الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/04/29

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية


كان الكلام في الوجه الثاني للجواب عن الإشكال الوارد على ما ذهب إليه المشهور من صحّة الصلاة تماماً في موضع القصر، أو الصلاة الجهرية في موضع الإخفات، أو الصلاة الإخفاتية في موضع الجهر جهلاً بالحكم مع الالتزام باستحقاق العقاب على ترك التعلّم المؤدي إلى ترك الواجب.
قلنا هناك وجوه والكلام كان في الوجه الثاني وهو مسألة الترتب، وقلنا أنّه أجيب عن هذا الوجه بعدّة أجوبة وذكرنا الجواب الأول وفرغنا منه، وتبيّن أنّه تامٌ في الجملة، بمعنى أنّ هناك تشكيكاً في انطباق صغرى الترتب في محل الكلام، أو منع لانطباق كبرى الترتب في محل الكلام.
الجواب الثاني: أيضاً ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) في(فوائد الأصول)، وفي(أجود التقريرات)،[1] غاية الأمر أنّه ذكره في(فوائد الأصول) لا في هذا الموضع، وإنّما ذكره في الجزء الأول منه في مبحث الترتب،[2] وحاصله: حتى يُعقل الترتب لابدّ من فرض أنّ الضدين لهما ثالث حتى يعقل الأمر بأحدهما مترتباً على ترك الآخر، وأمّا إذا كانا من الضدين اللذين لا ثالث لهما؛ فحينئذٍ لا يُعقل أن يؤمر بأحدهما مشروطاً بترك الآخر؛ لأنّ فرض ترك الآخر هو فرض تحقق الضد الأول، ومع فرض تحققه لا معنى لطلبه؛ لأنّ طلبه يكون طلباً للحاصل، وهو محال، مثلاً الحركة والسكون لا معنى لأن يؤمر بالحركة على تقدير ترك السكون؛ لأنّ ترك السكون يعني الحركة، وهكذا العكس، والمقام من هذا القبيل، محل الكلام من الضدين اللذين لا ثالث لهما، باعتبار أنّ الجهر والإخفات في القراءة لا ثالث لهما؛ لأنّ القراءة لا تخلوا إمّا أن تكون جهرية وإمّا أن تكون إخفاتية، إن لم تكن جهرية فهي إخفاتية، وإن لم تكن إخفاتية فهي جهرية ولا نتصوّر حالة ثالثة تكون فيها قراءة ولكن لا تكون جهرية ولا إخفاتية، فالجهر والإخفات في القراءة من الضدين اللّذين لا ثالث لهما، فلا يُعقل جريان الترتب فيها؛ بل يكون ترك أحدهما ملازماً للإتيان بالآخر، ومع ذلك يكون طلب الآخر مشروطاً بترك الأول طلباً للحاصل.
يُلاحظ على هذا الجواب: لو سلّمنا فرضاً أنّ الجهر والإخفات من هذا القبيل، فالظاهر أنّ القصر والتمام ليس من هذا القبيل، أي ليس من الضدين اللذين لا ثالث لهما؛ وذلك لأنّ القصر والتمام يلحظان بالنسبة إلى الصلاة، كما أنّ الجهر والإخفات لاحظهما بالنسبة إلى القراءة، لكن القصر والتمام ليس هناك شيء نلحظهما بالنسبة إليه إلاّ الصلاة، والظاهر أنّ القصر والتمام في الصلاة لهما ثالث؛ لأنّه بالإمكان أن يترك كلاً من القصر والتمام ويصلي صلاةً لا هي قصر ولا تمام كأن يصلي ثلاث ركعات، هذه صلاة، ولكنها ليست قصراً وليست تماماً، إذاً هناك حالة ثالثة يمكن على ضوئها أن نقول أنّ الأمر بأحد الشيئين مشروطاً بترك الآخر لا يعني طلب الحاصل الذي هو المحذور الذي أوجب أن نشترط في الترتب هذا الشرط، طلب الصلاة القصرية ليس ملازماً لحصول الصلاة التمام، فبإمكانه أن يصلي صلاةً لا هي قصر ولا تمام، فلا يتحقق فيها ما قاله من أنّهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما؛ بل نترقى أكثر ونقول أنّ هذا الأمر ليس حاصلاً حتى في الجهر والإخفات، في مسألة الجهر والإخفات أيضاً الضدان اللذان يقال بتحقق الترتب فيهما هما من الضدين اللذين لهما ثالث، وذلك باعتبار أنّ الترتب لا يكون بين الأمرين الضمنيين، وإنّما يكون بين الأمرين الاستقلاليين، يعني الأمر الضمني بالجهر والأمر الضمني بالإخفات، أو الأمر الضمني بالقراءة الجهرية، والأمر