتضاء والشأنية، فإنّ احتراق الدار، ولو كان لا يعلم به هذا الشخص، هو من شأنه أن يكون موجباً للضيق وللحرج، وفيها اقتضاء ذلك، ولو لم تكن موجبة له بالفعل، باعتبار جهله بتلك الحال. إذاً: لا إشكال في صدق الضرر في المقام من دون أن يكون ذلك منافياً لهذا الرأي الثاني.
النفع في مقابل الضرر: كما أنه في الضرر بناءً على هذا الرأي نقول هو عبارة عن النقص الحاصل في المال وفي النفس وفي البدن .....الخ الذي يكون موجباً للضيق والحرج النفسي، النفع في قباله، يعني يكون هو عبارة عن ما يقابل النقص الذي هو الزيادة عن الحد الطبيعي، قلنا أنّ الأشياء في حالتها الطبيعية ينبغي أن تكون على حالة معينة، إذا نقصت هذا نقص وضرر، وإذا زادت عن تلك الحالة التي ينبغي ان تكون عليها، هذا يعتبر نفعاً. إذاً: النفع هو الزيادة، لكن هل النفع هو عبارة عن مطلق الزيادة ؟ أو هو زيادة خاصة ؟ بناءً على هذا الرأي أيضاً ينبغي تقييد الزيادة بما إذا كانت توجب نوعاً من الانشراح النفسي في قبال ما يوجبه النقص من ضيقٍ نفسي، فهذه زيادة توجب نوعاً من الانشراح النفسي حتى يصدق عليه النفع، أمّا مجرّد زيادة بمقدارٍ معيّن من دون أن يكون ذلك موجباً للانشراح النفسي، هذا قد يُستشكل في صدق النفع عليها. هذا بالنسبة إلى مادة ضرر.
قد يقال: يُلاحظ أنّ المادة التي نتكلّم عنها في موردين يكون معناها النقص ولا تُطلق على موارد الضيق والحرج والشدّة، وإنما فقط تطلق على موارد النقص، المادة المجرّدة والمادة في باب الإفعال يعني الإضرار، الضرر والإضرار يُستعمل في موارد النقص، فيكون هناك ضرر، أو يكون هناك إضرار إذا أدخل النقص في غيره؛ حينئذٍ يقال هذا إضرار، ولا تُطلق المادة في المجرّد(ضرر) ولا في باب الإفعال(الإضرار) على الضيق، وإنّما فقط هي تستعمل في النقص، بينما في باب المفاعلة كــ(الضرار) و(المضارّة) قد يقال أنّ المطلب ينعكس، بمعنى أنها تستعمل في الضيق والشدّة ولا تستعمل بمعنى النقص، ويُمثل لذلك بقوله تعالى: ﴿والذين اتخذوا مسجداً ضراراً﴾. واضح أنّ هؤلاء لم يتخذوا المسجد لإلحاق نقصٍ في أموال المسلمين أو في أبدان المسلمين، أو في نفوسهم، الضرار من باب المفاعلة،، وإنّما اتخذوا مسجداً للتضييق على المسلمين ليمنعوهم من بعض الأمور، فهنا استعملت في الضيق ولم تستعمل في النقص. في قصة (سَمُرة بن جندب) أيضاً المطلب هكذا، هنا استعملت كلمة(الضرار) التي هي من باب المفاعلة في قصة (سَمُرة بن جندب)، في هذه القصة ما كان سمرة بن جندب يُلحق نقصاً في مال الأنصاري، أو في بدنه، أو في نفسه، وإنّما ألحق به ضيقاً وسبب له الحرج وليس هناك نقص. بناءً على هذا، المادّة واحدة عندما تحققت في المجرّد وفي باب الإضرار استُعملت في النقص وليس في الضيق، لكن في باب المفاعلة استعملت في الضيق دون النقص، فمن هنا قد يقال: أنّ هذا مؤشر على عدم صحّة الرأي الأول الذي يقول أنّ المادة معناها النقص فقط مع تعميم النقص لكل هذه الموارد، فيقال إنّ هذه المادة المتحققة في المفاعلة استُعملت في بعض الموارد ولا يُراد بها النقص، وإنّما يُراد بها التضييق وإيقاع الغير في الحرج، هذا قد يكون مؤشراً على تعدد الوضع، أي على الاشتراك اللفظي وأنّ المادة موضوعة بوضعين، موضوعة للنقص وموضوعة للضيق والحرج.
صاحب الرأي الأول يجيب عن هذا الاعتراض، ويقول: القضية ليست هكذا؛ بل نرى أنّ المادة في المجرّد وفي باب الإفعال كما استعملت في النقص استعملت في الضيق وإيقاع الغير في الضيق والحرج، كما أنّ المادة في باب المفاعلة كالضرار والمضارة كما استعملت في باب الضيق أيضاً استعملت في باب النقص، فالأمر ليس كما ذُكر، والمادة تستعمل في كل منهما.(مثلاً): في قوله تعالى: ﴿لن يضروكم إلاّ أذى﴾ بناءً على أنّ المقصود بالأذى هو الضيق والحرج، هذه تدخل في القسم الأول، يعني أنّ المادة هنا مجرّدة، أو بمعنى الإضرار من باب الإفعال، وهنا استعملت في الضيق لا في النقص، خلاف ما كان يُدّعى من أنّها تستعمل دائماً في النقص لا في الضيق. كما أنّ باب المفاعلة الثاني الذي أدُعي أنّها دائماً تستعمل في الضيق يقال أنّه قد تستعمل في بعض الأحيان في النقص لا في موارد الضيق فقط، كما في قوله تعالى: ﴿من بعد وصيةٍ أو دينٍ غير مضارٍ﴾ هذه من باب المفاعلة وهنا استعملت في النقص لا في الضيق والحرج النفسي، هنا استعملت للنقصٍ في المال، فإذاً: صاحب الرأي الأول يبقى محافظاً على رأيه الذي يقول أنّ المادة موضوعة للنقص، وهذا النقص يكون موجوداً ومتحققاً في كل المعاني الأخرى؛ لأننا نعمم هذا النقص تعميماً يشمل كل هذه الموارد، النقص في العين الخارجية، والنقص في المال، وحتى النقص في حقٍ من الحقوق من قبل الآخرين الذي ليس فيه نقص مادي، وإنما سلب حقٍ من حقوقه، هذا أيضاً يعتبر نقصاً؛ لأنّ المراد بالنقص هو النقص عن الحالة التي ينبغي أن يكون عليها الشيء.
بناءً على الرأي الثاني هو اساساً يُطعّم أحد المعنيين بالمعنى الآخر، ففي كل هذه الموارد عندما يكون هناك نقص، ويكون هذا النقص موجباً لنوعٍ من سلب الراحة ونوع من الحرج والضيق النفسي يصدق عليه الضرر، وهذا موجود في كل هذه الموارد هناك نقص، وهذا النقص يكون موجباً للضيق والحرج، ولو كان هذا النقص باعتبار سلب حقٍ من الحقوق، فهو بالنتيجة نقص؛ لأنه ينبغي أن يتمتع بهذا الحق، فسلبه منه يعتبر نقصاً وضرراً ويوجب الضيق والحرج النفسي بالنسبة إليه .