الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/05/07

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية


كان الكلام في الوجه الرابع لدفع الإشكال، وقلنا أنّه اعتُرض على هذا الوجه بعدّة اعتراضات وذكرنا الاعتراض الأول والثاني والثالث.
الاعتراض الرابع: ما تقدّم نقله عن السيد الخوئي(قدّس سرّه) في مقام الاعتراض على الترتب الحقيقي الذي قال به الشيخ كاشف الغطاء(قدّس سرّه)، وحاصله: يلزم من الترتب الحقيقي والترتب المسامحي[1] تعدد العقاب، وذلك فيما إذا فرضنا أنّ الجاهل بوجوب القصر ترك الصلاة رأساً، في هذه الحالة يلزم تعدد العقاب، باعتبار أنّه خالف أمرين، في الترتب الحقيقي خالف الأمر بالقصر والأمر بالتمام، وفي محل كلامنا خالف الأمر بالجامع وخالف الأمر بالقصر، فلابدّ أن يستحق عقابين، وهذا مما لا يمكن الالتزام به، فجعله إشكالاً على الترتب الحقيقي ويمكن أيضاً في المقام جعله إشكالاً على الترتب المسامحي.
 تقدّم الجواب عن هذا الاعتراض سابقاً، وهو أنّ تعدد العقاب يتبع تعدد الغرض الذي يفوّته العبد على مولاه، فإذا فوّت العبد غرضين لزومين؛ فحينئذٍ يتعدد العقاب، وأمّا إذا فرضنا أنّ العبد لا يفوّت على المولى إلاّ غرضاً لزومياً واحداً، وإن كانت التكاليف والأوامر متعددة، لكن بالنتيجة هناك غرض لزومي واحد يفوت على المولى، والعبد بتركه للصلاة لم يفوّت إلاّ غرضاً لزومياً واحداً؛ حينئذٍ لا مجال لتعدد العقاب.
وبعبارة أخرى: إنّ الأمر بالجامع والأمر بالقصر في محل الكلام ليس من قبيل الأمر بالصلاة والأمر بالصوم، أمران مختلفان كلٌ منهما ينشأ من غرضٍ، فمخالفتهما تكون موجبة لتعدد العقاب؛ لأنّه فوّت على المولى غرضين لزوميين، فيتعدد العقاب. في محل الكلام الأمر ليس هكذا، هناك أمر واحد في الحقيقة وهو الأمر بالقصر، وهذا الأمر فيه مصلحة ملزمة بحدٍ معيّن، وإنّما أُمرَ بالتمام في حالة الجهل بوجوب القصر لتدارك ما يمكن تداركه من تلك المصلحة؛ فحينئذٍ هناك مصلحة في الجامع هي بمقدار محدّد، فإذا جاء بالتمام هو يدرك تلك المصلحة، وما زاد على هذه المصلحة لا يدركها إلاّ بصلاة القصر. إذاً: هي مصلحة واحدة بمقدار عالي، التمام يدرك جزءً من هذه المصلحة، والقصر يدرك تمام هذه المصلحة، فإذا ترك الصلاة رأساً هو فوّت على المولى غرضاً لزومياً واحداً بذلك الحدّ العالي من المصلحة، وهذا لا يوجب إلاّ استحقاق عقابٍ واحد على هذه المخالفة.
نكتفي بهذه الوجوه الأربعة لحل الإشكال وتبيّن أنّ بعض هذه الوجوه الثبوتية تامّ لحل الإشكال، وهو الوجه الثالث الذي ذكره المحقق الخراساني (قدّس سرّه) في الكفاية من افتراض تعدد بلحاظ المبادئ والملاكات بالنحو الذي ذكره، وهذا الوجه الرابع أيضاً الذي هو التعدد في الملاك وفي الخطاب. بالنتيجة لا مانع من الالتزام بصحة صلاة التمام عندما يكون المكلف جاهلاً بوجوب القصر وفي نفس الوقت يستحق العقاب على مخالفة الواقع بتركه للتعلّم.
