الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/05/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية


كان الكلام في الوجه الرابع لدفع الإشكال وهو أن يُلتزم بوجود أمرين أحدهما متعلّق بالجامع بين صلاة القصر وصلاة التمام، والآخر متعلّق بصلاة القصر فقط، لكن أحد الفردين من الجامع وهو التمام يكون مترتباً على الجهل بالأمر بالقصر، فإنما يجب التمام في حق الجاهل بوجوب القصر؛ وحينئذٍ تنحل المشكلة؛ لأنّه إن صلّى التمام وكان جاهلاً بالأمر بالقصر تصح منه الصلاة؛ لأنّ التمام مأمور به بالأمر بالجامع بين القصر والتمام، فتصح الصلاة منه إن جاء بها تماماً في حال الجهل، ويستحق العقاب على ترك الأمر بالقصر؛ لأنّه بتركه التعلم أصبح جاهلاً بوجوب القصر، فيستحق العقاب على ذلك.
اعتُرض على هذا الوجه باعتراضات:
الاعتراض الأول: هو دعوى استحالة تعلّق الأمر بالجامع مع تعلّق أمر آخر بأحد فرديه وهو القصر، والوجه في هذه الاستحالة هو دعوى أن الأمر بالجامع يدل على الترخيص في تطبيق الجامع على كل واحدٍ من الأفراد، وهذا ينافي الإلزام بأحد الفردين، فكيف يمكن الجمع بين أن يرخّص الشارع للمكلف بتطبيق الجامع على صلاة القصر وبين أن يُلزم إلزاماً تعيينياً بصلاة القصر ؟! ومن هنا يقال باستحالة تعلّق الأمر بالجامع والأمر بأحد فرديه، وعلى هذا الأساس قيل يقع التنافي بين مثال(اعتق رقبة) و(اعتق رقبة مؤمنة) لأنّ مقتضى(اعتق رقبة) هو الترخيص في تطبيق الجامع على كلٍ من الرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة، وهذا ينافي الإلزام بعتق الرقبة المؤمنة، فتقع بينهما المنافاة، وهذه المنافاة هي الملاك في حمل المطلق على المقيد، فيُحمل المطلق على المقيّد ويُلتزم بوجود حكمٍ واحد متعلّق بخصوص المقيّد؛ حينئذٍ في محل الكلام يقال: لا يصح هذا الفرض لهذه المنافاة بين الترخيص في تطبيق الجامع على كلا الفردين وبين الإلزام بأحد الفردين، فمن هنا يكون هذا الوجه مرفوض لهذه النكتة.
جواب هذا الاعتراض هو: أنّ هذا ناشئ من تخيّل أنّ الترخيص المستفاد من تعلّق الأمر بالجامع هو ترخيص تكليفي معناه الأذن برفع اليد عن المقيّد رأساً، وأمّا إذا قلنا أنّ الترخيص هو ترخيص حيثي، يعني ترخيص من ناحية هذا الأمر بالجامع، فهذا لا ينافي الإلزام من ناحية أمر آخر، ولا ضير في أن نلتزم بأنّ الأمر بالجامع يقتضي الترخيص في تطبيق الجامع على كل واحد من الفردين، فيكون هذا الفرد من ناحية الأمر بالجامع لا مقتضي للإلزام به، وهذا لا ينافي أن يكون هذا الفرد بنفسه هناك ما يقتضي الإلزام به من ناحية الأمر الثاني.
وبعبارة أكثر وضوحاً: المفروض أننا نفترض وجود أمرين، أمر متعلّق بالجامع، وأمر ثانٍ متعلق بالقصر، الأمر المتعلّق بالجامع يقتضي الترخيص في تطبيق الجامع على القصر وعلى التمام، هذا الترخيص معناه أنّ الأمر بالجامع بما هو أمر بالجامع لا يقتضي الإلزام بصلاة القصر، أي أنّ الأمر بالجامع ليس فيه شيء يقتضي الإلزام بصلاة القصر، وكذلك ليس فيه شيء يقتضي الإلزام بصلاة التمام، وهذا لا ينافي أنّ هناك أمراً آخر يقتضي الإلزام بصلاة القصر، فالترخيص المستفاد من تعلق الأمر بالجامع ترخيص حيثي، أي ترخيص من ناحية الأمر بالجامع، يقول أنّ المكلف غير ملزم بالإتيان بصلاة القصر، يمكنه الإتيان بصلاة القصر ويمكنه الإتيان بصلاة التمام، هذا معنى الأمر بالجامع. في مثال(أعتق رقبة) من ناحية الأمر بعتق الرقبة المكلّف مخيّر بين أن يطبّق هذا على الرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة، وليس في هذا الأمر ما يقتضي الإلزام بعتق الرقبة المؤمنة، لكن هذا لا ينافي أنّ هناك أمراً آخر مع افتراض تعدد الأمر كما هو المفروض في محل كلامنا، مع افتراض تعدد الأمر يمكن افتراض أنّ الرقبة المؤمنة من ناحية الأمر الثاني هناك ما يقتضي الإلزام بعتقها من دون أن يكون هناك منافاة بين الأمرين، فدعوى الاستحالة على أساس هذه النكتة ليست تامّة.
