الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/04/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية

في الدرس السابق تعرّضنا إلى ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) من أن المنجز للواقع إذا كان هو العلم الإجمالي، فهو ينجّز الواقع مطلقاً ومقتضى ذلك هو استحقاق العقاب على مخالفة الواقع المنجز بالعلم الإجمالي، سواء أمكن الوصول إليه أو لم يمكن الوصول إليه، سواء كان هناك طريق موصل إلى الواقع، أو يكن هناك طريق إلى الواقع، فيستحق العقاب على مخالفة الواقع مطلقاً، سواء كان هناك إمارة لو فحص عنها لعثر عليها ولأوصلته للواقع، أو لم يكن.

وقلنا في الدرس السابق بأنّ هذا لا يستقيم حتى على ما ذهب إليه المحقق النائيني(قدّس سرّه) نفسه من انحلال هذا العلم الإجمالي إلى علم إجمالي آخر يتحدد بحدود ما في أيدينا من الإمارات والطرق الموجودة في الكتب. من الواضح أنّه بعد الانحلال لا يثبت التنجيز للعلم الإجمالي المنحل، وإنّما يثبت للعلم الإجمالي الثاني، فالعلم الإجمالي الثاني يكون منجزاً، لكن يكون منجزاً لمعلومه الذي هو عبارة عن التكاليف الواقعية الإلزامية التي تكون مدلولة لواحدة من الإمارات الموجودة في الكتب، أمّا التكاليف الواقعية التي هي ليست مدلولة لأحد هذه الإمارات الواصلة إلينا والموجودة بأيدينا، فلا ينجزها العلم الإجمالي؛ حينئذٍ نقول المفروض في محل الكلام عدم وجود إمارة وعدم تمكن المكلف من الوصول إلى الواقع، فإذاً: التكليف الواقعي الذي يحتمله المكلف والذي فرضنا أنّه خالفه بتركه للفحص هو تكليف ليس له منجز؛ لأنّه ليس مدلولاً لأحدى الإمارات الموجودة؛ فحينئذٍ كيف نقول أنّه يستحق العقاب على مخالفة الواقع والحال أنّ الواقع في محل الكلام ليس منجزاً ؟!

إذاً: لابدّ من التفصيل بين صورة وجود إمارة في ما بأيدينا من الكتب لو فحص المكلف لعثر عليها، ولكنه لم يفحص، فخالف التكليف الواقعي المدلول لأحدى الإمارات، هنا يستحق العقاب على مخالفة الواقع، وبين فرض عدم وجود إمارة وطريق في ما بأيدينا من الإمارات، والمكلّف ترك الفحص وخالف الواقع هنا لا يكون معاقباً على ترك الواقع.

قلنا في ما تقدّم أنه يمكن أن يقال: أنّ التنجيز ثابت حتى مع افتراض انحلال العلم الإجمالي، بمعنى أن نبرز منجزاً للواقع غير العلم الإجمالي. إذا قلنا أنّ الواقع الذي هو ليس مدلولاً لأحدى الإمارات الواصلة إلينا، إذا قلنا أنّ هذا التكليف الواقعي أيضاً له منجز؛ فحينئذٍ تصح النتيجة التي ذكرها المحقق النائيني(قدّس سرّه) وهي أنّ المكلف يستحق العقاب على مخالفة الواقع مطلقاً، سواء كانت هنا إمارة موصلة إلى الواقع، أو لم تكن هناك إمارة موصلة إليه؛ لأنّ التكليف له منجز بقطع النظر عن العلم الإجمالي، صحيح أنّ العلم الإجمالي أنحل فلا ينجز التكليف الذي لا يكون مدلولاً لإمارة، لكن إذا كان هناك منجز آخر فلا مشكلة في أنّه يتنجز على المكلّف، ويستحق المكلّف العقاب على مخالفته لو خالفه. وهذا المنجز هو حكم العقل بمنجزية احتمال التكليف قبل الفحص في الشبهات الحكمية؛ إذ العقل يقول أنّ احتمال التكليف قبل الفحص بالنسبة إلى تكاليف مولىً جرت عادته وديدنه على جعل تكاليفه في موضع خاص، أي في معرض الوصول لا إيصالها إلى كل مكلفٍ، وبالنتيجة هذه تكاليف مولوية الشارع يريد من المكلف امتثالها ويعاقبه على ترك امتثالها والمكلّف لا يمكنه الوصول إليها إلاّ بالفحص في مثل هذه الحالة العقل يحكم بلزوم الفحص وعدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص، هذا يكون منجزاً للتكليف حتى بعد انحلال العلم الإجمالي وفرض عدم تنجيزه، لكن هذا الحكم العقلي يمكن أن يكون منجزاً لهذا التكليف.

