الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/05/04

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية


الاعتراض الثالث: على ما ذكره المحقق الخراساني(قدّس سرّه) هو ما أشار إليه في نفس الكفاية وأجاب عنه،[1] والإشكال الذي ذكره موجود في كلمات الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)،[2] وحاصله هو: أنّ ما ذُكر في هذا الوجه يستلزم أن يكون صلاة التمام مانعاً عن الإتيان بصلاة القصر؛ لأنّه فُرض في هذا الوجه أنّ المكلّف عندما يأتي بالتمام لا يتمكن من استيفاء مصلحة صلاة القصر، فيصبح المكلّف عاجزاً عن صلاة القصر ذات المصلحة الخاصة عندما يصلي صلاة التمام، فتكون صلاة التمام مانعة عن الإتيان بصلاة القصر على ما لها من المصلحة الملزمة والملاك التام؛ وحينئذٍ يقال بأنّ صلاة التمام تكون حرام، باعتبار أنّ عدم المانع من مقدمات حصول الشيء وهذا معناه أنّ عدم التمام يكون من مقدمات صلاة القصر؛ لأنّ التمام يمنع من صلاة القصر بمرتبتها التامّة كواجب واقعي، فعدم التمام يكون من مقدّمات صلاة القصر؛ وحينئذٍ يكون واجباً؛ لأنّه مقدّمة، ومقدّمة الواجب واجبة، فعدم التمام يكون واجباً؛ وحينئذٍ يكون نقيضه الذي هو التمام حراماً، فيقع فاسداً؛ لأنّ النهي في العبادات يقتضي الفساد، فكيف يُحكم بصحتها ؟
أجاب المحقق الخراساني(قدّس سرّه) عن هذا الاعتراض بأننا نسلّم بأنّ التمام والقصر ضدان، لكن ثبت في محله أنّ عدم أحد الضدين ليس مقدمة للضد الآخر؛ وإنّما عدم أحد الضدّين ووجود الضد الآخر فقط أمران متلازمان، وهذا التلازم هو نتيجة التضاد بين وجوديهما، فيكون عدم أحدهما ملازماً مع وجود الضد الآخر من دون أن يكون عدم أحدهما مقدّمة لوجود الضد الآخر فحينئذٍ كيف يُجعل عدم التمام من مقدّمات وجود صلاة القصر. إذاً: هذا الاعتراض ليس تامّاً.
لكن أورد على هذا الجواب بما حاصله: إذا بحثنا عن مركز التضاد سنجد أنّه ليس بين صلاة القصر وصلاة التمام لوضوح أنّ ليس بينهما تضاد؛ لإمكان الجمع بينهما، فبإمكان المكلف أن يصلي صلاة التمام وأن يصلي صلاة القصر، وإنّما التضاد يكون بين الملاكين وبين المصلحتين التي يقتضيهما كل واحدٍ من هذين الفعلين، بمعنى أنّ استيفاء إحدى المصلحتين تمنع من استيفاء المصلحة الأخرى، مركز التضاد هو الملاكات لا الأفعال، فالتضاد يكون بين المصلحة التي تتحقق بالإتيان بصلاة القصر والمصلحة التي تتحقق بالإتيان بصلاة التمام. بناءً على هذا؛ حينئذٍ يكون كل واحدٍ من القصر والتمام هو علّة وسبب لتحقق مصلحته، فصلاة القصر علّة وسبب لتحقق مصلحة القصر، وصلاة التمام علّة وسبب لتحقق مصلحة التمام، فهناك فعلان وهناك مصلحتان، المصلحتان معلولتان للفعلين. الذي ثبت في محله كما اشار إليه المحقق الخراساني(قدّس سرّه) هو عدم وجود توقف بين الضد وعدم الضد الآخر، بمعنى أنّ عدم أحد الضدّين ليس من مقدمات وجود الضد الآخر، لكن في نفس الوقت أنّ عدم علّة أحد الضدين يكون من مقدمات وجود الضد الآخر. مثال: نفرض أنّ لدينا ضدّان برودة وحرارة، الحرارة لها علّة وهي النار، ثبت أنّ عدم النار التي هي عدم علّة الحرارة من مقدّمات وجود البرودة؛ لأنّ النار تمنع من تأثير مقتضي البرودة في البرودة، فوجود النار يكون مانعاً وعدمها يكون عدم مانع، وعدم المانع هو مما يتوقف عليه وجود الشيء، فوجود البرودة يتوقف على عدم النار، يعني عدم علّة أحد الضدين يكون من مقدّمات وجود الضد الآخر.