الضمني بالقراءة الإخفاتية، الترتب لا يقع بينهما؛ لأنّها أوامر ضمنية، الأمر بالقراءة أمر ضمني وليس استقلالي، هو واقع في ضمن مركب أُمر به على نحو الاستقلال الذي يُسمّى بالصلاة، فالترتب لا يقع في الأوامر الضمنية، وإنّما يقع في الأوامر الاستقلالية، يعني الأمر بالصلاة الإخفاتية، والأمر بالصلاة الجهرية، الترتب يقع في هذا، بأن يقال ــــــ مثلاً ــــــ أن يؤمر بالصلاة الإخفاتية مشروطاً بترك الصلاة الجهرية، فالترتب إنّما يكون في الأوامر الاستقلالية، يعني الأمر الذي يتعلّق بالصلاة الجهرية، فرضاً في صلاة الصبح، عندما يترك المكلف الصلاة الجهرية، يقال له يجب عليك الإتيان بالصلاة الإخفاتية، فيكون الأمر بالصلاة الإخفاتية في حالة الجهل مترتباً على ترك الصلاة الجهرية؛ فحينئذٍ يكون الضدان اللذان وقع الترتب بينهما هما عبارة عن الصلاة الإخفاتية والصلاة الجهرية، ومن الواضح أنّ الصلاة الجهرية والصلاة الإخفاتية من الضدّين اللذين لهما ثالث، ممّا يمكن تركهما معاً بأن يترك المكلّف الصلاة نفسها؛ فحينئذٍ يكون هذا هو الثالث الذي يتحقق فيه ترك الصلاة الجهرية والصلاة الإخفاتية، الصلاة الجهرية عندما يؤمر بها مشروطاً بترك الصلاة الإخفاتية، ترك الصلاة الإخفاتية ليس معناه أنّه يصلي صلاة جهرية حتى يكون طلب الصلاة الجهرية في هذا الحال طلباً للحاصل وهو محال، فيخرج المقام عن باب الترتب. كلا، ترك الصلاة الجهرية قد يكون بالإتيان بالصلاة الإخفاتية، وقد يكون بتركها رأساً، فهذا ثالث يمكن أن يتحقق فيه ترك أحدى الصلاتين وليسا من الضدين اللذين ليس لهما ثالث؛ بل هما من الضدّين اللذين لهما ثالث.
نعم، إذا لاحظنا القراءة، فهي إمّا أن تكون جهرية وإمّا أن تكون إخفاتية، هنا قد يصح كلامه بأنّه لا يمكن تصوّر قراءة من دون جهر ومن دون إخفات، لكن الملحوظ في باب الترتب ليس هو الترتب بين الأوامر الضمنية، وإنّما يُلحظ الترتب بين الأوامر الاستقلالية، يعني بين الصلاة الجهرية والصلاة الإخفاتية.
ما هو الدليل على أنّ الترتب لابدّ أن يقع بين الأوامر الاستقلالية ولا يقع بين الأوامر الضمنية ؟ الدليل على ذلك هو عبارة عن أنّ أصل فكرة الترتب أنّ الأمر بالمهم يكون مشروطاً بترك أو عصيان الأمر بالأهم، الكلام في أنّ هذا الشرط هل هو شرط لوجوب المهم، أو هو شرط للواجب ؟ ترك الأهم أو عصيانه هل هو من شرائط الوجوب المهم، أو هو من شرائط الواجب ؟
قالوا: هو من شرائط الوجوب، بمعنى أنّ وجوب المهم يكون مشروطاً بترك الأهم أو عصيانه، لا أنّه من شرائط الواجب بحيث أنّ الوجوب لا يكون مشروطاً بالترك؛ بل يكون ثابتاً حتى قبل الترك، وإنّما هو من شرائط الوجوب، بمعنى أنّ الوجوب الترتبي والأمر الترتبي يكون مشروطاً بعصيان الأهم أو تركه؛ لأنّه لو كان الشرط راجعاً للواجب وكان من المقدمات الوجودية ومن شرائط الواجب؛ حينئذٍ يلزم أن يكون الوجوب فعلياً قبل تحققه. قالوا : وهذا غير معقول؛ لأنّ هذا يلزم منه طلب الضدين، باعتبار أنّ الأمر بالأهم هو فعلي على كل تقدير، فإذا فرضنا أنّه قبل تحقق هذا الشرط كان وجوب المهم أيضاً فعلياً؛ لأنّ هذا الشرط ليس شرطاً في الوجوب حتى يمنع من فعلية الوجوب قبله، وإنّما هو شرط في الواجب، فيكون الوجوب قبله فعلياً، وهذا معناه أنّ وجوب المهم أيضاً يصبح فعلياً، بينما فرضنا أنّ وجوب الأهم أيضاً هو فعلي ويدعو المكلف للإتيان بمتعلقه، وهذا يلزم منه طلب الضدين وهو محال، فلابدّ أن يكون الشرط شرطاً للوجوب حتى لا نقع في هذا المحذور، بمعنى أنّ الشرط يكون شرطاً لوجوب المهم، فإذاً: قبل تحقق الشرط لا وجوب للمهم حتى يلزم طلب الضدين.
