الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
37/06/12
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
يقع الكلام في بعض الوجوه الأخرى غير ما تقدّم يُستدل بها على ما ذهب إليه المحقق شيخ الشريعة الأصبهاني(قدّس سرّه) من أنّ الحديث لم يرد مرتبطاً بالأقضية والأحاديث الأخرى، وإنّما ورد بشكلٍ مستقلٍ، هذه الوجوه مستفادة من كلمات المحقق النائيني(قدّس سرّه)، حيث وافق المحقق شيخ الشريعة الأصبهاني(قدّس سرّه) في هذه النتيجة، أيضاً هو يبني على عدم الارتباط وأنّ حديث (لا ضرر ولا ضرار) غير مرتبطٍ بالأحاديث الأخرى المنقولة في الروايات، هو وافقه على ذلك وذكر بعض الوجوه غير الوجوه المتقدّمة، نذكر بعضها :
الوجه الأوّل : عبارته غامضة وليست بذلك الوضوح، يقول: أنّ فقرة (لا ضرر ولا ضرار) إذا كانت غير مستقلة بأن وقعت تعليلاً لحديث الشفعة ــــــ مثلاً ــــــ أو لحديث منع فضل الماء يلزم عدم نقل عقبة بن خالد لهذا القضاء، وأن تكون روايته خالية من حديث (لا ضرر ولا ضرار)؛ لأنّ رواية عقبة بن خالد واردة في أقضية الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلو كان حديث (لا ضرر ولا ضرار) ذيلاً لقضائه في الشفعة، أو ذيلاً لقضائه في منع فضل الماء؛ حينئذٍ ينبغي أن تخلوا روايته من حديث (لا ضرر ولا ضرار)؛ لأنّ رواية عقبة بن خالد هي رواية لأقضية للرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم). أمّا لو كان حديث(لا ضرر ولا ضرار) قضاءً مستقلاً؛ حينئذٍ يكون موجوداً في حديث عقبة بن خالد، لكن عندما يكون تعليلاً وذيلاً لقضاءٍ؛ فحينئذٍ ينبغي أن تخلوا رواية عقبة بن خالد منه؛ لأنّه ليس من أقضية الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهو تعليل لقضاء وليس قضاءً حتى ينقله. ثم أضاف إلى هذا أنّ حديث (لا ضرر ولا ضرار) واضح ومشهور أنّه صادر عن الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهذا مما نجزم به؛ فحينئذٍ لو كان ذيلاً ينبغي أن لا يذكره عقبة بن خالد في روايته ــــــ ليس واضحاً ماذا يريد أن يقول ــــــ يقول: إذاً عقبة بن خالد ذكره في روايته، فلابدّ أن يكون قضاءً مستقلاً ــــــ لابدّ أن يكون هذا مقصوده ــــــ لو لم يكن قضاءً مستقلاً لما ذكره عقبة بن خالد في روايته؛ لأنّه ليس من أقضية الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحيث أنّ عقبة بن خالد ذكره، فلابد أن يكون قضاءً مستقلاً.
إذا كان هذا هو المقصود ــــــ لأنّ عبارته غامضة وليست واضحة ـــــــ يُلاحظ عليه:
أولاً: مسألة معروفية كون لا ضرر من أقضية الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليس واضحاً أنّه منها كقضاءٍ مستقل حاله حال قضائه في الشفعة وفي قضائه في منع فضل الماء وأمثال ذلك، أصل صدور(لا ضرر ولا ضرار) من الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مسلّم، المعروف والمشهور هو أنّ هذه الجملة صادرة، أمّا كونها صادرة كقضاءٍ مستقلٍ أو صادرة كتعليل في باب الشفعة أو تعليل في باب منع فضل الماء أو كتعليل في موارد أخرى كثير يمكن أن يعلل بها الحكم. ما نعلمه وما هو واضح ومشهور هو أصل صدور هذه العبارة عن الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم). أمّا صدورها كقضاء مستقل، فليس واضحاً بدرجة أننا نستطيع أن نقول أنّ المشهور والمعروف هو صدوره كقضاءٍ مستقل.
