الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
ذكرنا في الدرس السابق أنّ
هناك محاولة لتصحيح سند مرسلة الشيخ الصدوق(قدّس سرّه)، وقلنا أنّ السيد
الخوئي(قدّس سرّه) اعترض على هذه المحاولة، وذكرنا أنّ هناك جوابين على اعتراضه،
جواب نقضي وجواب حلّي، وقد تقدّم الجواب النقضي في الدرس السابق.
الجواب الحلّي: ما
ذكر في محلّه من أننا إذا شككنا في كون الخبر حدسياً أو حسّياً،
فمقتضى القاعدة الأولية في مثله هو عدم الحجّية؛ باعتبار عدم إمكان التمسك بأدلة
الحجية لإثبات حجّية هذا الخبر الذي نشك في كونه حسياً أو حدسياً؛ لأنّه تمسك
بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص؛ لأنّ أدلة حجية الخبر خرج منها الإخبار
الحدسي، وفي هذا الخبر نحن نشك في أنّه هل خرج بالتخصيص أو لا زال باقياً تحت
العام، فلا يمكن إثبات حجية هذا الخبر تمسكاً بأدلة الحجّية، لكن هناك قاعدة أخرى
ثانوية تُقدّم على القاعدة الأوّلية، وهي ثابتة بسيرة العقلاء، فالعقلاء يرون أنّ
الإخبار في الأمور الحسّية عندما يكون المخبر به أمراً حسّياً، فالأصل أنّ المخبر
به يخبر به عن حسٍ ما لم يُعلَم أنه أخبر به عن حدسٍ، والتي يُعبّر عنها
بـــ(أصالة الحس) وتجري عند الشك في أنّ المخبر أخبر بالخبر عن حسٍ أو عن حدسٍ.
الحل يكون بإجراء أصالة الحس، في المقام يقال: مجرّد أننا لا نعلم بأنّ مبنى الشيخ
الصدوق(قدّس سرّه) في حجّية الخبر ما هو، هذا لا يوجب الحكم بعدم حجّية خبره بعد
وجود احتمال الحس في حقّه، ومقتضى أصالة الحس هو البناء حجّية خبره.
هذا الحل صحيح وبناءً
العقلاء مستقر عليه ولا إشكال عندهم فيه، وهو أحد الأجوبة عن الإشكال الذي يُطرح
في توثيقات الرجاليين وتضعيفاتهم، حيث هناك إشكالان في توثيقات الرجاليين
وتضعيفاتهم، الإشكال الأول هو إشكال الإرسال، وكلامنا فعلاً ليس فيه، وهناك إشكال
آخر وهو من قال بأنّ الشيخ النجاشي عندما يوثّق شخصاً هو يوثقه عن حسٍ ؟ لعله
يعتمد على إمارات ونظريات اجتهادية من قبيل اصالة العدالة ومباني رجالية على
اساسها هو يوثّق ويضعّف، وعلى هذا الأساس أدلّة حجية خبر الواحد لا تشمله؛ لأنّها
إنما تشمل الخبر الذي يُنقل عن حسٍ لا عن حدسٍ.