المقصود في محل الكلام هو: أنّ المكلف أقدم على الشبهة من دون فحص ومن دون مؤمّن عقلي أو شرعي يسوّغ له الإقدام على مثل هذه الشبهة، وفُرض في المسألة أنه يحتمل وجود طريق يوصله إلى التكليف الواقعي. نعم، نحن في الواقع افترضنا عدم وجود طريق، لكنّ المكلف يحتمل وجود طريق، وفُرض أيضاً أنّه خالف الحكم الواقعي، العقل يرى أنّه ليس معذوراً في إقدامه على الشبهة مع هذه الأمور، من باب الصدفة ظهر أنّ هذا الحكم الواقعي الذي خالفه ليس عليه طريق في الواقع وليس مدلولاً لإمارة؛ بل أنّ العقل يرى أنّ عقابه ليس قبيحاً؛ بل هو في محله، ومن هنا هذا الحكم العقلي يكون مقيّداً ومانعاً من إجراء البراءة العقلية قبل الفحص؛ ولذا أدلة البراءة العقلية لا تشمل حالة قبل الفحص. وأمّا البراءة الشرعية، فقد تقدّم سابقاً أنّ مثل هذا الحكم العقلي ليس بإمكانه تقييد أدلة البراءة الشرعية لما قلناه سابقاً من الأحكام العقلية أحكام تعليقية دائماً، هي معلّقة على عدم ورود ترخيص من قِبل الشارع، فإذا فرضنا أنّ دليل البراءة الشرعية كان مطلقاً في حدّ نفسه يشمل ما بعد الفحص وما قبل الفحص، نفس هذا الإطلاق يُعتبر ترخيصاً من قِبل الشارع في ارتكاب الشبهة قبل الفحص؛ وحينئذٍ لا يحكم العقل بعدم الجواز بالرغم من ترخيص الشارع؛ لأنّ ترخيص الشارع حينئذٍ يكون رافعاً لموضوع الحكم العقلي بمنجزية الاحتمال واستحقاق العقاب على المخالفة وعدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص. هذا الحكم العقلي بمنجزية الاحتمال وعدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص لا يُقيّد أدلة البراءة الشرعية؛ حينئذٍ عندما نلتزم بعدم جريان البراءة الشرعية قبل الفحص لابدّ أن نرجع إلى أحد الوجوه المتقدّمة التي تمنع من إجراء البراءة الشرعية قبل الفحص الداخلة في باب قصور المقتضي ـــــ على ما تقدّم ــــــ أو الداخلة في الوجوه التي ذُكرت لوجود المانع، الوجوه المتقدّمة تمّ بعضها لإثبات قصور المقتضي، بالنتيجة المكلف قبل الفحص لا يوجد عنده مؤمّن لا عقلي؛ لعدم جريان البراءة العقلية بناءً على الحكم العقل الذي يحكم بمنجزية الاحتمال قبل الفحص، ولا مؤمّن شرعي؛ لعدم جريان البراءة الشرعية قبل الفحص، ليس من جهة الحكم العقلي، فأنّه لا يستطيع أن يمنع إطلاق دليل البراءة، وإنّما لمانعٍ من الموانع أو الوجوه المتقدّمة التي تقتضي قصوراً في أدلة البراءة عن الشمول لحالة ما قبل الفحص. بالنتيجة يكون إقدامه بلا مؤمّنٍ لا عقلاً ولا شرعاً، وبالنتيجة، هذا التكليف الواقعي وإن لم تكن هناك إمارة موصلة إليه في الواقع، لكنّه يكون منجزاً على المكلف وإقدام المكلف على هذه الشبهة بالظروف التي ذكرناها بنظر العقل لا يعتبر سائغاً، ولا يرى أنّ عقاب مثل هذا المكلف لو خالف الواقع عقاباً قبيحاً؛ بل يرى أنّه عقاب في محله، فهو يستحق العقاب والمؤاخذة، لا من جهة العلم الإجمالي؛ لأننا فرضنا انحلاله. هذا بالنسبة إلى ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) في هذا المقطع.