هذا مضافاً إلى أنّ هذا يتوقف على أن نفترض أنّ عقبة بن خالد كان في مقام نقل جميع أقضية رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو فلنتنزل ونقول هو في مقام نقل معظم أقضية الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لأنه حينئذٍ يأتي هذا الدليل الذي ذكره ويقال: حيث أنّ عقبة بن خالد أورد حديث (لا ضرر ولا ضرار) في ذيل حديث الشفعة، وفي ذيل حديث منع فضل الماء كتعليلٍ لهما حسب ظهوره الأولي لعبارته، وهذا معناه أنّ عقبة بن خالد لم ينقل حديث (لا ضرر ولا ضرار) كقضاءٍ مستقل؛ لأنه أورده في ذيل حديث الشفعة وفي ذيل حديث منع فضل الماء.
إذاً: هو لم ينقله كقضاءٍ مستقل مع أنه نقل معظم أقضية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإذا كان في مقام نقل معظم أقضية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولم ينقل (لا ضرر ولا ضرار) كقضاءٍ مستقل، وإنّما نقله في ذيل حديث الشفعة، أو في ذيل حديث منع فضل الماء مع أنّ حديث (لا ضرر ولا ضرار) هو أمر مشهور ومعروف، إذاً: عندما نقله لابد أن يكون قد نقله كقضاءٍ مستقل، وإن كان ظاهر العبارة لا يوحي بذلك، لكن لابدّ أن نقول أنه نقله كقضاء مستقل؛ لأنّه بصدد نقل معظم أقضية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا منها بلا إشكال، فهل يُعقل أنّ عقبة بن خالد الذي هو في مقام نقل جميع أقضية الرسول، أو معظم أقضية الرسول يترك نقل القضاء المشهور والمعروف للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو (لا ضرر ولا ضرار). إذاً: لابد ّ أن يكون عندما نقله، وإن كان هذا يوحي بأنه مرتبط، لكن نقول أنّه نقله كقضاءٍ مستقل. لكن هذا موقوف على أن نفترض أن عقبة بن خالد في مقام نقل جميع، أو على الأقل معظم أقضية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
نحن نقول: من البعيد جداً أن لا ينقل عقبة بن خالد هذا القضاء المعروف والمشهور، فإذا استبعدنا أنّه لا ينقله، فهذا يعني أنه نقله، لكن ظاهر العبارة أنّه نقله كذيل لحديث الشفعة، لكن نرفع اليد عن هذا الظهور ونلتزم بأنّه نقله كقضاء مستقل لا كذيل لحديث الشفعة، يعني قوله في الرواية (وقال: لا ضرر ولا ضرار) هو نقل له كحديثٍ وكقضاء مستقل ولا علاقة له بباب الشفعة. أمّا إذا قلنا أنّ عقبة بن خالد ليس في مقام نقل جميع أقضية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإنّما نقل بعض الأقضية وترك أقضية كثيرة نقلها عبادة بن الصامت ولعلّها موجودة في أماكن أخرى، وبناءً على هذا، ليكن حديث (لا ضرر ولا ضرار) مما ترك نقله عقبة بن خالد كما ترك نقل كثير من الأقضية، فلا نستطيع أن نقول أنّ ما نقله عقبة بن خالد هو قضاء مستقل؛ لأنّه من البعيد جداً أن يترك نقل هذا القضاء المستقل الذي هو (لا ضرر ولا ضرار) مع اشتهاره ووضوحه ومعروفيته وكونه هو في مقام نقل جميع الأقضية.
قد تُفسّر عبارة المحقق النائيني(قدّس سرّه) في الوجه الأول بتفسيرات أخرى، لكنها أيضاً غير تامة :
منها: أن يقال أنّ المعروف والمشهور انّ (لا ضرر ولا ضرار) صدر كحديثٍ مستقلٍ عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ حينئذٍ يكون ظاهر رواية عقبة بن خالد في أنّه وقع ذيلاً وتعليلاً وليس مستقلاً يُخالف هذا المشهور والمعروف من أنّه قضاء مستقل، فلابد من رفع اليد عن هذا الظهور والالتزام بأنّه قضاء مستقل؛ لأنّ المعروف والمشهور أنّه قضاء مستقل.