الآن ندخل في بحثٍ آخر يرتبط بوجوب التعلّم، وهو بعد الفراغ عن وجوب التعلّم وأنّ الواقع يتنجز على المكلف قبل الفحص ولا يجوز له إجراء البراءة قبل الفحص؛ لأنّ الواقع يتنجز عليه، يقع الكلام في أنّ وجوب التعلّم هل يختص بما إذا علم المكلف بابتلائه بهذا الحكم ؟ سواء علم تفصيلاً بأنّه سوف يبتلي به، أو علم إجمالاً بذلك، والعلم شامل للاطمئنان، المهم هو أن يحصل له العلم أو الاطمئنان إجمالاً أو تفصيلاً بأنّه سيبتلي بهذا الحكم في المستقبل؛ حينئذٍ يجب عليه التعلم الآن حتى يتمكن من الإتيان بالواجب على كيفيته الصحيحة شرعاً، أو يتمكن من إحراز الامتثال في وقته؛ لأنّه إذا ترك التعلّم إمّا لا يتمكن من الإتيان بالواجب على كيفيته الصحيحة شرعاً كما لو لم يعرف كيف يصلّي صلاة الآيات ــــــ مثلاً ــــــ أو لا يمكنه إحراز الامتثال إذا ترك التعلم. هل يختص وجوب التعلّم بهذه الحالة، أو أنّ التعلم يجب حتى لو يحرز ذلك ؟ بعبارة أخرى: يجب التعلم حتى عند احتمال الابتلاء بهذا الحكم في المستقبل.
نُسب إلى مشهور الأصوليين الثاني، يعني أنّ التعلم يجب في دائرة أوسع، حتى عند احتمال الابتلاء يكون التعلم واجباً. الأول ذهب إليه جماعة، يعني أنّ التعلم إنّما يجب عندما يُحرز المكلف أو يعلم إجمالاً أو تفصيلاً بابتلائه بهذا الحكم في المستقبل، أمّا عند مجرّد احتمال الابتلاء، فلا يجب عليه التعلم. واستُدل على ذلك بالاستصحاب، والمقصود به استصحاب عدم الابتلاء، المكلّف الآن المفروض أنّه لا يعلم بابتلائه في المستقبل، إذاً هو يشك في أنّه هل يبتلي أو لا يبتلي في المستقبل، فيستصحب عدم الابتلاء استصحاباً استقبالياً لإثبات عدم الابتلاء، فإذا أحرز عدم الابتلاء بالاستصحاب إحرازاً تعبّدياً؛ حينئذٍ لا يجب عليه التعلّم؛ لوضوح أنّ التعلم لا يجب عند إحراز عدم الابتلاء، والتعلم إنّما يجب في صورة إحراز الابتلاء، أو لا أقل نتعدّى نقول في صورة احتمال الابتلاء، أمّا في صورة القطع بعدم الابتلاء لا معنى لوجوب التعلم، وذلك باعتبار أنّ وجوب التعلّم وجوب طريقي وملاك وجوب التعلّم ملاك طريقي الغرض منه هو التحفظ على الواقع وعدم تفويته، وفي حالة القطع بعدم الابتلاء ليس هناك تفويت للواقع؛ لأنّه يعلم بأنّه لن يبتلي بهذا الواقع. فرضاً في مثال صلاة الآيات هو يعلم بأنّه سوف لا يبتلي بزلزال يحدث في بلده حتى تجب عليه صلاة الآيات، فإذا ترك التعلّم، فأنه لا يكون مؤدياً إلى تفويت الواقع، ففي حالة العلم بعدم الابتلاء لا معنى لوجوب التعلّم حينئذٍ. الاستصحاب يحرز للمكلف عدم الابتلاء؛ لأنّه إذا أجرى استصحاب عدم الابتلاء سوف يكون محرزاً لعدم الابتلاء تعبّداً كما أنّه لو أحرز عدم الابتلاء وجداناً لا يجب التعلم، كذلك إذا أحرز عدم الابتلاء تعبّداً بالاستصحاب أيضاً لا يجب عليه التعلم، فالمكلّف الذي يشك في الابتلاء بإمكانه أن يجري استصحاب عدم الابتلاء لإحراز عدم الابتلاء تعبّداً؛ وحينئذٍ لا يجب عليه التعلم، فاستُدل بالاستصحاب لإثبات عدم وجوب التعلّم في حالة الشك والاحتمال.