ثمّ ذكر بعد ذلك: مسألة لو كان المنجز للأحكام الواقعية منحصراً بأدلة وجوب الفحص والتعلّم، قال: هنا يمكن القول بأنّ استحقاق العقاب يكون مختصاً بوجود إمارة في الواقع موصلة إلى الواقع، وأمّا في صورة عدم وجود مثل هذه الإمارة وعدم تمكّن المكلف من الوصول إلى الواقع، يقال بعدم استحقاق العقاب الذي هو القول الثاني. يمكن التفصيل بين الصورتين بالالتزام بعدم استحقاق العقاب على مخالفة الواقع مطلقاً، وإنّما يستحق العقاب على مخالفة الواقع إذا كانت هناك إمارة موصلة إلى الواقع، وإلا فلا يستحق العقاب. [1]

يمكن الالتزام بهذا المطلب الذي ذكره، لكن لماذا يُلتزم بهذا التفصيل لو استندنا في إثبات التنجيز ووجوب الفحص إلى أخبار التعلّم ؟ السيد الخوئي(قدّس سرّه) يذكر تعليلاً لذلك، وهناك تعليل آخر للقول بأنّ وجوب الفحص لو كان هو المستند في التنجيز سوف ننتهي إلى نتيجة التفصيل لا الإطلاق في استحقاق العقاب على مخالفة الواقع. السيد الخوئي(قدّس سرّه) يذكر هذا التعليل،[2] يقول: باعتبار أنّ المفروض في محل الكلام عدم إمكان التعلّم وعدم إمكان تحصيل العلم؛ لعدم وجود طريق واقعاً يوصله إلى الواقع، وفي حالة عدم إمكان تحصيل العلم في الواقع ــــــ الذي هو فرض المسألة ــــــ لا معنى لإيجاب التعلم، ومن هنا قال أنّ فرض المسألة غير مشمول لأدلة وجوب التعلم، فإذا كان المنجز للتكليف هو هذه الأخبار؛ فحينئذٍ تختص هذه الأخبار بغير فرض المسألة، هي تنجّز الواقع حيث يمكن للمكلف أن يعلم بالواقع، أمّا حيث لا يمكنه العلم بالواقع والوصول إليه، فلا تشمله هذه الأخبار، إذاً: هي لا تنجز الواقع في محل الكلام، وبالتالي لا يمكن أن يكون المكلّف مستحقاً للعقاب على مخالفة الواقع في محل الكلام، وإنّما يستحق العقاب على مخالفة الواقع حيث يمكنه معرفة الواقع والوصول إليه.

لكن، عدم شمول أخبار التعلم لفرض الكلام بالنكتة التي ذكرها ليس واضحاً؛ وذلك لأنّ الأخبار التي استدل بها على وجوب الفحص والتعلم، حتى وإن كان العنوان المأخوذ في بعضها والذي أُمر به هو التعلّم وفي بعضها السؤال، لكن قد يقال أنّ المراد من هذه الأخبار كلّها حتى ما ورد بعنوان التعلّم، هو وجوب الفحص والسؤال والتعلّم بنكتة اشرنا إليها سابقاً وهي نكتة عدم معذورية الجاهل قبل الفحص، مفاد هذه الأخبار هو أنّ الجاهل قبل الفحص في الشبهات الحكمية ليس معذوراً إذا خالف الواقع، ومعنى أنّه ليس معذوراً إذا خالف الواقع هو أنّه يستحق العقاب على مخالفة الواقع، نحن لابدّ أن نرى أنّ مفاد هذه الأخبار هل يختص بصورة إمكان وصول المكلف إلى التكليف الواقعي واقعاً وفي نفس الأمر وليس بنظره هو ؟ يعني بصورة افتراض وجود إمارة لو فحص عنها لوصل إليها، وبالتالي يصل إلى الواقع ؟ هل يختص مفاد هذه الأخبار بهذا الفرض ولا يشمل محل الكلام، أو أنّه شامل لمحل الكلام ؟

أقول: اختصاصها بغير محل الكلام ليس واضحاً، خلافاً لما ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه).