الاعتراض الثاني: أنّ يقال باستحالة الأمر بالجامع في محل كلامنا من جهة اللّغوية، أي يلزم أن يكون الأمر بالجامع لغواً؛ وذلك لأنّ الأمر بشكلٍ عام إنّما لا يكون لغواً عندما تكون له محركية معقولة، أمّا إذا فرضنا أنّ هناك أمراً يجعله الشارع وليس له أي محركية؛ حينئذٍ يكون لغواً، فيُدّعى في المقام أنّ الأمر بالجامع ليست له محركية نحو متعلقه لا بالنسبة إلى من يجهل الأمر بالجامع ولا بالنسبة لمن يعلم الأمر بالجامع، كلٌ منهما لا يحركه الأمر بالجامع. أمّا من يجهل الأمر بالجامع، فواضح، فهو لا يتحرّك من الأمر بالجامع؛ لأنّه يجهله بحسب الفرض، وأمّا العالم بالأمر بالجامع، فأيضاً ليس للأمر بالجامع محركية معقولة بالنسبة إليه؛ وذلك لأنّ الأمر بالجامع عند العالم به لا يحرّكه إلاّ نحو صلاة القصر، ولا يحركه نحو الجامع الذي يمكن انطباقه على صلاة التمام حتى يكون له معنىً معقول، وإنّما العالم بالأمر بالجامع لا يحركه الأمر بالجامع إلاّ نحو أحد الفردين الذي هو صلاة القصر؛ لأنّ المفروض أنّ صلاة التمام مقيّدة كفرد للجامع بالجهل بوجوب صلاة القصر.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ الأمر بالجامع هو جامع بين القصر والتمام في حال الجهل بوجوب صلاة القصر، أمّا إذا علم بوجوب صلاة القصر ليس هناك أمر بصلاة التمام، إنّما يثبت الأمر بصلاة التمام ولو في ضمن الجامع عندما يكون المكلف جاهلاً بوجوب صلاة القصر، أمّا إذا كان عالماً بوجوب صلاة القصر وعالماً بالجامع الذي يشمل الأمر بوجوب صلاة القصر؛ حينئذٍ مثل هذا لا يتحرك نحو التمام؛ لأنّه عالم بوجوب صلاة القصر بحسب الفرض، إذا كان المكلّف جاهلاً، فهذا يعني أنّه جاهل بالجامع، والأمر بالجامع لا يحرّك من يكون جاهلاً به. وأمّا إذا عالماً بالأمر بالجامع، فهذا الأمر لا يحركه إلاّ نحو القصر؛ لأنّنا فرضنا أنّه عالم بوجوب صلاة القصر، ولو في ضمن الجامع، فلا يتحرك نحو التمام، ومن هنا يكون الأمر بالجامع لغواً، فأي فائدة من هذا الأمر بالجامع، والحال أنّ المكلّف في حال جهله لا يتحرّك من هذا الأمر بالجامع، وفي حال علمه أيضاً لا يتحرك إلاّ نحو أحد فرديه الذي هو القصر، فالأولى أنّ يأمر بالقصر، ثمّ يأمر بالتمام على تقدير الجهل بوجوب القصر، ولا داعي لأن يأمر بالجامع، ثمّ يأمر بالقصر.
يمكن التخلّص من هذا الاعتراض ـــــــ كلامنا ثبوتي ــــــ بافتراض أنّ صلاة التمام مقيدة بالجهل بالأمر الثاني كما هو في أصل الطرح، حيث ذُكر أنّ الأمر يتعلّق بالجامع بين صلاة القصر وصلاة التمام، وصلاة التمام مترتبة على الجهل بالأمر الثاني وليس على الجهل بالأمر بالجامع، فالأمر بالجامع يكون أمراً بالجامع بين صلاة القصر وصلاة التمام على تقدير الجهل بالأمر الثاني، وهو الأمر الخاص المتعلق بصلاة القصر تعييناً؛ حينئذٍ يندفع الاعتراض؛ لأننا نقول: لا يمكن أن نقول أنّ الأمر بالجامع ليست له محركية؛ لأنّ العالم بالأمر بالجامع إذا كان جاهلاً بوجوب القصر تعييناً ــــــ الأمر الثاني ــــــ يمكن أن يتحرك نحو صلاة التمام، ولا نستطيع أن نقول أنّ الأمر بالجامع لا يحركه إلاّ نحو صلاة القصر؛ بل هو يحركه نحو صلاة التمام، فلا يكون لغواً.