نعم، بعد تحقق الشرط خارجاً حينئذٍ يُطلب منه الضد وهو المهم، فلا يلزم طلب اجتماع الضدين لا قبل تحقق الشرط ولا بعد تحققه؛ لأنّه بعد تحقق الشرط وعصيان الأهم وتركه؛ حينئذٍ لا يكون المطلوب منه هو الأهم، وإنّما يطلب منه المهم على تقدير ترك الأهم، قبل تحقق الشرط لا يُطلب منه إلاّ الأهم، فلا يلزم طلب اجتماع الضدين حتى يلزم المحال، وعلى هذا لابدّ أن يكون الشرط شرطاً للوجوب حتى لا نقع في هذا المحذور؛ لأنّه متى ما كان الشرط شرطاً للواجب لا للوجوب، فهذا معناه أنّ وجوب المهم يكون فعلياً على كل تقدير وفي جميع الأحوال، يكون حاله حال وجوب الأهم، فيُطلب من المكلف الإتيان بكلٍ منهما، بالمهم والأهم، وهذا محال. بينما إذا قلنا أنّ الأمر بالمهم كوجوب مشروط بترك الأهم لا يلزم منه طلب الجمع بين الضدين على ما ذُكر في بحث الترتب، أنّه لا يلزم من فكرة الترتب أن يُطلَب من المكلف الجمع بين الضدين في آنٍ واحد؛ لأنّه إن لم يعصِ الأهم لا يُطلب منه إلاّ الأهم، إذا عصا الأهم حينئذٍ يُطلب منه المهم، هذا إنّما يُتصوّر بناءً على أن يكون الشرط شرط للوجوب؛ حينئذٍ تأتي هذه الفكرة، أنّه حاصل هذين الأمرين الترتبيين هو أن لا يُطلب من المكلف أن يجمع بين الضدين حتى يكون محال. أمّا إذا قلنا أنّ الشرط شرط للواجب لا للوجوب، هذا معناه أن يؤدي إلى أن يطلب منه أن يجمع بين الضدين.
إذا تمّ هذا؛ حينئذٍ يقال في محل الكلام أنّ عصيان الأهم أو تركه هو شرط في وجوب المهم لا في الواجب، هذا الشرط حينئذٍ هل يُعقل أن يكون شرطاً في الأمر الضمني أو لا ؟ كلامنا أصلاً في أنّ الترتب هل يكون بين الأوامر الضمنية، أو لا يكون إلاّ بين الأوامر الاستقلالية ؟ ويُراد الاستدلال على أنّه لا يكون بين الأوامر الضمنية، وإنّما يكون بين الأوامر الاستقلالية؛ فحينئذٍ يقال: معنى أنّ الترتب بين الأوامر الضمنية يعني أنّ الأمر الضمني المتعلّق بالإخفات، أو المتعلّق بالجهر، أو المتعلّق بالقراءة الإخفاتية، أو القراءة الجهرية، لا إشكال في أنّ هذا الأمر أمر ضمني وليس أمراً استقلالياً، إذا كان الترتب حاصلاً بين هذين الأمرين الضمنيين، يعني الأمر بالإخفات والأمر بالجهر، هذا معناه أنّ الأمر بالقراءة الإخفاتية ـــــــ فرضاً ـــــــ في صلاة الصبح مشروط بترك القراءة الجهرية، يعني عصيان الأمر الضمني بالجهر، فيكون الأمر الضمني والوجوب الضمني مشروط بهذا الشرط، فهو شرط للوجوب؛ لأنّ الشرط في باب الترتب يكون شرطاً للوجوب وليس للواجب، فإذا كان شرطاً للأمر الضمني؛ حينئذٍ نسأل: أنّ هذا هل هو شرط لهذا الأمر الضمني وحده دون سائر الأوامر الضمنية الأخرى التي يجمعها المجموع المركّب الذي يُعبر عنه بالصلاة الذي يشتمل على أوامر ضمنية كثيرة، واحد منها الأمر بالقراءة الجهرية في صلاة