على كل حال: نحن نريد أن نقول بأنّ ما ذكره صحيح، بمعنى أنّه لو كان المستند في تنجيز الواقع هي أخبار التعلم وأخبار وجوب الفحص النتيجة هي ما ذكره من التفصيل ولا نلتزم باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع مطلقاً، وإنّما نُفصّل، في محل الكلام لا يستحق العقاب على مخالفة الواقع لوكان المستند هو أخبار التعلم؛ وذلك بناءً على أنّ وجوب التعلّم وجوب طريقي كما بنا عليه هو(قدّس سرّه)؛ حينئذٍ تقدّم أنّ أخبار التعلم على تقدير أن يكون وجوبها وجوباً طريقياً فهي لا تنجّز الواقع مباشرة، وإنّما تنجّزه بتوسط الطريق؛ لأنّ مفادها هو تعلّم الطرق والإمارات والفحص عن الطرق والإمارات الموصلة إلى الواقع، فيكون مفادها هو وجوب الفحص عن الطرق الإمارات ولزوم الاحتياط بلحاظها؛ ولذا لو فرضنا أنّ المكلّف علِم بعدم وجود إمارة، خلافاً لفرضنا الذي هو أنّه لا يعلم، وإن كان في الواقع هكذا، لكن لو علم المكلّف بعدم وجود إمارة تدل على التكليف؛ حينئذٍ لا يجب عليه الفحص؛ لأنّ هذه الأخبار توجب عليه أن يفحص ويفتش عن إمارة موصلة إلى الواقع، ففي حالة العلم بعدم وجود إمارة أو طريق يسقط وجوب الفحص، فإذا فرضنا عدم وجود إمارة في البين مطلقاً؛ فحينئذٍ يمكن أن يقال أنّ هذه الأخبار لا تشمل هذه الصورة، أي صورة عدم وجود إمارة. من هذه الجهة يمكن أن يقال أنّ هذه الأخبار لا تشمل محل الكلام، وإنّما تشمل صورة وجود إمارة موصلة إلى الواقع، فمن هنا يصح كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) بناءً على هذا الكلام الذي ذكره.

خلاصة هذا الحديث: الذي يتبيّن مما تقدّم هو أنّه إن قلنا أنّ المنجز للتكاليف الواقعية هو العلم الإجمالي، فقد تبيّن مما تقدّم أنّ هذا العلم الإجمالي منحلٌ إلى علمٍ إجمالي آخر فيما بأيدينا من الإمارات والطرق الموجودة في الكتب، وأنّ هذا الانحلال يمنع من الالتزام باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع مطلقاً، وإنّما لابدّ من الالتزام بالتفصيل. وإن قلنا بأنّ المنجّز هو أخبار التعلم وأخبار الفحص، فهي أيضاً تقتضي الالتزام بالتفصيل، بأن نفصّل بين محل الكلام وبين صورة إمكان الوصول إلى الواقع وفرض وجود إمارة وطريق يوصل إلى الواقع، فأخبار التعلّم تنجز الواقع في ذلك المورد؛ لأنّها تأمر بالفحص عن الإمارة، وهذا يختص بصورة وجود إمارة، أمّا إذا لم يكن في البين إمارة، فلا معنى لشمول مثل هذه الأخبار لمثل هذه الحالة، فلابدّ من الالتزام بالتفصيل أيضاً. وأمّا إذا قلنا أنّ المنجّز للواقع هو حكم العقل الذي تقدّم الإشارة إليه؛ حينئذٍ يُلتزم باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع مطلقاً؛ لأنّه بإمكانه أن ينجّز التكاليف حتى خارج دائرة العلم الإجمالي المنجّز، بإمكانه أن ينجّز كل تكليف واقعي محتمل؛ لأنّه يقول أنّ احتمال التكليف قبل الفحص منجز، يعني هو يعتبر أنّ هذا بيان؛ ولذا قلنا أنّه يمنع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فهو يوجب تنجيز الواقع على المكلف، ويوجب استحقاق العقاب على مخالفته من دون فرقٍ بين أن تكون هناك إمارة موصلة إلى الواقع، أو لا؛ لأنّه لا ينجز الواقع من خلال الإمارة كما في أخبار التعلم، وإنّما احتمال التكليف منجّز قبل الفحص في الشبهات الحكمية.

 


[1] فوائد الأصول، تقرير بحث الميرزا النائيني للشيخ الكاظمي الخراساني، ج4، ص289.
[2] مصباح الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد محمد الواعظ الحسيني، ج2، ص503.