هذا الوجه واضح الضعف؛ لأنّه كيف نثبت أنّ المعروف والمشهور هو قضاء مستقل، هذا ليس واضحاً. مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا أنّ المعروف والمشهور هو قضاء مستقل، هذا لا ينافي أن يُذكر تعليلاً لحديث الشفعة، فيبقى هذا على ظهوره، ونقول أنّ ما نقله لنا عقبة بن خالد من حديث (لا ضرر ولا ضرار) هو ذيل لحديث الشفعة، لكن كلامنا هو في هذه الرواية، ثمّ لو ثبت عندنا أنّه قضاء مستقل؛ فحينئذٍ لا داعي لهذا البحث أصلاً؛ لأنّه ـــــ بحسب الفرض ـــــ ثابت أنه قضاء مستقل وصدر عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كقضاءٍ مستقلٍ؛ وحينئذٍ بإمكان هذا المحقق أن يثبت مقصوده استناداً إلى هذا القطع أو اليقين بأنه صدر منه كقضاءٍ مستقل ويكون ظاهراً في الحرمة التكليفية وتنتهي المشكلة. نحن كلامنا في رواية عقبة بن خالد ما معناها ؟ وماذا نفهم منها ؟ وهل يجب أن يرفع اليد عن ظهورها في الارتباط والتعليل، أو لا ؟ حتى لو تنزلنا وسلّمنا أنّ المشهور والمعروف هو صدور هذا الحديث من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كقضاءٍ مستقلٍ.
الوجه الثاني : أنّ الحديث يتضمّن فقرتين(لا ضرر) و(لا ضرار)، يقول: أنّ فقرة (لا ضرار) ليست مرتبطة بباب الشفعة اصلاً، باعتبار أنّه يُفسّر الضرار بالإصرار على الضرر، بيع الشريك لحصته المشاعة، سلّمنا أنّ فيها ضرر على شريكه، لكن ليس فيها ضرار؛ لأنّ بيع الشريك لحصته ليس فيه إصرار على الضرر، وإنّما يلحق الضرر بشريكه مرة واحدة من خلال بيع الحصة المشاعة، فإذا أردنا أن نطبّق الحديث على مسألة الشفعة، فالفقرة التي يمكن تطبيقها هي فقرة(لا ضرر) وليس (لا ضرار) فهي غير مرتبطة بمسألة الشفعة؛ لأنّ مسألة الشفعة ليس فيها ضرار، وإن كان فيها ضرر. وكأنّه يريد أن يقول: إذاً لماذا في رواية عقبة بن خالد استُدل في باب الشفعة بمجموع الأمرين، أي (لا ضرر ولا ضرار) والحال أنّ فقرة(لا ضرار) لا علاقة لها بباب الشفعة ؟ وكأنّ هذا يرجع إلى منع تطبيق القاعدة على مورد الشفعة، كأنّه إذا أردنا تطبيقها، فلابدّ أن نطبّقها بكلا فقرتيها. نعم، يمكن تطبيقها بلحاظ لا ضرر، لكن لا يمكن تطبيقها بلحاظ لا ضرار؛ لأنّه لا يوجد هنا إصرار على الضرر. وكان المفروض أن يقول: لا ضرر، ويستدل بلا ضرر على الحكم في باب الشفعة لوجود الضرر، لكن لا ضرار لا ارتباط لها بباب الشفعة، فكأنّه يريد أن يستنتج من هذا أنّ تطبيق القاعدة بكلا فقرتيها (لا ضرر ولا ضرار) على مورد الشفعة غير ممكن، فيكون هذا مؤشراً على أنّ القاعدة هي قاعدة مستقلة وغير مرتبطة بباب الشفعة. هكذا يُفهم من عبارته.