الصبح، فيقال: هنا يؤمر بالصلاة الإخفاتية مشروط بترك القراءة الجهرية، هذا الشرط إن كان شرطاً لخصوص هذا الأمر الضمني دون سائر الأوامر الضمنية، فهذا فيه مشكلة، وهي أنّ هذا غير معقول؛ لأنّ الأمر الضمني ليس له وجود في عالم الجعل بنحوٍ مستقل، وإنّما له وجود تحليلي، هو يأمر بالصلاة وهذا هو الموجود في عالم الجعل، وفي عالم التحليل نحن نحلله إلى أوامر ضمنية بعدد الأجزاء ومنها الأمر بالقراءة الجهرية أو القراءة الإخفاتية، فليس له وجود في عالم الجعل بنحو مستقل بحيث يكون له قيد مستقل في قبال الأمور الأخرى، هذا من شأن الوجود المستقل في عالم الجعل؛ حينئذٍ يُعقل أن يكون له قيد مستقل، أمّا هذا الأمر الضمني، فليس له وجود مستقل، الوجود المستقل هو الأمر بالصلاة، أمّا الأوامر الضمنية فليس لها وجود مستقل حتى يكون لها قيد مستقل، فهي لا تقبل أن تقيّد قيداً مستقلاً عن سائر الأوامر الضمنية، في عالم الجعل الذي هو عالم التقييد إمّا أن يكون القيد راجعاً للأمر الاستقلالي الذي له وجود مستقل، وإمّا أن يكون راجعاً إليه، أمّا أن يكون راجعاً إلى الأمر الضمني وحده من دون سائر الأوامر الضمنية، هذا لا يكون معقولاً باعتبار أنّ عالم التقييد هو عالم الجعل وفي عالم الجعل الأمر الضمني ليس له وجود مستقل، وإنّما هو وجود تحليلي، فكيف يكون له قيد مستقل من دون أن يرجع القيد إلى سائر الأوامر الضمنية التي يشتمل عليها الأمر بالمركب المستقل، فإذاً: لا يمكن تصور رجوع القيد والشرط إلى خصوص الأمر الضمني حتى نتعقل وقوع الترتب في الأوامر الضمنية؛ لأنّ الترتب يُعتبر فيه أن يكون الشرط شرطاً للوجوب وليس شرطاً للواجب، يعني الأمر الضمني مشروط بهذا الشرط، وهذا لا يُعقل في الأوامر الضمنية؛ لأنّ الأوامر الضمنية لا وجود لها مستقل في عالم الجعل، فهي لا تقبل القيد المستقل، أي أن تقيّد بقيد من دون سائر الأوامر الضمنية الأخرى؛ بل القيد إمّا أن يرجع إلى نفس الأمر الاستقلالي الموجود في عالم الجعل، وإمّا أن لا يرجع إليه.
بناءً على هذا الكلام؛ حينئذٍ يقال: أنّ الترتب لا يُتصوّر في الأوامر الضمنية، وإنّما يُتصوّر بين الأوامر الاستقلالية، فنرجع إلى ما تقدّم سابقاً من أنّه في الأوامر الاستقلالية الترتب يكون معقولاً؛ لأنّه إذا لاحظنا الأوامر الاستقلالية الضدان هما عبارة عن الصلاة الجهرية والصلاة الإخفاتية، وهما من الضدين اللذين لهما ثالث، فيؤمر بالصلاة الإخفاتية على تقدير ترك الصلاة الجهرية، وترك الصلاة الجهرية ليس ملازماً للصلاة الإخفاتية، فلا يلزم من طلبه طلب الحاصل حتى نقول أنّ هذا يخرج عن باب الترتب ولا يكون صغرى لكبرى الترتب؛ بل يمكن أن يكون صغرى لكبرى الترتب في محل الكلام. وبناءً على هذا يتبيّن أنّ هذا الجواب ليس وارداً على الوجه الثاني.