الجواب هو:
أننا ما دمنا لا نعلم بشكلٍ واضح أنه ينقله عن حدسٍ، فمقتضى القاعدة الثانوية التي
بيّنّاها هو أنه حجّة، حتى إذا شككنا في أنّ النجاشي ينقل التوثيق عن حسٍ أو عن
حدسٍ، فهذه القاعدة الثانوية تقول استقر بناء العقلاء على حجّية الإخبار في الأمور
الحسّية ما لم نعلم بأنه ينقله عن حدسٍ. هذا الجواب في توثيقات الرجاليين يكون
تامّاً، وفي توثيقات الرجاليين احتمال الحس موجود بلا إشكال، أنه ينقل كما ذُكر في
الجواب الحلّي عن كابرٍ عن كابرٍ عن شيخه عن شيوخه ....الخ أو ينقل عن الكتب
الواصلة إليه وهي كتب رجالية ليست بالقليلة ومُعدّة للتوثيق والتضعيف وأمثالها،
وهذا نقل عن حسٍ، أو في بعض الأحيان هو يثبت الوثاقة استناداً إلى ما يُعبّر عنه
بالوضوح كما أننا الآن نوثّق الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) بلا توقّف، من دون أن
نعاصره أو نراه، وهذا ليس توثيقاً حدسياً على نحوٍ لا تكون أدلة الحجية شاملة له؛
بل هو من قبيل التوثيق الحسّي. فإذاً: لا إشكال في وجود احتمال الحس في توثيقات
الرجاليين، فإذا احتملنا الحس، فأصالة الحس تقول أنه ينقل عن حسٍ، وبناء العقلاء
على الحجّية، فيُبنى على حجّية هذا الكلام؛ بل يمكن الترقي أكثر من هذا، فيقال: في
معظم التوثيقات الظاهر أنّها توثيقات حسّية، واحتمال الحدس لا يكون موجوداً.
على كل حال:
سواء جزمنا بأنه حسّي ــــــ الكلام في توثيقات الرجاليين ــــــ أو شككنا في أنه
حسّي أو حدسي، المسألة واحدة وهي البناء على حجّية هذا النقل والإخبار؛ فلذا لا
يرِد الإشكال في توثيقات الرجاليين. نعم، الشيء الوحيد الذي يقال، وينبغي أن يقال
هو أنّه إذا قامت قرائن واضحة، أو إمارات تورث الاطمئنان على حدسية توثيقٍ أو
تضعيفٍ، فلابدّ من البناء على أنّه حدسي فلا تشمله أدلة الحجية حينئذٍ، لكن إذا
كانت هذه الإمارات لا تورث الاطمئنان، وإنّما غايته توجب الشك أو الظن، فالقاعدة
حينئذٍ تقتضي البناء على الحجية؛ فلذلك ما قد يطرق أسماعكم في بعض الأحيان من أنّ
فلان رجالي يعتمد على متون الأخبار ويُصحح ويُضعّف على أساس ما يرويه الراوي من
أخبار، فإذا روى الرواية في الكذا، فهو ضعيف، وإذا روى الرواية في الكذا فهو ثقة،
هذا معنى الاستناد إلى الحدس في التوثيق والتضعيف، هذا قد يصح في مورد أو موردين،
قد يستكشف في تضعيف أو توثيق ويحصل له الاطمئنان بأنّ هذا التوثيق أو التضعيف ناشئ
من مبنى ورأي بحيث يكون توثيقاً حدسياً لا حسياً، إذا أطمئن؛ فحينئذٍ لا إشكال في
عدم شمول أدلة الحجّية له، وهذا لا شك فيه، لكن كلامنا فيما إذا كانت هناك بعض
الشواهد التي لا توجب إلا الظن لا أكثر؛ فحينئذٍ مقتضى الصناعة هو أن يُبنى على
الحجية. هذا كله في توثيقات الرجاليين.