جواب هذا الوجه: ليكن الاستدلال بفقرة(لا ضرر) كما هو ذكر، لكن الا يحتمل أنّ الاستدلال على حكم الشفعة بالقاعدة المؤلفة من هاتين الفقرتين ليس من باب أن يُقصد تطبيق لا ضرار أيضاً على باب الشفعة، وإنّما يؤتى بهذه العبارة المؤلفة من فقرتين، باعتبار أنّ هذه القاعدة عُرفت بأنها قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وعندما يُراد تطبيقها على مورد، ويُعلل الحكم في ذاك المورد بهذه القاعدة يُشار إلى تلك القاعدة بكلا فقرتيها، وإن كان ما ينطبق على ذلك المورد هو إحدى الفقرتين وهي فقرة (لا ضرر)، لكن يُشار إلى هذه القاعدة المشهورة والمعروفة بقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) كما هي اليوم معروفة بهذا العنوان، وعندما يُراد الاستدلال بها على مورد يقال: يدل على ذلك قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، وإن كان المستدل به هو إحدى الفقرتين، وهذا شيء طبيعي وعادي أنّ القاعدة عندما تشتهر بشيء؛ فحينئذٍ يُعبّر عنها بهذا الذي اشتهرت به، وإن كان الاحتياج ليس إلى كلتا الفقرتين، وإنّما الاحتياج والتعليل يكون بإحدى الفقرتين دون الفقرة الأخرى، وهذا الاحتمال موجود، فعندما قال في باب الشفعة(وقال: لا ضرر ولا ضرار) ما ينطبق على هذا المورد ــــــ باب الشفعة ــــــ هو الضرر، لكن أشير إلى ذلك بهذا الشكل الذي ذكرناه.
الوجه الثالث: (لا ضرر ولا ضرار) في روايات عقبة بن خالد التي ظاهرها الارتباط والتعليل، هل هي حكمة، أو هي علّة ؟ هو يقول كلا الاحتمالين باطل، يعني (لا ضرر ولا ضرار) لا يمكن أن تكون علّة للحكم في باب الشفعة، وكذلك في باب منع فضل الماء، وأيضاً لا يمكن أن تكون حكمة، ويستنتج من هذا عدم وجود ارتباط، ويثبت مقصوده الذي هو عدم الارتباط بين حديث (لا ضرر ولا ضرار) وبين باب الشفعة وباب منع فضل الماء .
ويثبت بطلان هذين الاحتمالين بهذا الشكل، يقول: أمّا أن يكون الضرر علّة، فلازمه أن يدور الحكم مدار الضرر وجوداً وعدماً، فإن وجد الضرر وُجد الحكم بالشفعة، وإن لم يوجد الضرر فلا حكم بالشفعة، وهذا شأن العلّة، بينما ما نلاحظه أنّه ليس كذلك كما ذكرناه في مقام النقل عن السيد الخوئي(قدّس سرّه) أنّ النسبة بين موارد ثبوت الشفعة وبين تضرر الشريك ببيع شريكه لحصته المشاعة هي نسبة العموم والخصوص من وجه، يعني في بعض الأحيان يثبت حق الشفعة، لكن لا يوجد ضرر، وفي بعض الأحيان يكون هناك ضرر، لكن لا يثبت حق الشفعة؛ فحينئذٍ كيف يكون الضرر هو العلة لثبوت حق الشفعة ؟! لو كان الضرر هو العلة لثبوت حق الشفعة لكان دائراً مداره وجوداً وعدماً، فحيث يكون هناك ضرر يكون هناك حق الشفعة، وحيث ينتفي الضرر ينتفي حق الشفعة؛ لأنّ هذا هو مقتضى كونه علة، بينما الواقع ليس هكذا. وينفي كونه حكمة بأنّ الحكمة صحيح أنّها لا يجب أن تكون موجودة دائماً، وهذا هو الفرق بين الحكمة والعلة، لكن نشترط أن تكون موجودة وجوداً غالبياً حتى تصلح أن تكون حكمة، وأمّا إذا كان وجودها نادراً واتفاقياً، فلا تصلح أن تكون حكمة، والمقام من هذا القبيل؛ لأنّ تضرر الشريك ببيع شريكه لحصته المشاعة هو حالة اتفاقية نادرة، وليست غالبة، حيث أنّ تضرر الشريك هو حالة نادرة وفي حالات خاصّة، وفي الحالات العادية لا يتضرر الشريك؛ وحينئذٍ لا يصلح أن يكون حكمة، فكل من العلة والحكمة لا يصح، فبالنتيجة لا يوجد ارتباط.