هذه الفكرة التي طبقناها على مثال البرودة والحرارة، الآن نطبقها في محل الكلام حيث التضاد قائم بين المصلحتين اللّتين تتحققان بهذين الفعلين لا بين الفعلين، هذان أمران بينهما تضاد، بمعنى أنّ استيفاء أحدهما يمنع من استيفاء الآخر، علّة وسبب هاتين المصلحتين هما نفس الفعلين؛ لأنّ الفعل يعتبر بمثابة السبب التوليدي بالنسبة للمصلحة، فالقصر سبب توليدي لمصلحته، والتمام أيضاً سبب توليدي لمصلحته، فيوجد تضاد بين المصلحتين. عدم علّة أحد الضدين يكون من مقدمات وجود الضد الآخر، بمعنى في محل الكلام أنّ التمام الذي هو علّة لمصلحة التمام يكون عدمه من مقدمات وجود مصلحة القصر. إذاً: وجود مصلحة القصر وتحققها موقوفة على عدم المانع، فتكون موقوفة على عدم التمام، عدم التمام باعتباره يمثّل عدم علة أحد الضدين؛ لأنّ التمام علّة لمصلحته الذي هو مصلحة التمام أحد الضدين؛ لأنّ التضاد بين الملاكات، عدم التمام يعني عدم علة أحد الضدين يكون من مقدمات وجود الضد الآخر، يعني من مقدّمات وجود مصلحة القصر.
إذاً: بالنتيجة صار عدم التمام من مقدمات وجود الواجب، أي من مقدمات صلاة القصر بما لها من الملاك والمصلحة؛ فحينئذٍ إذا قلنا بأنّ مقدمة الواجب واجبة فيكون عدم التمام واجب بالوجوب المقدّمي، وبالتالي يحرم نقيضه، فيرد الإشكال السابق على الوجه الذي ذكره في الكفاية، ولا ينفع حينئذٍ جواب المحقق الخراساني(قدّس سرّه)؛ لأنّ جوابه يقول أنّ عدم أحد الضدين ليس من مقدمات وجود ضده، نحن نسلّم هذا، لكن عدم علّة أحد الضدين هو من مقدمات وجود الضد الآخر باعتبار أنّه يمثل عدم مانع، وعدم المانع من جملة مقدمات وجود الشيء، فإذا ضممنا لذلك أنّ التضاد إنما هو بين المصلحتين لا بين الفعلين، يكون عدم التمام من مقدمات وجود صلاة القصر بما لها من المصلحة باعتباره عدم مانع، فإذا كان من مقدماته وقلنا بأنّ مقدمة الواجب واجبة، يكون عدم التمام واجباً، فيحرم نقيضه وهو التمام، وبناءً على الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها، فتقع صلاة التمام فاسدة، فيرجع الإشكال كما كان.
هذا الإيراد مبني على افتراض أنّ مقدمة الواجب تتصف بالوجوب الشرعي الذي يتعلق به الأمر الشرعي المولوي على غرار سائر الأوامر، فتكون مأمور بها بالأمر المقدمي الذي هو أمر شرعي كما هو الحال في سائر الأوامر المولوية، غاية الأمر أنّ هذا الأمر مقدّمي وليس نفسياً، لكنه أمر شرعي يتعلق بمقدمة الواجب؛ حينئذٍ يقال: أنّ هذا التسلسل سوف يؤدي إلى الالتزام بوجوب ترك التمام وجوباً مقدمياً، فيتعلق به أمر شرعي، وإذا تعلق به أمر شرعي؛ حينئذٍ يحرم نقيضه الذي هو نفس صلاة التمام، وإذا حرمت تقع فاسدة. أمّا إذا أنكرنا أصل وجوب مقدمة الواجب، فالمسألة واضحة، ويندفع هذا الإشكال؛ لأنّه قائم على أن يصل إلى نتيجة أنّ عدم التمام مقدّمة لوجود صلاة القصر الواجب الواقعي، فإذا صار مقدمة يكون عدم التمام واجب بالوجوب المقدمي، وإذا صار واجباً يحرم نقيضه، فهذا الإشكال قائم على افتراض أنّ مقدّمة الواجب واجبة.