هذا الاستصحاب صار محل كلام فيما بينهم، السيد الخوئي (قدّس سرّه) ذكر في (مصباح الأصول) إشكالين على الاستدلال بالاستصحاب في المقام وأجاب عنهما، ثمّ ذكر اعتراضاً ثالثاً:[2]
الاعتراض الأوّل: دعوى أنّ أدلة الاستصحاب لا تشمل إلا الوقائع والحوادث الماضية فيما إذا حصل اليقين بها ثمّ الشك فيها، وأمّا الحوادث والوقائع التي ستحصل في المستقبل، فلا يشملها دليل الاستصحاب، وحيث أنّ المقام من هذا القبيل، فقد يُدّعى أنّ دليل الاستصحاب لا يشمله، فلا يصح الاستدلال بالاستصحاب.
وأجاب عنه (قدّس سرّه) بـأنّه في أدلة الاستصحاب لم يثبت اعتبار أن تكون الحوادث ماضية، وغاية ما يُستفاد من الاستصحاب أنّ المتيقن يجب أن يكون متقدماً زماناً على المشكوك، سواء كان هذا في الحوادث الماضية أو في الحوادث المستقبلية، فلا إشكال من هذه الجهة في جواز إجراء الاستصحاب الاستقبالي كما يجوز إجراء الاستصحاب بلحاظ الحوادث السابقة إذا أحرزنا تقدّم المتيقن زماناً على المشكوك، وفي المقام نحرز ذلك، حيث لدينا متيقن وهو عدم الابتلاء، فالمكلف فعلاً هو غير مبتلي بهذا الحكم، وإنّما هو يشك أنّه في المستقبل هل يبتلي به أو لا ؟ فيستصحب عدم الابتلاء الذي يتيقن به فعلاً.  
الاعتراض الثاني: هو ما نقله عن المحقق النائيني (قدّس سرّه)، وحاصله أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه إمّا حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكمٍ شرعي، أمّا إذا لم يكن المستصحب حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي، فلا يجري فيه الاستصحاب. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: أنّ الاستصحاب لا يجري فيما إذا فرضنا أنّ المستصحب له اثر، لكن الأثر يترتب على الشك، في هذه الحالة أيضاً لا معنى لجريان الاستصحاب؛ لأنّ الأثر عندما يكون مترتباً على الواقع؛ حينئذٍ نحتاج إلى إحراز الواقع لترتيب ذلك الأثر، أو إحراز عدمه لنفي ذلك الأثر، فنحتاج إلى الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب يحرز الواقع تعبّداً، أو عدم الواقع تعبداً، فإمّا أن نثبت ذلك الأثر أو ننفيه، أمّا إذا فرضنا أنّ الأثر الشرعي لا يترتب على الواقع، وإنّما يترتب الأثر على الشك؛ حينئذٍ لا معنى لجريان الاستصحاب. في محل الكلام عدم الابتلاء ليس حكماً شرعياً، وليس موضوعاً لحكم شرعي، كما أنّه من جهة أخرى الأثر الذي يُراد نفيه هو وجوب التعلّم، العقل يحكم بوجوب التعلّم من باب وجوب دفع الضرر المحتمل، فإذا كان كذلك؛ فحينئذٍ يكفي في وجوب التعلّم احتمال الضرر، يعني يكفي الشك في وجوب التعلّم، وعندما نفترض وجود الشك؛ فحينئذٍ يكون وجوب التعلّم ثابتاً ولا مجال لجريان الاستصحاب، إنّما يعقل جريان الاستصحاب عندما يكون الأثر مترتباً على الواقع، فبالاستصحاب نحرز الواقع تعبداً، فيترتب هذا الأثر، كأن يكون الأثر مترتباً على واقع العدالة، فبالاستصحاب إمّا أن نثبت العدالة، فنرتب الأثر الشرعي أو ننفي العدالة حتى ننفي الأثر الشرعي، أمّا عندما يكون الأثر مترتبا على الشك، فالشك موجود بالفرض، حيث المفروض أنّ المكلف يشك في ابتلائه بالحكم في المستقبل، وهذا الشك يترتب عليه الأثر الشرعي؛ ولذا لا مجال لجريان الاستصحاب. هذه الفكرة طبّقها المحقق النائيني(قدّس سرّه) في موارد عديدة ومنها ما تقدّم من أنّه كان يناقش في الاستدلال بالاستصحاب لإثبات البراءة، فقال بعدم جريان الاستصحاب؛ لأنّه يكفي في إثبات البراءة مجرّد الشك في التكليف؛ لأنّ البراءة ليست من آثار الواقع، وإنّما من آثار الشك في التكليف، فإذا فرضنا أنّ المكلف شاك في التكليف تثبت البراءة؛ وحينئذٍ لا معنى لإجراء الاستصحاب لإثبات البراءة. نفس هذه الفكرة يريد أن يقولها في المقام، في المقام وجوب التعلّم الذي مرجعه إلى وجوب دفع الضرر المحتمل، ويكفي في وجوب دفع الضرر المحتمل الشك في الابتلاء، وفي محل كلامنا نحن نفترض احتمال الضرر، وكلامنا هو في صورة الشك في الابتلاء؛ وحينئذٍ يجب دفع هذا الضرر المحتمل، ويجب التعلم ولا يصح حينئذٍ الاستدلال بالاستصحاب، لا لنفيه ولا لإثباته.