هذه هي أهم الوجوه التي ذُكرت في المقام لإثبات استقلالية حديث (لا ضرر ولا ضرار) وعدم ارتباطه بباب الشفعة وعدم ارتباطه بباب منع فضل الماء. هذا كلّه على تقدير تسليم توقف استفادة الحرمة التكليفية ــــــ التي هو يقولها في تفسير هذه القاعدة ــــــ من هذا الحديث على وروده مستقلاً. أمّا إذا قلنا أنّ استفادة الحرمة التكليفية لا تتوقف على وروده بشكلٍ مستقلٍ؛ بل يمكن أن نستفيد الحرمة التكليفية حتى إذا ورد ذيلاً لحديث الشفعة، وحتّى إذا ورد ذيلاً لحديث منع فضل الماء؛ حينئذٍ لا داعي لإتعاب النفس وإثبات أنّ هذا الحديث ورد بشكلٍ مستقلٍ؛ لأنّ ما نريد إثباته وهو الحرمة التكليفية على رأيه لا يتوقف إثباته على وروده كحديث مستقل؛ بل يمكن إثباته أيضاً حتى لو لم يكن وارداً بشكلٍ مستقلٍ.
من جهةٍ أخرى: إثبات استقلالية الحديث إطلاقاً لا يعني انحصار تفسيره بالحرمة التكليفية؛ بل حتى إذا كان الحديث مستقلاً وقاعدة مستقلة يمكن تفسيرها بالتفسيرات الأخرى المذكورة من قبيل نفي الحكم الضرري، أو نفي الموضوع الضرري، أو نفي التدارك وأمثاله على ما يأتي من تفسير هذه القاعدة، هذه التفسيرات لا تتوقف على أن يكون الحديث مرتبطاً بمألة الشفعة، أو مسألة منع فضل الماء، وإن كانت هذه الاحتمالات تقوى عندما يكون هناك ارتباط، يعني أنّ ارتباط تعليل الحكم في باب الشفعة بحديث (لا ضرر ولا ضرار) يقوي احتمال نفي الحكم الضرري، لكن لا يتوقف عليه، فحتى لو كانت القاعدة مستقلة أيضاً يمكن أن نفهم منها التفسيرات الأخرى ولا ينحصر تفسيره على تقدير الاستقلالية بالحرمة التكليفية كما يراه المحقق المذكور.
على كل حال هذا ما يقال بالنسبة إلى روايات الطائفة الثانية التي هي الروايات التي تتعرض إلى أقضية للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذُكر فيها حديث (لا ضرر ولا ضرار)، وتبيّن أنّ الصحيح هو أنّ هذه الروايات غير تامّة سنداً، فلا يمكن الاستدلال بها في محل الكلام، لكنّ رواية عقبة بن خالد لو تمّت سنداً فما يثبت بها هو حديث (لا ضرر ولا ضرار) واقع كذيلٍ وتعليلٍ لباب الشفعة وباب منع فضل الماء ولا يثبت بها أنّه وارد كحديث مستقل، فإذا كانت هناك آثار تترتب على الاستقلالية والارتباط لا يمكن أن نرتب إلاّ الآثار المترتبة على الارتباط لا على الاستقلالية.
الطائفة الثالثة وقلنا أنّها عبارة عن مراسيل لفقهاء ومحدّثين ذكروها في كتبهم، مراسيل قد تختلف في المتن، بعضهم يضيف(في الإسلام) وبعضهم يضيف(على مؤمن) وبعضهم لا يضيف. قد يقال أيضاً يقع التهافت في هذه الطائفة بلحاظ أنّ بعضها يتضمن بعض الإضافات، وبعضها خالٍ من هذه الإضافات. وجوابه هو أنّ هذا التهافت إنّما يصح عندما نفترض أنّ الرواية واحدة وتتحدث عن واقعة واحدة ، لكن عندما تكون الروايات متعددة، والوقائع متعددة، كيف نحرز أنّ هذه المرسلات كلها تتحدث عن واقعة واحدة حتى نقول أنّ هذا الذي يضيف القيد ينافي ويعارض ما يهمل هذا القيد ؟! وإنما قد تكون هي وقائع متعددة وصدرت فيها هذه الأحاديث المتعددة، في مرة قال (لا ضرر ولا ضرار) بلا قيد، وفي مرّة أخرى قال (لا ضرر ولا ضرار) مع قيد(في الإسلام) فلا يوجد تهافت بينها.