لكن لو سلّمنا أنّ مقدمة الواجب واجبة، المقصود بوجوب مقدمة الواجب هل هو تعلق أمر شرعي مولوي بالمقدمة ؟ حتى نقول أنّ ترك التمام تعلّق به أمر شرعي، فيحرم نقيضه فيقع التمام فاسداً ؟ أو نقول بناءً على تسليم أنّ مقدمة الواجب واجبة، فالمقصود بذلك هو فقط إثبات المحبوبية وليس أمراً شرعياً، باعتبار أننا لا نستطيع أن نفرض على المولى أن يأمر بمقدمة الواجب لمجرّد توقف الواجب عليها، العقل لا يدرك هذا المعنى، وإنّما ما يدركه العقل هو أنّ المحبوبية المتعلّقة بذي المقدمة مع فرض أنّ ذي المقدمة يتوقف على مقدمات وجودية، فتسري هذه المحبوبية من ذي المقدمة إلى المقدّمات، فما يثبت هو فقط تعلق محبوبية بمقدمة الواجب؛ حينئذٍ إذا تمّ هذا وأنّ الثابت ـــــــ بناءً على وجوب مقدمة الواجب ـــــــ هو فقط المحبوبية، المحبوبية في المقدمة لا تنافي إمكان التقرب بنقيضها، يعني يثبت محبوبية ترك التمام باعتباره مقدّمة لفعل صلاة القصر الواجب الواقعي، وليس معنى محبوبية ترك التمام أنّ التمام يقع حراماً، وإنّما غايته أن يقع التمام مبغوضاً، وهذه المبغوضية هل تنافي التقرب به لو جاء به المكلّف بحيث يقع عبادة ؟ وهل يقع صحيحاً أو لا ؟ قياساً لمحل الكلام على العبادات المكروهة ينبغي أن نلتزم بأنّه لا ينافي ذلك، العبادات المكروهة عندما يكون التقرب بالجامع وإن كانت الخصوصية مبغوضة، لكن يمكن التقرب بالجامع. هذا يكون من هذا القبيل، بمعنى أنّ هذا بالرغم من كونه مبغوضاً، لكنه يمكن التقرب به إذا جاء به ولا يكون هذا موجباً لبطلانه وفساده، الأمر يتعلّق به، والمحبوبية موجودة فيه؛ إذ بحسب فرض الكلام أنّ هناك محبوبية متعلقة بالتمام، نحن بهذا الكلام اثبتنا أنّ ترك التمام أيضاً محبوب؛ حينئذٍ يكون فعل التمام وتركه محبوباً، كلٌ منهما محبوب، أمّا فعل التمام؛ فلأنه محبوب بحسب الفرض، وأمّا ترك التمام، فيكون محبوباً باعتبار أنّه يكون مقدمة لفعل صلاة القصر التي هي الواجب الواقعي، فيكون كل منهما محبوباً. في حالة من هذا القبيل لا مانع من أن يتقرب بالفعل باعتبار أنّ فيه محبوبية ويقع صحيحاً، وإن كان من جهة ٍأخرى يكون مبغوضاً؛ لأنّ ترك التمام محبوب، ولازم كون ترك التمام محبوب أن يكون في التمام شيء من المبغوضية، لكن هذه المبغوضية الموجودة في التمام لا تنافي وقوع التمام صحيحاً ومقرّباً كما هو الحال في الصلاة في الحمام حيث أنّ الصلاة في الحمام فيها مبغوضية، لكن هذه المبغوضية لا تمنع من محبوبية أصل الفعل، فيقع الفعل صحيحاً ومقرّباً، وإذا صلّى في الحمّام تقع صلاته صحيحة وإن كانت هناك مبغوضية. وما نحن فيه من هذا القبيل، التمام فيه محبوبية ـــــــ بحسب الفرض ــــــ وترك التمام فيه محبوبية بحسب هذه المقدمات، والمحبوبية التي في ترك التمام تستلزم نوع من المبغوضية في التمام، لكنّ هذه المبغوضية في التمام لا تمنع من التقرب بالتمام لكونه محبوباً بحسب الفرض؛ فحينئذٍ يقع الفعل صحيحاً. هذا هو الجواب عن هذا الإيراد.   








[1].كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ج 1، ص 378.
[2].فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري، ج 2، ص 439.