الآن نأتي إلى محل الكلام
الذي هو مرسلات الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) بعنوان قال الصادق(عليه السلام). هنا
احتمال الحس بالمعنى الذي ذُكر، يعني كابراً عن كابر وثقة عن ثقة، الظاهر أنه غير
موجود فيه، باعتبار أنّ هناك فرقاً بين رواية الحديث وبين توثيقات الرجاليين
وتضعيفاتهم، في نقل الأخبار وفي رواية الأحاديث الشريفة جرت عادتهم على أنّ الحديث
إذا وصله مسنداً يذكره مسنداً ولا يشذ أحد عن هذه الطريقة المعروفة والمستمرة من
قبل رواة الحديث، ولا يحتمل في حقِ واحدٍ منهم أن يصله الحديث مسنداً ولكنّه يهمل
الإسناد ويذكره مرسلاً ــــــ هذا بحسب العادة وليست قاعدة كلّية ــــــ ولذا
عابوا على من يروي المراسيل، وجُعل هذا أحد العيوب، وهذا يُبعّد أنّ الشخص الذي
يملك سنداً لا يذكر السند ويعدل عنه ويذكر الخبر مرسلاً له، هذا بعيد أن يصدر من
رواة الأحاديث. ومن هنا يختلف هذا عن توثيقات الرجاليين، في توثيقات الرجاليين جرت
عادتهم على عدم ذكر سند التوثيقات والتضعيفات، والعادة جرت في كتب الرجال، إلاّ
نادراً، على عدم ذكر التوثيقات مسندة، وإنّما تُذكر التوثيقات بلا إسناد، ونادراً
ما يذكر النجاشي أو الشيخ الطوسي بأنّ فلان ثقة وفلان حدّثني عن فلان، إلاّ في
موارد خلافية ويريد أن يثبت المطلب، فيذكر السند، وإلا بشكل عام الكشّي باعتبار
أنه يوثق بالاستناد إلى الروايات، فرجعت المسألة إلى الروايات، فيذكر سند الرواية،
لكن بشكل عام جرت عادة الرجاليين على التوثيق بلا ذكر الأسانيد؛ وحينئذٍ لا نستطيع
القول أنّ الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) عندما أرسل يوجد احتمال الحس في كلامه، بمعنى
أنه يملك إسناداً لهذه الرواية، ولكنه عدل عنه وذكرها مرسلة، هذا احتمال بعيد في
حق الشيخ الصدوق(قدّس سرّه)، لكن لا بُعد في النجاشي عندما يوثّق شخصاً بلا إسناد
ويُرسل التوثيق؛ لأنّ العادة جرت على عدم ذكر أسانيد لهذه التوثيقات، هو عندما
يكون مطمئناً بأنّ فلاناً ثقة، وأنّ فلاناً ضعيف، يذكر هذا، فلا نستطيع القول أنّ
ذكر التوثيق والتضعيف مرسلاً ليس فيه احتمال الحس؛ بل فيه احتمال الحس، بمعنى أنّه
يوثّق نقلاً عن شيخه عن مشايخه، لكن العادة جدرت على أن يذكره مرسلاً بلا إسناد،
فاحتمال الإسناد يكون موجوداً وقوياً في توثيقات الرجاليين وتضعيفاتهم، لكن
بالنسبة إلى مرسلات الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) احتمال الحس بهذا المعنى بعيد، بمعنى
أنّ الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) يملك أسناد، لكنّه يتركه ويعدل عنه ويذكر الخبر
مرسلاً.
ويُضاف إلى هذه الملاحظة:
يبدو أنّ جواب السيد الخوئي(قدّس سرّه) عن الإشكال ليس له علاقة بمسألة الحسّية
والحدسية حتى يقال أننا نريد أن ندفع الإشكال بأصالة الحس وبناء العقلاء على
الحسّية؛ لأنّ الذي نفهمه من كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه) المذكور في المصباح هو
أنّه يقول: ما ذكر في مقام تقريب حجّية مرسلات الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) بعنوان قال
الصادق(عليه السلام) صحيح، وهو أنّ نسبة الكلام إلى المعصوم(عليه السلام) على نحو
الجزم واليقين لا تجوز إلاّ إذا قامت حجّة على صدور الكلام منه(عليه السلام)، هذا
أمر مسلّم ولا يمكن إنكاره، وهذا معناه أنّ الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) كما قيل في
أصل الاستدلال يملك دليلاً وحجّة على صدور هذا الكلام الذي نسبه مرسلاً إلى الرسول(صلّى
الله عليه وآله وسلّم) على نحو الجزم واليقين، كأنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) يقول
هذا كلّه صحيح، لكن ما يكون حجّة عند الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) قد لا يكون حجّة
عندنا، وعللّه باختلاف المباني في حجّية خبر الواحد، وذكر أمثلة واضحة جداً منها
أنّهم قد يبنون على أصالة العدالة، فيصحح الخبر على أساس أصالة العدالة، بمعنى أنّ
الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) لو كان من أخبره بهذا الخبر إمامياً مجهولاً، وهو يبني
على أصالة العدالة، فيكون الخبر عنده صحيحاً وحجّة، وعلى اساس ذلك نسب الكلام إلى
الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم). السيد الخوئي(قدّس سرّه) يقول إذا كان هذا
مبنى الشيخ الصدوق(قدّس سرّه)، فكيف يكون حجّة بالنسبة لنا مع اختلاف المباني في
حجّية الخبر ؟! نعم، مع اتّحاد المباني يكون هذا ممكناً، لكن مع اختلافها يكون غير
ممكناً.