يُفهم من هذا الكلام أنّه إذا تمسكنا بالشرط الذي ذكره وهو أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكمٍ شرعي؛ فحينئذٍ يقال أنّ المستصحب في محل الكلام ليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي، ويزيد على ذلك النكتة الذي ذكرها وهي أنّه لا مجال لجريان الاستصحاب في محل الكلام باعتبار أنّ الأثر يترتب على الشك، والشك مفروض في محل الكلام، فلابدّ من الالتزام بوجوب التعلّم ووجوب دفع الضرر المحتمل ولا مجال لإجراء الاستصحاب لنفيه.
السيد الخوئي(قدّس سرّه) أجاب عن هذا الاعتراض بأنّه لا يُعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي؛ بل يكفي في جريانه أن يترتب عليه أثر. نعم، إذا لم يترتب عليه أثر أصلاً؛ حينئذٍ أدلة الاستصحاب قاصرة عن الشمول لمثل ذلك؛ حينئذٍ يقول: بناءً على هذا الرأي، وإذا ضممنا إليه رأي آخر هو يلتزم به، وهو أنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي؛ حينئذٍ يتبيّن أنّه في المقام يمكن إجراء الاستصحاب لنفي وجوب التعلّم ووجوب الفحص، باعتبار أنّ المستصحب وإن كان ليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي، لكنّ الاستصحاب يترتب عليه أثر، والأثر هو أنّه يُعبّد المكلف بعدم الابتلاء بالحكم في المستقبل، يعني سوف يثبت عدم الابتلاء تعبّداً.  إذاً: سوف يصبح المكلف محرزاً لعدم الابتلاء تعبّداً، إذا قلنا بأنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي؛ حينئذٍ سوف يكون هذا الإحراز التعبّدي لعدم الابتلاء يقوم مقام العلم الوجداني بعدم الابتلاء، وهذا معناه أنّه يمنع من شمول أدلة وجوب التعلّم لمثل هذه الحالة؛ لما قلناه سابقاً من أنّ وجوب التعلّم لا معنى له في حالة العلم الوجداني بعدم الابتلاء؛ لأنّ وجوبه وجوب طريقي، إذا كان الاستصحاب يقوم مقام العلم الوجداني بعدم الابتلاء، أيضاً يترتب عليه عدم وجوب التعلّم كما يترتب على العلم الوجداني بعدم الابتلاء؛ لأنّ وجوب التعلّم مقيّد بعدم العلم بعدم الابتلاء؛ لأنّ العلم مأخوذ في موضوع وجوب التعلم، فهنا لا مشكلة في إجراء الاستصحاب وترتب الأثر عليه ونفي وجوب التعلّم.
الذي ينبغي أن يقال في المقام هو أنّ هناك قضية ينبغي أن تكون واضحة وهي أنّه لا إشكال في وجوب التعلّم في فرض العلم بالابتلاء في المستقبل إذا علم أو احتمل بأنّه إذا ترك التعلم سوف يؤدي ذلك إلى عدم الإتيان بالواجب على وجهه التام والصحيح. كما أنّه لا ينبغي الإشكال أيضاً في أنّه لا يجب التعلم في صورة العلم بعدم الابتلاء. إذاً: الكلام يقع في صورة الشك واحتمال الابتلاء بالواقع في المستقبل، فلابد من استثناء صورة العلم بالابتلاء وصورة العلم بعدم الابتلاء، ويقع الكلام في ما إذا احتمل الابتلاء بالحكم في المستقبل.



[1].هو لم يذكر هذا الاعتراض في الترتب المسامحي، وإنّما ذكره في الترتب الحقيقي، لكن الملاك واحد. .
[2].مصباح الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد محمد الواعظ الحسيني، ج 2، ص 501.