الجواب الثالث: ما ذُكر في (مصباح الأصول) نقلاً عن السيد الخوئي(قدّس سرّه) من أنّ لازم وقوع الترتب في محل الكلام هو الالتزام بتعدد العقاب عند ترك الصلاة رأساً، باعتبار وجود أمرين؛ لأنّه مأمور بالقصر وقد تركه وعصاه ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ فأُمر بالتمام وقد عصاه أيضاً ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ فتعدد الأمر يقتضي تعدد العقاب، وهذا مما لا يمكن الالتزام به، أنّ الذي لا يصلي في السفر لا تماماً ولا قصراً يستحق عقابين؛ لأنّه إذا التزمنا بتعدد العقاب سوف يكون المسافر الجاهل بوجوب القصر أسوء حالاً من المسافر العالم بوجوب القصر إذا ترك الصلاة؛ لأنّه لا يعاقب إلاّ بعقابٍ واحد؛ لأنّه لم يخالف إلا أمراً واحداً، بينما الجاهل بوجوب القصر إذا ترك الصلاة يُعاقب بعقابين، فسوف يكون أسوء حالاً من العالم، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.[3]
هذا الجواب منقوض بمسألة المكلف الذي يترك الصلاة ونفترض أنّه كان واجداً للماء في أول الوقت، ثم فقد الماء بعد ذلك في آخر الوقت، هذا أيضاً يؤمر بأمرين، عندما كان واجداً للماء يؤمر بالصلاة مع الطهارة المائية، وعندما فقد الماء واضطر أُمر بالصلاة مع الطهارة الترابية، وخالفهما معاً، فهل يُلتزم في المقام بتعدد العقاب ؟ باعتبار أنّ الميزان في تعدد العقاب هو تعدد التكليف، فكلما توجّه إلى المكلف تكليفان ولو على نحو الطولية، فأنّه يكون مستحقاً لأكثر من عقاب باعتبار تعدد التكليف. هذا تقريباً يكون مما نحن فيه. المكلف أُمر بالصلاة مع الطهارة المائية، فخالف ولم يأتِ بها، ثمّ بعد ذلك فقد الماء، فتوجّه إليه الخطاب بالصلاة مع الطهارة الترابية، فخالف وترك الصلاة رأساً، فينبغي أن يعاقب بعقابين.
حل هذه القضية هو أنّه ليس الميزان في تعدد العقاب هو تعدد التكليف بما هو تكليف، ولو كان تعدد التكليف إنّما هو يشير إلى ملاكٍ واحد وغرضٍ واحد ملزم، كلا وإنّما الميزان هو تفويت الغرض الملزم، كلّما تعدد تفويت الغرض اللّزومي يتعدد العقاب، فإذا فرضنا أنّ تكليفين كانا يمثّلان غرضاً لزومياً واحداً، بمعنى أنّ الأمر الترتبي إنّما يؤمر به المكلف لغرض إدراك شيءٍ من مصلحة الواقع، يؤمر به لإدراك جزءٍ من الغرض الذي لأجله يؤمر المكلف بالصلاة قصراً، فيقال: إن فاتتك الصلاة قصراً، فيجب عليك أن تأتي بالصلاة تماماً؛ لأنّ الصلاة تماماً تدرك جزءً من المصلحة، فإذاً: هناك مصلحة واحدة وهناك ملاك واحد وغرض لزومي واحد، وهذا عندما يكون واحداً فالعقاب على تفويته يكون واحداً، وإن كان هناك تكليفان طوليان ترتب أحدهما على ترك الآخر، لكن بالنتيجة المكلف التارك للصلاة هو في الحقيقة فوّت على نفسه غرضاً لزومياً واحداً، فلا يستحق أكثر من عقابٍ واحدٍ. ونفس الكلام يقال في المثال الذي ذُكر، وهو أنّ هناك غرضاً واحداً والمكلف التارك للصلاة قد فوّت على المولى غرضاً لزومياً واحداً، فلا يستحق إلاّ عقاباً واحداً. ليس المناط في تعدد العقاب هو تعدد التكليف بعنوانه، ولو كان تعدده لا يشير إلى تعدد الأغراض اللّزومية والملاكات الملزمة، إذا كان لا يشير إلى ذلك ولا يعني ذلك لا يتعدد العقاب؛ بل يكون هناك عقاب واحد فلا يلزم من تطبيق فكرة الترتب في محل الكلام تعدد العقاب في هذا الفرض الذي ذكره.






[1].أجود التقريرات، تقرير بحث المحقق النائيني للسيد الخوئي، ج 1، ص 311.
[2].فوائد الأصول، تقرير بحث المحقق النائيني للشيخ الكاظمي الخراساني، ج 1، ص 372.
[3].مصباح الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد محمد الواعظ الحسيني، ج 2، ص 508.