نعم، الأمر بالجامع في حال الجهل به لا يحرك الجاهل به، لكن في حال العلم بالأمر بالجامع، والجهل بالأمر الثاني، الأمر بالجامع يحرّك المكلف نحو الإتيان بصلاة التمام؛ لأنّه عالم بالأمر بالجامع الشامل للتمام وللقصر وجاهل بالأمر الثاني، فهو يحركه نحو صلاة التمام، فلا يكون لغواً. وتوهّم اللّغوية نشأ من أنّ وجوب التمام مقيّد بالجهل بالأمر بالجامع، فإذا فرضناه عالماً بالجامع؛ فحينئذٍ لا أمر بالتمام، فلا يحرك نحو التمام، فلا يحرك إلاّ نحو القصر، بينما الصحيح هو أنّ صلاة التمام ليست مقيدة بالجهل بالأمر بالجامع، وإنّما هي مقيدة بالجهل بالوجوب التعييني المتعلق بصلاة القصر، فالعالم بالأمر بالجامع يتحرّك نحو صلاة التمام، فلا يكون الأمر بالجامع لغواً، كما أنّ ما فرضه الشيخ كاشف الغطاء ليس لغواً بأن يقال أنّ الأمر يتعلّق بالقصر وهناك أمر ترتبي يتعلق بالتمام على تقدير الجهل بوجوب القصر، فلا يكون لغواً، هنا بدلاً من هذا نجعل الأمر بالجامع ويكون محرّكاً نحو صلاة التمام عندما يكون جاهلاً بالأمر الثاني، فيرتفع محذور اللغوية.
الاعتراض الثالث: أن يُدّعى الاستحالة على أساس أنّه يلزم من هذا الفرض تقدّم المتأخّر وتأخّر المتقدّم، باعتبار أنّ وجوب القصر مشروط ـــــــ بناءً على هذا الكلام ـــــــ بعدم سبق التمام في حال الجهل بوجوب القصر، وهنا تأتي قضية تقدّم المتأخر وتأخّر المتقدّم؛ لأنّ الوجوب بشكل عام متأخّر عن متعلقه، تأخر العارض عن معروضه، فإذا أخذنا في المتعلّق نفس الوجوب؛ فحينئذٍ يلزم الإشكال، وهو أنّ الوجوب الذي من المفروض أن يكون متأخّراً رتبة عن متعلّقه سوف يصبح متقدّماً على نفسه؛ لأنّه أخذنا هذا الوجوب في متعلّقه نفسه؛ لأنّه قلنا أنّ وجوب القصر إنّما يثبت لصلاة القصر المقيدة بعدم المسبوقية بصلاة التمام في حال الجهل بوجوب صلاة القصر، فكأنّ الوجوب الذي يُفرض كونه متأخراً عن متعلقه سوف يكون متقدّماً، فما فُرض متأخراً يكون متقدّماً، وهذا محذور لا يمكن الالتزام به.
هذا الاعتراض كأنّه مبني على افتراض أنّ الجهل بالشيء لا يتحقق إلا عند افتراض تحقق ذلك الشيء، فمن هنا يكون الجهل بالشيء متأخّراً عن الشيء نفسه، فعندما تجهل شيء لابدّ من افتراض وجود شيء وأنت تجهل به؛ حينئذٍ يرِد هذا الإشكال؛ لأنّ وجوب القصر متأخّر عن متعلقه الذي هو صلاة القصر المقيّدة بالجهل بوجوب القصر، يُفترض في هذا الإشكال كأنّ الجهل بوجوب صلاة القصر يستلزم تحقق الوجوب على مستوى متعلّق وجوب القصر، فيكون متقدّماً والحال أننا فرضناه متأخراً، أي أنّ الوجوب الذي هو متأخّر عن متعلقه سوف يُفترض تحققه قبل تحقق متعلقه، فالوجوب الذي كان متأخراً رتبةً عن متعلقه سوف يفترض متقدّماً على نفسه، فيلزم هذا المحذور. لكن الكلام في أنّ الجهل بالشيء هل يتوقف على تحقق ذلك الشيء أو لا ؟ يمكن أن يقال بأنّه لا يتوقف على تحققه، بأن نفسّر الجهل بمطلق عدم العلم الذي يجتمع مع عدم وجود ذلك الشيء أصلاً، فالقول بأنني لا أعلم بالشيء ليس معناه أنّ هناك شيئاً وأنا لا أعلم به؛ بل حتى إذا لم يكن هناك شيء يصح لي أنّ أقول أنا لا أعلم بذلك الشيء أو أنا أجهل ذلك الشيء، ولو لعدم تحقق ذلك الشيء، إذا فسّرنا الجهل بمطلق عدم العلم، ليس مأخوذاً فيه تحقق ما يتعلّق به، فحتى مع عدم فرض تحققه يمكن أن يقال هذا يجهل بذلك الشيء، فالجهل بالشيء بمعنى مطلق عدم العلم به يجتمع مع عدم الشيء ولا يتوقف على وجود الشيء؛ وحينئذٍ لا يلزم الإشكال.