هذا الكلام ظاهر في
أنّ المانع من البناء على حجّية مراسيل الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) بنظر السيد
الخوئي(قدّس سرّه) ليس هو احتمال أن تكون حدسية حتى ندفع هذا المانع بالبناء على
أصالة الحس، ونقول ببناء العقلاء على أنّ احتمال الحدس لا يمنع من البناء على
الحجّية، والعلم بالحدس هو الذي يمنع. فالسيد الخوئي(قدّس سرّه) لا يريد أن يقول
أنّ المانع هو احتمال الحدس، وإنّما كأنه يفترض أنّ الشيخ الصدوق(قدّس سرّه) ينقل
خبراً حسّياً، والمانع ليس هو احتمال الحدس؛ ولذا قلنا لو افترضنا أنّ الشيخ
الصدوق(قدّس سرّه) سمع هذا الكلام مباشرة من إمامي مجهولٍ، فهذا الخبر حسّي،
كلامنا في هذا الخبر الحسّي، السيد الخوئي(قدّس سرّه) يقول افترض أنّ هذا الخبر
الحسّي حجّة عند الشيخ الصدوق(قدّس سرّه)؛ لأنّه يبني على أصالة العدالة، لكنّه
ليس حجّة عندنا. فإذا كان المانع من هذه الجهة؛ فحينئذٍ لا يمكننا دفعه بأصالة
الحس، لو كان المانع هو احتمال الحدس؛ فحينئذٍ يمكن دفعه بأصالة الحس، لكن يبدو من
كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه) أنّ المانع ليس هو هذا، ومسألة الحدس والحس ليست محل
خلاف، والكل يتفقون على أنّ أدلة حجّية خبر الواحد مختصة بالأمور الحسّية، كلام السيد
الخوئي(قدّس سرّه) هو بقطع النظر عن هذه الجهة، يعني أنه يفترض أنّ الخبر حسّي،
وإنما الكلام في المباني في حجّية خبر الواحد مثل أنّ خبر الثقة حجّة، والموثوق
بصدوره حجّة، وهل يُبنى على أصالة العدالة أو لا ؟ ولا يكون الخبر حجّة إلاّ
بالقرائن القطعية كما يقول ــــ مثلاً ـــــ السيد المرتضى وابن إدريس(قدّس سرّهما)،
هذه هي مباني حجّية خبر الواحد، هو يقول هناك اختلاف في هذه المباني وليس ناظراً
إلى مسألة الحسّية.
نرجع إلى أصل المطلب:
لدينا مرسلة للشيخ الصدوق(قدّس سرّه) نريد أن نثبت لها الحجّية، فهل يمكن إثبات
الحجّية لها على ضوء هذا الكلام، أو لا ؟
وبعبارةٍ أخرى: هل
أنّ كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه) تام، وبالتالي لا تكون مراسيل الشيخ الصدوق(قدّس
سرّه) حجّة ولا فرق بين مراسيله بين أن تكون بلسان روي عن الصادق(عليه السلام)، أو
قال الصادق(عليه السلام) ؟ أو أنّ كلامه غير تام ولابد من التفريق بينهما ؟